نضح الإناء في الذكرى الثالثة لفتنة ديسمبر.. قراءةٌ في التحولات والدلالات
عبدالوهَّـاب يحيى المحبشي
عندما بدأ الشهيدُ القائدُ مشروعَه الثقافي والفكري القرآني في ديسمبر 2001م، رمضان 1422هـ، كان علي عبدالله صالح في أفضل أحواله، من حَيثُ استتباب الأمر له وإحكام القبضة على مختلف محافظات الجمهورية، وذلك بالتحديد منذ عام 1997م.
وكان من الواضح أن الشهيدَ القائدَ كان يتحدّث أبعد من المستوى المحلي والإقليمي وأكثر عمقًا من المألوف وأوضح من كُـلّ دروس المساجد والمدارس والجامعات، ولكن في نفس الوقت كان طرحُ الشهيد القائد لا يخفي الحرص الواضح على مصلحة اليمن كيمن، وعلى تشخيص رؤية السلطة في حينه للعلاقات الخارجية وملاحظاته على تلك الرؤية، وبكلِّ حرصٍ كان يوجّه رسائلَه غير المباشرة بأن ذلك النهج في العلاقات الخارجية نهج خطر على الشعب وعلى الدولة.
في خطاب الشهيد القائد كان يظهر جليًّا حديثُه عن أن الرئيس صالح عليه أن يحذر، فأُولئك ليسوا بأوفياء، وهو يقصد الأمريكيـين، وكان يقول بأن أمريـكا متجهة لتغيير الحكام العرب، وبأن عليهم فيما تبقى أن يهتموا في توعية المجتمعات وتثقيفها تثقيفا يحفظ لها حصانتها في مواجهة التجريف الذي تشتغل عليه دول الغرب.
تحدث أَيْـضاً عن التعامل مع الوعيد الغربي والرهـاب الأمريكي بزعم مكافحة الإرهاب، وأن التعاملَ الصحيحَ معه يُفترض أن يكون بعدم الرضوخ للمطالب الأمريكية، وإلا فَـإنَّ المطالب الأمريكية لن تنتهي.
تحدّث أَيْـضاً عن أنّ ما تزعمه أمريكا من تقديمها للمساعدات للجيوش أَو للأجهزة الأمنية هو وهم وسراب، ولن تضيف لأية سلطة أَو شعب قوة حقيقية بل ستكون عاملَ اختراق.
تحدّث أَيْـضاً عن أن الجماعات التي تزعم أمريكا مطاردتها باسم مكافحة الإرهاب، هي من أنشأتها وهي من ترعاها، وهي من تقوم بنقلها من مكان إلى مكان بشكل غير مباشر لتتخذ منها ذريعةً لاجتياح الشعوب عند اللزوم، أَو لتدمير الدول متى اقتضت الحاجة، وأن المفترض أن ترفض أية دولة التدخل الأمريكي لمواجهة تلك الجماعات، وأن تلك الجماعات يمكن هزيمتُها من خلال المواطنين أنفسهم فضلاً عن الدولة بجيشها وأمنها وقضائها.
تحدّث وبكلِّ حرصٍ أن أمريكا ستحرص على إفشالِ كُـلِّ الحكام وجعل أنظمتهم تغرق في الفساد، وتثقلهم بالديون والقروض بدون أن تكون هناك أية تنمية حقيقية، وتخطط واقعهم على أَسَاس التأزيم حتى يأتي اليوم الذي تطيح بهم، بينما تكون شعوبُهم قد أصبحت تنظر إليهم على أنهم هم المشكلة وليس الأجنبي الأمريكي، وتأتي لتقدّم نفسَها كمخلص للشعوب من الحكام.
يستطيع أيُّ قارئ لأُطروحات السـيّد حسين أن يلمس أن هناك حرصا كبيرا جِـدًّا على الدولة اليمنية، شعبًا ونظامًا، وأن انتقادَه كان ينصبُّ في اتّجاه تفريط بالسيادة اليمنية، والذي كان يتجلّى بشكل أكبر وأكبر كُـلّ يوم، بالأخص منذ بداية عام 2000م بداية حكم بوش الابن.
وكان يتجلّى في طرحه الاستشعارُ العالي للمسئولية في ممارسة النقد السياسي للنظام، وقد كان يتحدّث وفق رؤية واضحة وبناءة هدفُها سدُّ الثغرات وليس اصطياد الزلات أَو نقدًا لأجل النقد، وقد أثبتت كُـلُّ الأحداث التالية صحّةَ كُـلّ عبارة قالها الشهيد القائد حسين.
