الحصار كمهمة “أممية”: صنعاء تعرّي “الوسيط” المزيف
رسائل شديدة اللهجة تدين الأمم المتحدة وتؤكّـد على جوهرية “فك الحصار” في معادلات الحرب والسلام
المسيرة | ضرار الطيب
يتصدَّرُ موضوعُ الحصار المفروض على اليمن نصفَ واجهة المشهد دائماً عند أي حديث عن الحرب أَو عن السلام، حَيثُ يشغل هذا الموضوع بالفعل نصفَ مساحة مِلَفَّ العدوان كله، ويتداخل مع مختلف القضايا المتعلقة بهذا الملف، بحيث لا يمكن فصلُه حتى عن التفاصيل، فضلاً عن النقاط الرئيسية، وهنا يبرُزُ بشكل واضح حجمُ “العبث” الأممي في التعاطي مع الشأن اليمني، إذ تعملُ المنظمةُ الدوليةُ بشكلٍ فاضحٍ وغير مبرّر على إطالة أَمَدِ هذه الجريمة التي كانت السبب الأبرز في تفاقم الأزمة الإنسانية في اليمن إلى حَــدِّ أن أصبحت هي الأسوأ في العالم، سواء من خلال الصمت على هذه الجريمة، أَو من خلال التواطؤ والمشاركة المباشرة فيها، حَيثُ تحولت الأمم المتحدة إلى أدَاة تعمل بشكل واضح للحفاظ على هذا الحصار كـ”سلاح” ضد الشعب اليمني.
خلال الأيّام القليلة الماضية، أعادت صنعاء توجيهَ رسائلَ شديدة اللهجة للأمم المتحدة بشأن جريمة الحصار التي يتفاقم أثرُها الكارثي على الشعب اليمني، بالتوازي مع تصاعد الحرب الاقتصادية التي تشنها دول العدوان ومرتزِقتها على العُملة المحلية مع استمرار نهب موارد البلاد بشكل كامل وقطع المرتبات.
إحدى تلك الرسائل جاءت على لسان رئيس الوفد الوطني وناطق أنصار الله، محمد عبد السلام، الذي أكّـد أن “استمرار الحصار وإغلاق مطار صنعاء الدولي وميناء الحديدة جريمة تشارك فيها الأمم المتحدة بإفساح المجال لتمادي قوى العدوان في عدوانهم وإجرامهم بحق شعب بأكمله”، ورسالة أُخرى على لسان عضو الوفد الوطني، عبد الملك العجري الذي كتب أنه “بالتزامن مع بدء المحادثات حول الإعلان المشترك، قبل أكثرَ من ثمانية أشهر، فرضت دولُ العدوان إغلاقاً شاملاً على ميناء الحديدة، في سلوك يعكس الرغبة في إقفال الطريق أمام أي منفذ للسلام، واستخدام القضايا الإنسانية أدَاةَ ضغط من قبل دول العدوان والأمم المتحدة، في انتهاكٍ صارخٍ للأعراف الإنسانية”.
هذه الرسائلُ لم تأتِ لتذكر ببشاعة الجريمة المستمرة والمسكوت عنها فحسب، بل وجهت أصابع الاتّهام بشكل مباشر إلى المسؤولين عن استمرار هذه الجريمة، فمِلفُّ الحصار وكل ما يتعلق به يدخلُ ضمن قائمة التزامات ومسؤوليات الأمم المتحدة التي تفرضها مهمتها المعلنة ويفرضها أَيْـضاً نصُّ ومضمونُ “اتّفاق السويد”، والتنصل عن هذه الالتزامات لا يترجم هنا كـ”قصور” في الأداء الأممي، بل كتواطؤٍ وتعاوُنٍ واضحٍ مع بقية المشتركين في الجريمة.
ونظراً لجوهرية موضوع الحصار وموقعه في الملف اليمني كله، فَـإنَّ التواطؤَ الأممي مع دول العدوان لإطالة أمد الحصار لا يمكن فصلُه عن الموقفِ العام للأمم المتحدة تجاه اليمن، وهو الأمرُ الذي يبدو بوضوح أن رسائلَ صنعاء حريصة على توضيحه من خلال ربط الحصار بملف الحرب والسلام، كما يلاحظ في تصريح العجري السابق، وَأَيْـضاً في تصريح أوضح لرئيس الوفد الوطني، مطلع هذا الشهر، جاء فيه أن “التجاهل الأممي للحصار المفروض على اليمن أمر غير مفهوم في الوقت الذي يشكل الحصار الوجهَ الآخر للعدوان، وأية مقاربة لا تأخذ في الاعتبار وقف العدوان ورفع الحصار معا فهي مقاربة محكومة بالفشل”.
