الظاهرةُ الترامبية المتوحّشة إحدى علامات أزمة النظام الرأسمالي “الحُـــر”
أ. د. عبد العزيز صالح بن حبتور *
كنتُ قد كتبتُ مقالاً قبل عامَينِ تقريبًا عن ظاهرةِ دونالد ترامب، المُعبِّر الحقيقي عن صدقِ وجوهرِ النظامِ السياسي الأميركي وديمقراطيته، وقلت فيه: إنَّ الديمقراطية الغربية قد تنتخبُ يوماً ما ديكتاتوراً متوحّشاً يدمّـر بلده والبلدان الأُخرى، وتطرّقت إلى ظاهرة النازية في ألمانيا، والفاشية في إيطاليا، والعسكرتاريا الإمبراطورية في اليابان، وكُلُّ هذه البلدان ضليعةٌ في تطبيق النظام الديمقراطي الرأسمالي “الحُرِّ”، وكل تلك النُظم في تلك البلدان الثلاثة “الديمقراطية” أشعلت الحرب الكونية الثانية، ودمّـرت بلداناً ومدناً وقرى وبلدات، وخلَّفت ما يزيدُ على 50 مليونَ ضحية من العديد من البلدان حول العالم، لكن كان أكثر الضحايا البشرية من الاتّحاد السوفياتي السابق.
ولولا تضحياتُ الجيش الأحمر السوفياتي وبسالته، لكُنَّا قد عشنا القرن العشرين، وربما الواحد والعشرين، وفقَ قواعد ونظام التّمييز العُنصري العرقي والنظريات العِرقية الكاذبة التي روَّج لها غُلاة مفكري النظرية الآرية والجِنس الأصفر من نسل أبناء السماء (اليابانيين) على سبيل المثال.
لم يعد النظامُ الرأسماليُّ الاحتكاري القائمُ الآنَ على مستوى العالم في مأمنٍ من خطرِ تلك التحدياتِ الداخليةِ الخطيرة، جَـــرَّاءَ عودة الفكر الشعبوي العُنصري المنادي بتفوّق الجنس الأبيض على بقية أجناس البشر؛ ولأن هناك سياسيين انتهازيين في الغرب الرأسمالي يستطيعون حشد الغوغاء، وحتى المثقفين “المحبطين” في تلك البلدان من تجييش تلك الفئات التي تسيطر على مشاعرهم سمات الغُبن والخوف على مستقبل “هُــوِيَّاتهم” العِرقية والدينية والثقافية، وحتى فقدان وظائفهم وتأثر مستوى معيشتهم التي كسبوها مُنذ عقود من نماء مجتمعاتهم، مستخدمين فزَّاعات “المهاجرين، وذوبان العِرق الأبيض بين الأعراقِ الأُخرى، وظاهرة انتشار الدين الإسلامي الشعبي الواسع على حساب الأديانِ الأُخرى”. كُـلُّ ذلك شكَّل ظاهرةً متكرّرة تُنبئ بعودة النظم الديكتاتورية القادمة من رحم النظام الرأسمالي الحالي.
يذكر متابعو الشأن العام العالمي وأخباره التي تعكس قلق الرأي العام العالمي أجمع من تأثير تداعيات الانتخابات في الولايات المتحدة الأميركية وفي العالم أجمع، وحساسية هذه الانتخابات على وجهِ الخصوص، وكيف سيصبحُ العالمُ في ما لو لم يعترف الرئيس الحالي لأميركا، دونالد ترامب، بفوز خصمه المعارض جو بايدن، لكون أميركا اليوم ما زالت الدولة الأقوى والأعنف والأغنى في العالم.
ومن خلال تذكُّر سياساتِ أميركا العدوانية خلال العقود السبعة الماضية على مستوى العالم، فَـإنَّ شراستَها ووحشيتَها قد تتعاظمُ، فتاريخُها الأسودُ تجاهَ الشعوب والأقوام المخالفة لها هو تاريخٌ دموي تدميري، كما حدث في كُـلٍّ من: ألمانيا، فيتنام، كوريا، يوغسلافيا السابقة، أفغانستان، العراق، سوريا، ليبيا، الصومال، واليمن، فكل تلك الدول اكتوت بنارِ وحشيةِ جنود المارينز المتعجرفين.