عندما عرض عليه أن يهتم بجوانب تتعلق بالإعداد والتدريب لمواجهة أية عملية استهداف، لم يوافق هذه الفكرة على اعتبار أن طبيعة نشاطه طبيعة متطابقة مع الدستور والقوانين النافذة، وأن أية فكرة في هذا الاتّجاه يمكن أن تفسَّر بأنها مخالفة للدستور والقوانين النافذة.
وعلى مدار سنتين ونصف من النشاط الثقافي، كان النشاط سلميا إلى أبعد الحدود، وكانت فكرته تتمحورُ حول نشر الوعي الثقافي المنطلق من أُسُسٍ قرآنية، وكذلك رفع الشعار والدعوة إلى مقاطعة البضائع الأمريكية والإسرائـيلية، كما أنه لم يحصل أبدًا أن طرح أية أُطروحات سياسية تتعلق بضرورة تغيير النظام أَو الدعوة إلى إسقاطه.
ولكن في المقابل تعامل النظامُ مع ذلك النشاط الثقافي بطريقة متوحشة، وبالأخص بعد مرور عام على انطلاق الشـعار، وبالتحديد بعد أبريل 2003م، حَيثُ حظي ذلك النشاطُ بجماهيرية وشعبيّة عالية على مستوى البلاد رغم بساطة الإمْكَانيات، وبالأخص عندما صدقت كُـلُّ أُطروحات الشهيد القائد بعد قيام أمريكا بغزو العراق، وهو الأمر الذي تحدّث عنه طويلا على مدار أكثر من سنة وأربعة أشهر، وكذلك تلفّت أبناء اليمن بكلِّ ما في قلوبهم من غيض من العربدة الأمريكية وبكل ما في نفوسهم من عنفوان، فلم يجدوا ما يلبي مشاعرهم إلّا هذا الصوت الواعي والقوي.
قام النظام بفصل الكثير من وظائفهم وبنقل آخرين من مناطق إلى أُخرى للتنكيل بهم وبإقالة كُـلِّ من يستشعر أنهم يتحمسون لهذا الطرح والفكر، ولم يقتصر على ذلك، بل وصل إلى حَــدِّ فصل طلاب المدارس من مدارسهم ومنعهم من الدراسة، ثم وصل الأمرُ إلى الاعتقال والزج في السجون والتعذيب وتجنيد وتجييش عصابات غير نظامية بل بلطجية من أصحاب السوابق والمجرمين، لمباشرة الاعتداء على المـكبرين في مساجد الله كُـلّ جمعة وضربهم بل وطعنهم بالسكاكين، وكانت تنزف كثير من دماء المكبرين أثناء اعتقالهم، ثم توّج النظامُ كُـلَّ ذلك بشنِّ حرب ضروس جُند لها مئات الآلاف بين مقاتلين وموعظين ومؤلفين وإعلاميين ومحرضين؛ وذلك للقضاء على الفكرة وعلى المبشر بها على جميع حملتها، واستشهد الشهيدُ القائد ضاربًا أروعَ ملاحم التضحية والفداء، واستمرت حملات التوحش بكل قسوة وضراوة، بحيث كانت تمنع الجرحى عن العلاج وتزج بهم في السجون رغم جراحهم، في ظل تعتيم إعلامي لا مثيل له، والكثير مما لا يتسع المقام لذكره، حَيثُ كان الإنسان عرضة للقتل بمُجَـرّد أنه كان يحمل ملصق الشعار وخارج كُـلّ القوانين الوطنية أَو الأعراف الدولية التي تتيح حريّةَ التعبير عن الرأي، ومع ذلك فلم يتبنَّ أحد من حملة المـشـروع القرآني يوماً (كردة فعل) على ذلك الظلم فكرة أن يقولَ بضرورة إسقاط النظام، بل كان الأَسَاس الذي ينطلقون منه في مواجهة المجنزرات والطائرات هو الدفاع عن النفس، ويرون النظام وجنوده ضحايا الارتهان للتوجيهات الأمريكية لا أكثر.
وكان هناك حلفاء للنظام في الحروب على صعدة، وفي إدارة الحكم وفي السلطة بشكل عام، هؤلاء الحلفاء كانوا هم الامتداد اليمني لجماعة الإخوان المسلمين في المنطقة، منذ عام 1978م شعر هؤلاء وللمرة الأولى أنهم أقربُ ما يكونون من إدارة الدولة، فقد أُنيطت بهم جميعُ المهام التربوية والتثقيفية، ورُصدت لهم الموازنات لإدارة المساجد والمعاهد والمدارس والجامعات، ثم تغلغلوا في القوات المسلحة وفي الأجهزة الأمنية والمخابرات حتى أصبحوا ألصق بالنظام من ظلِّه، وفي كُـلِّ دول الوطن العربي تقريبًا كان المنتمي لجماعة الإخوان ضحية لأجهزة المخابرات وأقبية التعذيب إلّا في اليمن، فقد كان المنتمي لجماعة الإخوان هو من يمارس ذلك التعذيب داخل أجهزة المخابرات في وجه خصومه المفترضين.
