سلعةُ الله غالية
صالح مقبل فارع
تأملوا معي قوله تعالى في آخر آية من سورة الفتح.. (مُحَمَّدٌ والَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيْمَاهُمْ فِي وُجُوهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ، ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ، وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْئَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ).
يعني الباري عز وجل وصف الصحابة الذين مع رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وصفًا عظيمًا، وعدَّد لهم مناقبَ كثيرةً وذكر فيهم صفاتٍ يتمنَّى المرءُ منَّا بأن تكون فيه، فقد وصفهم -جل وعلا- بأنهم:
– مجاهدون ومقاتلون مع رسول الله وفي الصفوف الأولى.
– أَشِدَّاءُ على الكفار.
– رُحماءُ بينهم.
– مُلتزمون بأداء الصلاة لا يُفَرِّطُون فيها ولا يقطعون أي فرض.
– رُكَّعاً.
– سُجَّدًا.
– سيماهُم في وجوههم من أثر السجود.
– يغيظون الكفار.
– يبتغون فضل الله ورضوانَه.
يعني صفات فوق الخيال، فالأوصاف السابقة الضخمة يتمنى أي شخص مِنّا أنها فيه..
ولكن.. وآح من لكن وما بعد لكن..
لكن..
هل الأوصاف السابقة ستكفيهم لدخول الجنة؟
هل ستؤهلهم لدخول الجنة؟
هل الله وعدهم بالجنة؟
هل الله وعد الذين مع محمد والذين مدحهم في الآية هل وعدهم كلهم بأنهم سيدخلون الجنة؟
هل من اتصف بتلك الصفات وعده الله بالجنة؟
لتعرفوا الجواب.. تابعوا معي بقية الآية:
قال تعالى في بقية الآية: (وَعَدَ اللهُ الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مَنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيْماً).
يعني: أن الله وعد المؤمنين والعاملين الصالحات منهم، وتأملوا لكلمة (منهم) أي: من الصحابة، أَو من الأشخاص الذين يتَّصفون بتلك الصفات السابقة، من الأشخاص الذين مدحهم الله سابقًا.. من الأشخاص المجاهدين، والأشداء على الكفار، والرحماء بينهم، والرُّكَّع، والساجدين..
وبتوضيح أكثر أقول لكم: الصفات السابقة والمذكورة في أول الآية نسفها الباري عز وجل في آخر سطر.. قائلاً بأنها لن تدخلهم الجنة إلا إذَا كانوا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات..
وعَدَ الله منهم.. ولم يقل وعَدهم الله كلهم بالمغفرة.. بل وعد الله منهم.. فكلهم لن يدخلوا الجنة، ولكن بعضهم فقط..
فالإيمان خطير.. والجَنَّة غالية.. فهي سلعة الله، وليس لها ثمن إلا الإيمان والعمل الصالح..
بمعنى: وكأنَّ الباري يقول مادحاً فيهم.. أنتم مجاهدون، مع رسول الله وأصحابه، وأشداء على الكفار، ورحماء بينكم، ومصلون، وأعمالكم ضخمة جِـدًّا جدا.. لكن إذَا مدحتكم ليس معناه أنكم ستدخلون الجنة!!، لا.. لا.. فالجنة تريد -بالإضافة إلى ما سبق- تريد منكم أن تؤمنوا وتعملوا الصالحات.. فهي غالية، وهذه الصفات لوحدها وهذا المدح لن يدخلكم الجنة..
فهمتوا يا حبايبي..
هذا الكلام خاطب الله به الصحابة وكل من كان مع الرسول..
فكيف بحالنا نحن..؟!!.
نحن التائهون، الضائعون في الملذات..
الجهاد وحده لا يكفي.. والذي يعتقد أنه يكفي فهو مخطئ ومؤشر خطير لعدم فهم القرآن.
بل هو مؤشر خطير انزلق فيه أكثرنا..
فبعض أصحابنا ركنوا على الجهاد، والقتال ضد الأعداء، وكأنهم ضمنوا مفاتيح الجنة باقتحاماتهم تلك وقتالهم ذلك..
فالبعض من زملائي وللأسف يعتقد بأن الجهاد وحده كافٍ لدخول الإنسان الجنة، وأن صولاته وجولاته لوحدها ستشفع له يوم القيامة وستدخله الجنة.. مستشهدًا بقوله تعالى: (يُقَاتِلُونَ فِيْ سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ).. لا، لا يا حَبّوب.. صحيح أن الجهاد مرتبة عظيمة، ولكن بجانب ما عملته من جهاد وبجانب قتالك واستبسالك لا بُـدَّ أن تؤمن بالله وتعمل الصالحات.. والعمل الصالح هو التواضع والنزاهة والصدق والوضوح والعدل وعدم الكبر والنخطة ومراقبة الضمير والعمل في منصبك كمسئول، وجعل المنصب غُرم وليس غُنم، وتفعيل الرقابة الذاتية، والرقابة الإلهية، وَ… وَ… إلخ..
هي جَنَّة.. اعقله.. وامسك دومان.
بل إن بعضهم مسك مناصب ونسي الإيمان والعمل الصالح، خلاص قد هو من أنصار الله يعني يفعل ما اشتى.. قد جاهد يعمل بعدها ما اشتى.. (اعملوا يا أهل بدر ما شئتم فَـإنَّ الله قد غفر لكم).. (ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم)
لا يا حبيبي.. الأحاديث السابقة مكذوبة لا تركن عليها.. وجهادك لوحده “مَشُّو” مخليك ولا حتى تشمّ الجنة شمم وأنت أخلاقك زفت وفسادك واضح ولسانك طويل، وعملك مهمل له، وجيرانك يشكون منك، ووالديك زعلانين منك..
لا بد من مراجعة نفسك ومراجعة عقيدتك بالله، ومراجعة الآيات القرآنية الواضحة التي تُبَيِّن لك بأن الجنة تشتي أعمال متكاملة من جميع الجوانب، كما في الآية السابقة.
الجنة تشتي جهاد، وتشتي إيمان، وتشتي عمل صالح، وتشتي تطبيق القرآن كله من الغلاف إلى الغلاف.
ولذلك بعض القتلى لا يسمى شهيدًا إذا كان قتاله دون إيمان ودون عمل صالح حتى ولو قاتل في صف الحق وتحت راية النبي، وحتى ولو قتلَه شارون أَو ترامب أَو نتنياهو، فقتله لن يشفع له إذَا كانت صفحته سوداء، أَو كان قتاله لغرض دنيوي، وما قوله تعالى: (بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُوْنَ) إلا لمن قُتِلَ وهو مؤمنٌ وكان عملُه الماضي صالحا.
فانتبه من الغرور واعمل بتوجيهات الباري كلها، ولا تنخط فوقنا بأنك قاتلت في عسير أَو صِفِّين أَو الخندق، واقتحمت موقع الشرفة وطلَّيت على نجران، فهذا لن يعفيك عن مساءلة الباري لك عن بقية الأحكام وما شرعه الإسلام، وهذا لن يشفع لك عند الباري بدخول الجنة وأنت بدون إيمان ولا عمل صالح..
وإذا نصحناك كن اقبل النصيحة، مش تقل إحنا مش مُسَلِّمِين، فالتسليم شيء والنصيحة شيء آخر.