والواقع أن هذه التنبيهات من قبل صنعاء تأتي توازياً مع انكشاف ركون تحالف العدوان ومرتزِقته ومعهم الأمم المتحدة إلى حيلة “تجزئة” الالتزامات والاتّفاقات، واستثمارها كأوراق سياسية وعسكرية بحسب الوقت المناسب للمصالح، وليس بحسب ما تقتضيه المسؤولية، وهو ما انعكس بشكل واضح في صفقة تبادل الأسرى التي وافق العدوان عليها فقط كمحاولةٍ للتعامل مع ضغوط عسكرية معينة.
ورسائل صنعاء ترد هنا بأن موضوع الحصار لن يكون متاحاً لأية حيلة للتجزئة أَو التأجيل أَو المماطلة، وليس ذلك من باب “التعنت”، بل لأَنَّ الحصارَ أولويةٌ قُصوى لا مجال لتجاوزها والانتقال إلى أي شيء آخر، وهذه الأولوية يقرها اتّفاقُ السويد الذي تتولى الأمم المتحدة مهمةَ رعايته، فالاتّفاق نفسُه جاء عقب تصعيد عدواني على الحديدة كانت دعايته الرئيسية “الموارد”، ثم قضى الاتّفاق بأن تستخدم موارد الحديدة الموارد التي بأيدي المرتزِقة لإعادة تسليم المرتبات، وقد أظهرت الأمم المتحدة انحيازا فاضحا إلى جانب العدوان في هذه المسألة، إذ راقبت التزامَ صنعاء بمقتضيات الاتّفاق فيما تعاملت مع الطرف الآخر وكأنه غير معني بالأمر، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، إذ عبّر المبعوث الأممي نفسه وبشكل صريح عن دوره في عملية منع سفن المشتقات النفطية من دخول ميناء الحديدة مترجماً انتقالَ الدور الأممي من مرحلة الصمت على الجرائم إلى المشاركة في ارتكابها.
إن الموقفَ الأمميَّ من الأزمة الاقتصادية الناجمة عن الحصار لم يعد بحاجة لتحليلات تستخلص حقيقتَه كموقفٍ منحاز إلى العدوان بوضوح، وقد عملت المنظومة الأممية بشكل واضح على تكريس واقع هذه الأزمة منذ البداية، إذ غابت المسببات والتفاصيل الرئيسية للأزمة عن التعاطي الأممي بشكل كامل، فلا تتحدث الأمم المتحدة عن كارثة نقل البنك المركزي وطباعة العملة ونهب موارد النفط والغاز وأثر ذلك كله في ظل إغلاق المنافذ البحرية والبرية والجوية، ولا عن الطريقة التي يعطّل بها تحالفُ العدوان التصاريحَ الأممية الممنوحة لسفن الغذاء والمشتقات النفطية (برغم أن تنفيذ اتّفاق السويد الذي ترعاه الأمم المتحدة يسهم بشكل كبير في حَـلّ هذه الإشكاليات)، وفي المقابل تجد هناك استنفاراً ضد صنعاء عندما يتعلق الأمر بموارد شحيحة جِـدًّا التزمت حكومة الإنقاذ عمليًّا بتخصيصها للمرتبات، وقامت بصرفها لنفس الغرض بعد أن رفض المرتزِقة الوفاء بتوريد حصتهم!
وحتى في الجانب الإنساني من الحصار والذي يخُصُّ إغلاق منافذ السفر أمام المرضى، تماهت الأممُ المتحدةُ بشكل واضح مع تحالف العدوان في تعنته بخصوص مطار صنعاء، ولم تحَرّك ساكناً إزاء القيود الذي يفرضها على السفر حتى من المطارات المحتلّة.
بالمجمل يمكن القول إن الأممَ المتحدة خاضعةٌ بالكامل لرغبة تحالف العدوان في الإبقاء على الحصار وتشديده أكثرَ بالتوازي مع تصعيد الحرب الاقتصادية، وهذا موقفٌ لا يمكنُ أن يؤخذ بشكلٍ منفصلٍ عن بقية ملفات الحرب والسلام نظرا للعلاقة الجوهرية التي تم توضيحُها سالفاً، ويمكنُ وفقاً لذلك التنبؤُ بفشل كُـلّ “الجهود” الأممية في اليمن في ظل استمرار هذه الحالة، لكن لا حاجة للتنبؤ؛ لأَنَّ صنعاء باتت تعلنُ ذلك بوضوحٍ، ورسائلُ صنعاء التي تدين الأمم المتحدة اليوم بالمشاركة في جريمة الحصار، تحملُ في طياتها إنذاراً ضمنياً للمنظومة الأممية ولتحالف العدوان معاً.