وطيلة 33 سنة من 1978م إلى 2011م، لم يكن النظام يضطهد الإخوان أَو يمسُّ شعرة منهم، بل كان قدحهم هو المعلَّى أينما تواجدوا.
عندما بدأت مظاهراتُ الربيع العربي من تونس كان من الطبيعي أن يثور الإخوان ضد الأنظمة في كُـلّ الوطن العربي، أما في اليمن فقد كان وضع الإخوان داخل السلطة الحاكمة أقوى من الجناح الآخر -إن وُجِد- داخل السلطة نفسها، فكان مستغرباً أن يثور الإخوانُ تحت نظام هو في أيديهم أَو يكاد، ولكنهم نزلوا إلى الميادين؛ لأَنَّ هناك ثوارًا حقيقيين يخوضون غمار الثورة الحقيقية ضد الهيـمنة الغربية، وبالتالي ضد وكلائها في اليمن؛ ولذلك فقد نزل الإخوان ليحجزوا الثورة أَيْـضاً بعد أن قاموا بحجز النظام.
كان الرئيس في حينه علي عبدالله صالح يستغرب لخروجهم ضده بينما هو الذي مكّنهم من كُـلِّ شيء، وكان من الطبيعي أن يستغربَ ذلك؛ ولذلك فقد ظهر له في الوقت الضائع إلى أيِّ مدى كانوا متغلغلين في الحكم إلى درجة اختراق الدائرة الأضيق حوله، وبالتالي تفجيره في حادثة النهدين الشهيرة في 13 / 6 / 2011م بعد معاركَ دامية على مدار أسابيعَ في الحصبة ومناطق أُخرى.
كان هذا مشهداً من المشاهد تشكّل مفارقة كبيرة، فهؤلاء الذين أخذهم على أكفّ الراحة ومكّنهم من كُـلّ شيء تعاملوا معه بهذه الطريقة وحاولوا إسقاطه بالقوة العسكرية وبالتصفية الجسدية، رغم أنه لم يسبق أن أظهروا له طيلة فترة حكمه نصحًا حقيقيًّا أَو تصويباً مخلصًا، واضطر الرجل إلى تسليم السلطة لنائبه الذي هو دُمية في أيديهم وأيدي المخابرات البريطانية من خلفهم، وهو المشهد الذي تحدّث عنه البردّوني قبل حصوله بحوالي عشرين سنة قائلاً:
أزالت لندن الأولى وجاءت * بأُخرى غير قابلة الإزالة
يتاجر بالعروش وبالمباغي * تدير البابويّة والبقالة
تُرَئِّسُ نائباً يبدو جديدًا * وتكتب للرئيس الاستقالة
وبالفعل كان الرئيسُ قد وقّع استقالةً كُتبت له، وكانَ النائبُ قد رأَّسته لندن الآخرة واستخدمته للحفاظ على هيمنتها.
غادر الإخوان الساحاتِ واستلموا ما كان في أيديهم من المواقع، بينما استمر الثوار الحقيقيون في ثورتهم وهم لا يرون فيها ثورة ضد حاكم محلي بل ثورة ضد هيمنة غربية حقيقية، حتى إذَا نضجت ثورتهم في الــ21 من سبتمبر 2014م واستطاعوا إسقاط الوكلاء الحصريين الجدد للهيمنة الغربية فاجأوا خصومهم قبل أنصارهم.
كان يتوقع منهم أخذ الحكام الذين سرقوا الثورة وتحالفوا مع السفارات إلى السجون، ولكنهم مدّوا إليهم يد الحوار وتركوهم في القصور ووقعوا معهم اتّفاق السلم والشراكة، ولم يبحثوا عن أيِّ موقع في الحكومة، ولكن حلفاء السفارات ظلّوا على سجيتهم في المكر والغدر حتى وصل بهم الحالُ إلى التخطيط لتفجير حرب داخل العاصمة صنعاء حُسمت بهزيمة العملاء في 21 يناير 2015م، ومع ذلك فلم يحاكم أحد وفُرضت الإقامةُ الجبريةُ على الفارّ الذي لم يلبث أن عاود الفرار قبل أن يقوم أبناءُ السفارات باستدعاء أسيادهم الذين هبّوا لشن عــدوان كبير على اليمن لم يسبق أن شهد له اليمن في التاريخ مثيلاً، هذه مفارقة أُخرى ودرس في النبل عندما يكون ثقافةً في مواجهة اللئام بكل ما يحملونه من سقوط وخسة ونذالة.
وبدأ العـدوان وبرز الصمودُ في مواجهته على أرقى المستويات من الاستبسال والبذل والعطاء والتضحية.
في هذه الفترة التاريخية، كان الرئيسُ الأسبق علي عبدالله صالح قد توارى تماماً عن المشهد تحت ضغط السفارات نفسها التي وجدت لها حلفاء أجدى منه نفعًا، ولأن لديه سابقة غاية في السوء في التعامل مع ثوار الحادي والعشرين من سبتمبر الذين أوسعهم تنكيلا وقتلا، وكان بديهيا ومتوقعا في كُـلّ الثورات أن يلقى حتفه أول يوم لانتصار الثورة أسوة بالقذافي أَو أن يُنفى إلى خارج البلاد كزين العابدين بن علي أَو أن يجد طريقه إلى السجن مثل حسني مبارك، مع أن أيّاً من هؤلاء لم يشن على شعبه ستة حروب متتالية فقد بقي هذا الرقم القياسي حكرا عليه وحدَه، والمفارقة الأُخرى أنه لم يواجه مصيرَ أيٍّ من هؤلاء الثلاثة نتيجة للثورة نفسها، فقد تعاملت الثورة معه بنُبل هو فارقة في حَــدِّ ذاته.
ليس معتادًا أن تتسامحَ ثورة مع الحاكم الذي ثارت عليه، وأكثر الثورات سلماً تضع الحاكم في السجن أَو تنفيه من البلد، لكن هذه الثورة وبكل نبل ولأنها ثورة ضد الهـيمنة الأجنبية وليست ضد الحاكم المحلي، فقد تركت جلادها السابق معززًا مكرماً في منزله وبأبهته وخدمه وحشمه كما لو كان في سدة حكمه.
وليس معتادًا أَيْـضاً أن تأتيَ هذه الثورة ضد الحاكم الذي سامها سوء العذاب، وعندما تنتصر تجده وقد خرج من الحياة السياسية تماماً وتناساه الناس فتترفع عن الانتقام منه بل تتركه وشأنه، وهذا نبلٌ ما بعده نُبل، لكن أبعد من ذلك تحييه، فَـإنَّ هذه الثورة أحيته بعد موات، وأنافت به بعد خمول، ومدت يدها إليه فشاركته مقاليدَ الحكم ووجهت وجهها لمواجهة الغزاة وائتمنته على ظهرها، وهذا نُبل ومفارقة صارخة في قمة الوضوح.
والمفارقة الأعجب أنه ظل على مدار ثلاث سنوات تقريبًا من بداية العدوان وهو يفند كُـلَّ الدعاوى التي سبق له أن حارب هؤلاء الثوار تحت عنوانها ويرد على كُـلّ الدعايات التي كان يشنها وبلسانه هو يكذب كُـلّ خطاب إعلامي سفك دم هؤلاء الثوار تحت غطائه.
وكانت مفارقة كبرى أَيْـضاً لو أنه تعامل مع الثوار والثورة بنبل ردًّا على نبلهم فقط، وليس فضلاً منه، وهم ضحاياه الحقيقيون، وقد رأى بعينه أن ربايا نعمته قد غدروا به وأحرقوه وأسقطوه رغم أنه لم يسبق منه يد سوء تجاههم.
ولكن للأسف الشديد، فقد تحيَّن الفرصة بينما كان هؤلاء الثوار في ميدان المعركة يخوضون الملاحم في مواجهة الغزاة وعملائهم، إذَا به يسل خنجر الغدر ليغرزه في قلب الثورة، مستغلا ائتمانه على ظهرها ونُبل أبنائها وسمو أخلاقهم وعلو مقاصدهم، ليلقى حتفه نتيجة الغدر لا الانتقام.
لقد ظل لسنوات طويلة يقتل الناس بزور تهمة هي التمرد على النظام، بينما لم يكونوا متمردين، ليثبت للأيام من لسانه أنهم لم يتمردوا عليه وإنما أُغْرِي بحربهم من قبل ربايا نعمته، ولكنَّ المفارقةَ أنه أَيْـضاً قد لقي حتفه نتيجة تمردٍ حقيقيٍّ قاده على نظام يعترف هو بشرعيته ويعتبرها حجّـة عليه، وكادت الدنيا أن تكون دار جزاء، وقد صدق الأول حين قال:
مَلِكْنا فكان العفوُ منا سجية * ولما ملكتم سالَ بالدم أبطحُ
ويكفيكم هذا التفاوُتُ بيننا * وكل إناء بالذي فيه ينضحُ
وصلّى اللهُ وسلّم على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.