العولمة الأمريكية وتجريف الهُـويات والثقافات الوطنية
أنس القاضي
الهُـوِيَّة ظاهرةٌ اجتماعيةٌ حية متغيره متطورة، فهي وعيُ الإنسان وإحساسُه بانتمائه إلى مجتمعٍ أَو أُمةٍ أَو طبقةٍ أَو جماعةٍ معينة.
إنها معرفتُنا بما وأين نحن ومن أين أتينا وإلى أين نمضي وما نريد لأنفسنا وللآخرين وبموقعنا من خريطة العلاقات والتناقضات والصراعات القائمة. فكل اختراق فلسفي معادٍ يجيب على استفهام من هذه الاستفهامات لدى الأفراد يُعتبر إعادةً لصياغة وتشكيل الهُـوِيَّة، وبالتالي صناعة للموقف والسلوك المطلوب بالنسبة للعدو الأجنبي.
تعمل الولاياتُ المتحدة الأمريكية على أمركة العالم، فبالتوازي مع توسعها الإمبريالي (الرأسمالي الاحتكاري العسكري) تقومُ بعملية توسع ثقافية سياسية، تعارف الباحثون على تسميتها بالعولمة لاقترانها بالتطور التقني في وسائل الإعلام والاتصالات وهي تتجاوزُ المسألة التقنية.
العولمة امتداد تاريخي وسياسي معرفي اقتصادي لتطور الرأسمالية، وهي دائمةُ التوسع والنمو بالقوة والتوحش، بالقوة العسكرية والاحتلال المباشر والإخضاع والهيمنة، فلسفتُها اليومَ اللبيرالية الجديدة قائمة على الديمقراطية (الغربية) والخصخصة وحقوق الإنسان والدور الفعال للمنظمات غير الحكومية، للاستيلاء على ثروات الشعوب وتكريس تخلفها وتبعيتها للتحالف الأمريكي الصهيوني.
تعمل الولاياتُ المتحدة الأمريكية على إزالة الحدود الوطنية والقومية وأمركة النُّظُمِ الاقتصادية في كُـلِّ العالم عبر شركاتها الاحتكارية العابرة للقارات وعبر تدخلاتها العسكرية، وهي لا تكتفي بإزالة الحدود الوطنية بل تعمل جاهدةً على محو الخصوصيات الثقافية الروحية ومحو هُـوِيَّات الشعوب.
لا تنفصلُ مقاومةُ الشعوب للإمبريالية الأمريكية في شقها الثقافي عن مقاومتها في شقها الاقتصادي السياسي ومقاومة وجودها العسكري؛ نظراً للترابط الشديد بين هذه الأجزاء التي يقوم عليها النفوذ الأمريكي في العالم.
دول كالصين وإيران وكوريا وكوبا تتبنى نهجاً اقتصاديًّا مستقلاً ونموذجاً وطنياً للبناء بعيدًا عن الهيمنة الإمبريالية، تقوم هذه الدول في ذات الوقت بحماية خصوصياتها الثقافية الروحية الحضارية القومية وتنميتها في مواجهة العولمة الثقافية الأمريكية.
على عكس الامبرياليات البريطانية الفرنسية في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، فَـإنَّ الامبريالية الأمريكية اليوم في حالة ضعف تجعلها عاجزة عن تلبية طموحاتها الاستعمارية كما كانت عليه سابقًا.
تعاني الولايات المتحدة الأمريكية من عجز مزمن في ميزانها التجاري إلى جانب ديونها المتراكمة، وأزمة الدولار، الأمر الذي يجعلها عاجزة عن تحقيق شروط إعادة إنتاج هيمنتها.
تحافظ الولايات المتحدة الأمريكية اليوم على مكانتها عبر امتصاص ونهب فائض الإنتاج الذي يُصنع خارج بلادها وكذلك نهب المواد الخام كما هو عليه الحال في نفط سوريا والعراق وثروات إفريقيا، واستمرار هذا الوضع الطفيلي رهن برضوخ بقية بلدان العالم لتفاقم إفقارها بلا نهاية وقبولهم بالسيادة الأمريكية على العالم؛ ولأن أمريكا تدركُ ذلك فهي تغطي ضعفَها الاقتصادي هذا بالتدخلات العسكرية والتفوق العسكري والقوة النووية، في هروبٍ دائم إلى الأمام من هذه الأزمة.
المصيرُ النهائي لمقاومة الشعوب للهيمنة الثقافية الأمريكية يتعلق بمسألة صراع الأقطاب والمحاور ضد المركز الاستعماري الغربي الأمريكي الذي يشهد تراجعاً، فمن أجل محافظة هذه الدول على هُـوِيَّاتها وثقافاتها الخَاصَّة فهذه الدول بحاجة إلى بناء نماذجها الوطنية الخَاصَّة المستقلة، وهو الأمر الذي ما يجعلُ دولاً كالصين وإيران وكوريا وكوبا وفنزويلا في حاجة إلى التضامن فيما بينها لبناء نماذجها الوطنية.
هناك مؤشراتٌ عالميةٌ تشيرُ إلى إمْكَانيةِ الانتصارِ في بناء النماذج الوطنية سياسيًّا اقتصاديًّا ثقافيًّا، منها تشكل تحالف دول البريكس، حلف شنغهاي، ومحور الدعوة الماليزية لتشكيل تحالف إسلامي جديد. أما آخرُ الشواهد فهو تقديمُ الصين لنائب وزير خارجيتها لاستقبال الرئيس ترامب والتوقيع معه على اتّفاقيةٍ لتهدئة الحرب التجارية بين البلدَين وهي الحربُ التي تتقدم فيها الصين.