“قدس2” والواقع الجديد: صنعاء تنفرد بفرض معادلات الحرب وشروط السلام
الضربة فضحت “قلة حيلة” النظام السعودي ورعاته الدوليين
المسيرة | تقرير خاص
جاءت ردودُ أفعال النظام السعودي ورُعاتِه حيالَ ضربة صاروخ “قدس 2” المجنَّح على محطة توزيع جدة، مؤكِّـدةً على نوعيةِ الضربةِ وتأثيرها الكبير على مسار المواجهة من حَيثُ إرباك حسابات العدوّ والتأكيد حقيقة فقدانه لخيارات مواجهة أَو مواكبة المعادلات التي تفرضها صنعاء بشكل متجدد على الصعيد العسكري، وهو ما ينسحبُ على الصعيد السياسي أَيْـضاً، فالإنجازات الميدانية تمنح صنعاء المزيد من أوراق الضغط الفاعلة التي تؤدي تدريجيًّا إلى فرض واقع جديد لا يجد العدوّ مجالاً للهروب منه.
في اعترافه بنجاح عملية استهداف محطة توزيع المنتجات البترولية في جدة، لجأ النظامُ السعودي على لسان ناطق ما يسمى “التحالف”، إلى “الاستغاثة” بالعالَم من خلال محاولة “تدويل” أثر الضربة؛ باعتبَار أن الصاروخَ اليمني المجنح استهدف “عصبَ الاقتصاد العالمي وأمن الطاقة العالمية”، وهي لهجة باتت تتكرّر كَثيراً مع كُـلّ ضربة تستهدف المنشآت الاقتصادية السعودية، لتمثل في الحقيقة اعترافًا رسميًّا بعجز النظام السعودي عن التعامل مع هذا النوع من الضربات النوعية.
تمسك النظام السعودي بلهجة “الاستغاثة” هذه بشكل متكرّر، كخيار وحيد، بعد سنوات من اتِّباع سياسة “الإنكار” يعني أن القوات المسلحة اليمنية قد فرضت بالفعل واقعًا جديدًا وبعمق كافٍ لدرجة أنه انعكس بشكل ثابت على الخطاب السعودي الرسمي الذي ظل لفترة طويلة يعتبر أن الاعتراف بوصول الصواريخ اليمنية إلى المملكة يمثل هزيمةً، لكنه بات مضطرًّا للإقرار بهذه الهزيمة مرة بعد مرة.
هذا الواقع الجديد أجبر النظام السعودي على التحول من “الإنكار” إلى “الاستغاثة”؛ لأَنَّه تجاوز توقُّعات الرياض بشأن القدرات اليمنية التي تعرضت في البدايةِ لمحاولات للتقليل، لكنها سرعانَ ما فرضت نفسَها من خلال الأثر الكبير الذي أحدثته والذي وجدت السعوديةُ نفسَها عاجزةً عن إخفائه، فحتى دعاية “الأسلحة الإيرانية” -التي ظل النظام السعودي يستخدمُها للتشويش على حقيقة عجزه عن التعامل مع الضربات- سقطت أَيْـضاً كما سقطت الكثير من الدعايات التضليلية قبلها.
أما العالم الذي تحاول الرياض الاستغاثة به لإنقاذ منشآتها الحيوية، فبرغم أنه ما زال يمنحُ الغطاءَ والدعمَ لاستمرار العدوان، إلا أن ذلك لم يعد كافيًا للرياض، كما أنه لا يستطيعُ أن يقدم لها المزيدَ، الأمر الذي يؤكّـد أَيْـضاً على ثبوت الواقع الجديد التي فرضته صنعاء، وقد جاءت ردود الفعل “الدولية” على ضربة صاروخ “قدس 2” لتوضح ذلك أولاً من حَيثُ أن هذه الردود لم تضم حتى الآن سوى الرعاة الدوليين لتحالف العدوان (بريطانيا والأمم المتحدة) وهما قد قدما كُـلُّ ما يمكنهما للرياض في حربها على اليمن، واستجابتهما لـ “استغاثتها” لم تفعل أكثرَ من فضح حقيقة ارتباطهما بالعدوان، وتناقضهما الفاضح مع دور “الوسيط” الذي يحاولان تقمصه.
هكذا ظهرت الرياض بلا منقذ، وليس بعد الهجوم فحسب، بل منذ لحظة وصول الصاروخ اليمني إلى هدفه عقبَ لقاء بن سلمان بنتنياهو وبومبيو، وهما ممثلا “الحماية” الرئيسية التي يدفع ولي العهد السعودي كُـلَّ شيء في سبيلها، ولم يعد هناك شكٌّ في أنها لا تنفع.
بمقابل كُـلِّ هذا العجز والجمود، تثبت صنعاءُ أقدامَها على الواقع الجديد والمتماسك الذي تتحكم فيه بشكل منفرد من خلال فرض المعادلات وصناعة التحولات على الصعيد العسكري بشكل أَسَاسي، ففيما تدور الرياض وحلفاؤها في حلقة مفرغة من التحَرّكات المكرّرة والمتوقعة والتي ليس فيها أي خيار جديد، تتصدر صنعاء المشهد بعمليات نوعية، كُـلٌّ منها يحمل مفاجآت خَاصَّة ويرسل رسائل جديدة كليًّا، وهي عمليات بعيدة كُـلَّ البُعد عن العشوائية أَو “الصدف”، إذ تأتي ضمن مسارات تصعيدية شاملة، تتكامل فيها الإنجازاتُ داخليا وخارجيا وبشكل مواكب لكل المتغيرات، فالملاحِظُ لطبيعة تطور تكتيكات وقدرات صنعاء الحربية يجدُ أن هذا التطورَ يشمل كُـلَّ جوانب العمل العسكري، وليس عمليات الردع العابرة للحدود فقط، أَو تصنيع الأسلحة فقط، أَو العمل البري فقط.
وفي هذا السياق، جاءت ضربة “قدس2” لا لتعبر فقط عن مرحلة جديدة من التصعيد ضد العمق السعودي، بل لتعبر عن مرحلة جديدة من تطور قدرات صنعاء العسكرية وخططها في كُـلِّ الجوانب، وهو ما تشهد به الإنجازاتُ الميدانية في الجبهات، بموازاة الردع العابر للحدود، حَيثُ تقترب قوات الجيش واللجان اليوم من مدينة مأرب من أكثرَ من جهة، بحسب تصريح رئيس الوفد الوطني، أمس الأول، وذلك بعد عمليات نوعية مدهشة شهدتها الجبهة الشرقية بشكل كامل وفي مسار تصاعدي مماثل تماماً لمسار تصاعد عمليات الردع العابرة للحدود، الأمر الذي يجعل صنعاء تقف على أرضية صلبة جِـدًّا في الميدان العسكري.
هذه الأرضية العسكرية الصلبة تتكامل بنفس الطريقة مع الأرضية السياسية لتزيدَها صلابةً، فالإنجازاتُ الميدانية والضربات النوعية تمنحُ صنعاءَ أوراقَ ضغط فاعلة جِـدًّا في المسار التفاوضي، وقد ظهر هذا، وأعلنته صنعاء، رسميًّا في إنجاز صفقة تحرير الأسرى، التي أوضح ناطقُ القوات المسلحة أن “الاقترابَ العسكري من مأرب” أسهم كَثيراً في دفع العدوِّ نحو الموافقة عليها.
والحقيقةُ أن انعكاسَ الإنجازات العسكرية لصنعاء على الجانب السياسي قد ظهر في الكثير من المناسبات أَيْـضاً، وإن كان معظمُها لم يُعلَن، لكنها استطاعت أَيْـضاً أن تتجاوز حاجز السرية لتنعكسَ على خطابِ العدوّ نفسه، إذ أجبرت الضرباتُ العسكرية النوعية الرياضَ أكثرَ من مرة على النزول عن الشجرة والحديثِ عن “السلام” وإن كان فقط لأجل المناورة، كما أظهرت الضرباتُ النوعية ضد الإمارات أثرًا مماثلاً وأكثرَ وضوحًا.
وإلى جانب ذلك، استطاعت صنعاء بإنجازاتها العسكرية أن ترسخ حقيقة استحالة انتصار العدوان وحسم المعركة لصالحه، وهي حقيقة منحت صنعاء مصداقيةً سياسيةً لدى العالم الذي لا يجد بُــــدًّا من احترام القوة، بل إن وصولَ صنعاء إلى هذه كسر العُزلة الدبلوماسية وإعادة فتح السفارة الإيرانية والحديثُ عن خطوات قادمة في هذا المجال هو انعكاسٌ واضحٌ لهذا الواقع الجديد الذي كانت الأرضيةُ العسكريةُ الصلبة أهمَّ أسباب الوصول إليه.
ووفقاً لكل ذلك، فَـإنَّ ضربةَ “قدس2” ليست مُجَـرّد عملية ردع منعزلة عن الواقع الميداني والسياسي ككل؛ لأَنَّها – مثل كُـلِّ عمليات الردع الكبرى- تأتي من رحم عملية صعود شامل نحو انتزاع السيادة وفرض المعادلات سياسيًّا وعسكريًّا ضمن مقتضى هذه السيادة، وقد كان قائدُ الثورة واضحًا في توصيفه لهذا الواقع عند حديثه عن مفهومِ “السلام الحقيقي” المرتبِط بـ”القوة” بشكل رئيسي.