نعودُ إلى صُلبِ موضوعنا بشأن ظاهرة الرئيس دونالد ترامب الذي من المفترَضِ أنه اعترفَ بهزيمته في الانتخابات التي جرت في 3 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، وسلَّم الرايةَ الأميركية “الحُرَّة” للرئيس المنتخب الجديد، جو بايدن، لكن لم يحدث ذلك حتى لحظة كتابة هذه الأسطر، والسببُ في ذلك يعودُ إلى تشكيك الحزب الجمهوري الأميركي والرئيس دونالد ترامب وفريقه الانتخابي في الانتخابات (غرَّد الرئيس دونالد ترامب في 26/11/2020، وقال إن الانتخابات مزورة 100%).
إنّ ذلك التشكيكَ في نزاهة الانتخابات الأميركية، والحديثَ عن حدوثِ غِشٍّ وتزويرٍ وسرقة أصوات الناخبين الذين صوَّتوا لصالح ترامب، كما يدّعي، يُقوِّضُ المصداقيةَ التي حاول منظِّرو “الديمقراطية الغربية” بناءَها لقرون خلت.
وبموجب ذلك الشك والاتّهام الصريح بسرقة الانتخابات من قِبَل فريق الحزب الديمقراطي ومرشحه نائب الرئيس الأميركي السابق جو بايدن، جُهِّز فريقٌ قانوني من المحامين المحترفين بقيادة المحامي المخضرم العجوز، رودي جولياني؛ لرفع الدعاوى والتظلمات إلى المحاكم الأميركية في طول البلاد وعرضها، على أمل أن تتغير النتيجة لصالح ترامب.
نعم، هو صراعٌ شرسٌ على السلطة، ولكن بطرق تم اعتمادُها من قبل المؤسّسين الأوائل للدولة والدستور الأميركي قبل ما يزيد على 200 عام، وهو عمر الجمهورية. هذا الصراعُ كان يُغلَّفُ بصورة “حضاريةٍ” أمام الكاميرا، مع ابتساماتٍ شاحبةٍ كاذبةٍ للاعتراف بنتيجة الحَسْمِ الانتخابي.
وفي الغالب، يتم الإعلانُ عن النتيجة في اليوم الأول أَو الثاني لأغلب الدورات الانتخابية، ليظهرَ الرئيسُ الحائزُ على النسبة المطلوبة للفوز، ويعلنَ أنه الفائرُ بأصوات الناخبين الشعبيّة والصوت الانتخابي النخبوي (المجمع الانتخابي)، وتصدح معها موسيقى الجاز والروك الصاخبتان كتتمة لمراسمِ الفوز.
وقد ظهر عددٌ من الاستثناءات المحدودة في تأخير إعلان النتائج في تاريخ الانتخابات الأميركية. وبعدها يحتفلُ أصدقاءُ أميركا بهذا “الانتصار” الانتخابي الدوري، وهم كُثْــــرٌ بطبيعة الحال؛ باعتبَار أن الغربَ الرأسمالي كُلَّه يدينُ بالولاء والحماية لهذه الدّولة القوية التي تحوّلت إلى قُطبٍ واحد بالمال والقوة والثراء، حتى في احتكار فكرة الحلم “الأميركيّ”.
لكن ما حدث في انتخابات العام 2020م، أن كُلَّ شيء قد تغير رأساً على عقب، وتحوَّلت الانتخاباتُ مُنذ بداياتها إلى كابوس ثقيل جثم على العالم برمته. ومُنذ اللحظات الأولى لبدء الحملات الانتخابية، وضع مُعظمُ الناس حول العالم أيديَهم على قلبهم، متمنّين أن تنتهيَ هذه الانتخاباتُ بسلام، من دون أن يتأثرَ العالم بنتائجها وذيولها، لكن ونحن على بُعدِ قُرابة الشهر والرئيس الحالي المهزوم يأبى أن يعترفَ بهزيمته، ولا يريدُ أن يكون متماهياً في سياق ما تم التخطيطُ له في النظام الانتخابي الأميركي المتعارف.
هذا الرئيس (الظاهرة الترامبية) لم يعترفْ بنتائج الانتخابات، ولم يحترم إرادَةَ الناخبين. وقد شكّك في العملية الانتخابية، وزعم أنها مزوَّرة، وأن المؤسّساتِ الأميركيةَ جميعَها تآمرت عليه، وسرقت الانتخاباتِ منه، ولم يعترفْ بأن منافسَه حصل على أكثر من 300 صوت انتخابي من المجمع الانتخابي، وأن الفارقَ بينهما لصالح جو بايدن تجاوز 6 ملايين صوتٍ شعبي.
وعلى العكس من كُـلِّ ذلك، فقد رفع دعاوى وتظلماتٍ تجاوزت 25 دعوى قضائيةً في المحاكم الأميركية في مُعظم ولاياتها، ولكنه صُــــــدَّ بحزم من قبل المحاكم في تلك الولايات؛ لعدم وجاهة تلك الدعاوى وصحتها.
كيف نفهم تعنُّتَ الرئيس المنتهية ولايته في عدم التسليم بالنتيجة الواضحة للانتخابات، وهو المتربع الأول على جميع الأجهزة الأمنية والاستخباراتية في أميركا؟! وهل سيقوم بمغامرة غير محسوبة بنقل أزمته الداخلية إلى الخارج؟
يجمع المراقبون على أن “ظاهرةَ” ترامب الصاخبة التي رفعت شعار “أميركا أولاً”. وبموجب ذلك الشعار، أعاد أميركا إلى سياسةِ التقوقُع الداخلي التي اعتادتها لعقودٍ من الزمن قبل الحرب الكونية الأولى، وأنّها قد تنصّلت عن مُعظمِ التزاماتها واتّفاقياتها الدولية التي أبرمتها في عقود سابقة لها، لتلتقي مُعظمُ التحليلاتِ السياسية والسيكولوجية حول هذا الموضوع بأن الرئيسَ ترامب أضرَّ كَثيراً بالتجربة الانتخابية والسياسية، ووجَّه إليها إهانةً بالغة، وأسقط كُـلَّ الاعتبارات (الأخلاقية والحضارية) التي طالما ردّدها الغرب برمته بشأن عظمة التداول السلمي للسلطة في الغرب عُمُـومًا وأميركا على وجه التحديد.
وبدلاً عن أن يقومَ الرئيسُ المنتهيةُ ولايتُه بتسليم صلاحياته تدريجيًّا للرئيس المنتخب، نجدُه يرسلُ جيوشَه من حاملات الطائرات العملاقة وطائرة “بي 52″، ويرسلُ بموازاتها وزير خارجيته جورج بومبيو، للقيام بجولة تهديديةٍ لتركيا وإيران ومحور المقاومة، ويعقد الصفقات السرية والعلنية لتشكيل حلف عدواني جديد قديم، من خلال اللقاء السري الذي جمع الإرهابي رئيس وزراء الكيان الصهيوني، بنيامين نتنياهو، وولي عهد المملكة السعودية، محمد بن سلمان، ووزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية، مايك بومبيو، سِرَّاً في شمال المملكة السعودية في منطقة نيوم، وكُلُّ الحكاية أن توضعَ المزيد من العراقيل أمام الرئيس الجديد المنتخب.
ولم يعد أحدٌ من المراقبين يستغربُ أنّ ترامب الجريحَ قد يقودُ المنطقةَ العربيةَ كُلَّها إلى حربٍ شاملةٍ هدفُها بقاءُ “إسرائيل” منتصرةً وقويةً على حساب بقية الدول الإقليمية الفاعلة.
وما الاغتيالُ الإرهابي للعالم النووي الإيراني، محسن فخري زاده، سوى استفزازٍ للجمهورية الإسلامية الإيرانية ومحاولة جَـــرِّها إلى حربٍ مُدمّـرة، وهو كذلك بمثابة إشعالِ عودِ الثقاب الأول لمعركة واسعة طاحنة في الإقليم، وربما العالم كله، يقول مُعظم المحللون العسكريون: إنها قد تكونُ الحربَ الأخيرةَ في منطقة الشّرق الأوسط.
﴿ وَفَوْقَ كُـلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾.