الشهيد جعلنا نكسب المستقبل
طه العزعزي
إنها حصيلةُ اختبار الإرادَة في الرجال، وحصيلة اختبار الثقافة القرآنية فيهم، وحصيلة القدرة على المواجهة وصنع المستقبل وتأمينه للأجيال القادمة، حرب هذا العدوان، حصيلة اختبار الدم والتاريخ ورجال الثورة ثورة الـ 21 من سبتمبر، واختبار النهج والمبادئ.
إن الضمائرَ الحية والذاكرة التاريخية لدى أيِّ شعب، هي من تستمد قوتها من قوة الشهداء، بل إن طاقتَها في سبيل تعزيز وجودها وقضيتها لن تكونَ إلا بذكر شهدائها كتدعيمٍ فاعلٍ لموضوعاتها الأَسَاسية وَاقتفَاء الأثر من خلال ذلك.
والحقيقةُ أنه بقدر ما كانت دماءُ الشهداء والتزاماتهم تجاه دينهم ووطنهم شرطاً إلزامياً في السابق، فتذكرنا لهم هو كذلك، شرطاً إلزاميا، كواجب أخلاقي ووطني، وبالقدر الذي يعيدنا فيه فعل التذكر إلى نضالات شهدائنا، فَــإنَّ مركزيةَ ما تم إنجازه خلال هذه الفترة الزمنية التي تقترب من السبعة أعوام صمود في ظل العدوان هي بفضل دماء هؤلاء الشهداء كاعتراف واقعي ولا فِكاك منه، التصنيع العسكري والأمن والاستقرار الحاصل في المدن هي بفضل هذه الدماء الزكية والطاهرة، والجميع يعترف بذلك، لذا كان من الطبيعي أن تنمو الدولة وأن نكسب المستقبل في حال أننا واصلنا الطريق التي عمدها الشهداء بدمائهم ولم نخنها أبدا.
كان سيصيرُ للوجود دلالة سلبية لو لم يكن فينا الشهيد الذي تجاوز حدود دنيا بقائه رغبة في الصعود إلى الله سبحانه وتعالى واستجابة لأوامره في القرآن الكريم، وكانت ستصير الرغبة فينا شيء أبدي، أية دلالة لحب البقاء النهائي رغم أننا نشاهد قبور موتى سبقونا وموتى ولدوا قبلنا بآلاف السنين لو لم يسقط فينا شهيد للتو واللحظة.
على مستوى الواقع العملي، يثبت الشهيدُ أنه كان من بين كُـلّ بشر الحياة الأكثر مسؤولية، وحري بنا الوقوف عند هذه النقطة المهمة، إن صناع الحياة المستقبلية هم أُولئك الذين يدفعون بذواتهم للموت؛ مِن أجلِ الآخرين؛ مِن أجلِ تحرير أوطانهم، وإعطاء أطفال المستقبل وشبابه فرصة في الحياة بعزة وحرية واستقلال، تخطر المسؤولية في صميم ذلك بوصفها الحس الديني والأخلاقي والوطني لتدعيم مشاريع الجهاد وفتح باب مشع ونوراني باتّجاه المستقبل.
إن من يخرق مبدأ المسؤولية هم بعض البشر العدميين الذين أحالوا حياتنا إلى جحيم، وبالمقابل هناك إجراء روحي، تأخذ فيه صفة التخلي نشاطاً عظيماً، الذين استشهدوا في سبيل الله وبادروا بأرواحهم قاموا بتزكية حياتنا.
لكن المتشبثين بهذه الحياة هم الإصابة الشاذة لمعاني الحياة نفسها، لا يريد الحياة إلا طامع فيها أَو فاسد أَو مستكثر للزمن، لذا حين يصير ذلك كذلك يصبح فعل التخريب سهلاً ومتوقع.
حين أعطى الله سبحانه وتعالى صفة “الحياة” للشهيد وصفة “الرزق” في الآية نفسها فَــإنَّه أوضح بذلك لحقيقة المستقبل، أوضح بذلك لحقيقة المشروع الأبدي كذلك، مشروع أبدي حياتي ورباني، كذلك فتح أي أفق لتعريفة الشهيد تظل قاصرة إن لم تكن تشير إلى قيمة الخلود الأبدية.
أيضاً قتلنا عفاش؛ لأَنَّه حاول خيانة دماء الشهداء.
سأل أحدهم، وهو يقصد حاجة في نفسيته الفكرية، لماذا عندما يرتقي شهيداً لدى أنصار الله يتم تشييعه بموكب جنائزي ضخم؟، سؤال في مكانه فعلاً، لكن هذا السائل أَيْـضاً نسي أن يسأل، لماذا كلما سقط أحد مرتزِقة العدوان لا يتم تشييعه بنفس هذا الموكب الضخم؟!!، المقابلة هنا غير موفقة بالتأكيد، وَلكنها تؤدي إلى نتيجة مفادها أن العدوان كمنظومة ارتزاق عريضة تتعامل مع مجنديها وَحشدها الفوضوي باسترخاص، لدرجة أن أخلاقياتها المقصودة أوقعت قتلى في صفوف مجنديها بصواريخ طائراتها.
في الجانب الآخر أَيْـضاً، منذ بدء هذا العدوان، رأينا جيِّدًا تعامل أنصار الله فيما بينهم في الجبهات وغير الجبهات، إن الفكرة العظيمة والعليا التي تجمعهم هي أنهم جنود الله، تعاملهم فيما بينهم على هذا الأَسَاس تعامل ديني وتربيط أخوي إنساني وثيق ولا فصل فيه، كنا نرى مشاهد غالبة في الجبهات، مشاهد حتى من الجبهتين، جبهة جنود الله، وجبهة جنود الشيطان، رأينا كيف أن جنودَ الله لا يمكن لهم أن يتركوا جثةَ شهيدٍ سقطت أثناء المواجهة والاقتتال ولو ضحوا بأنفسهم واحداً تلو الآخر، ورأينا مادية جنود الشيطان وَضعفهم، كيف أنهم يتركون قتلاهم جثثا في الجبال والوديان والصحاري، ولدرجة أنهم يأخذون بنادقهم من على أكتافهم ثم يهربون تاركين الجثث المقتولة وراءهم.
إن مأزق وجود المجندين من مرتزِقة العدوان في الجبهات أنهم جاءوا لأجل النقود والمال، أي أنهم في سوق تجارة دنيوي لا غير، أي أنهم في فكرة محدودة وقاطعة هي القتال لأجل المال لا شك في ذلك، أي أنهم في حال وضاعة عقلية ونفسية وفكرية لا منطق ودين، أي أنهم في غرس قيمي لأحط المبادئ يقاتلون لتأسيسها لا لأجل الدين القويم، ولا أحد من هؤلاء القابعين في أدراج الارتزاق فكّر أن يحاكم عقله بواقع مسيرته وهي على مقربة من الموت والقتل أَو أن يصَدر محاكمةً عقلية ونفسية وفكرية للعدوان في كيفية التعامل والنظرة الرخيصة له.
لقد دفعت دويلة الإمارات بمجنديها ومؤيديها وفعلت مثلها المملكة السعودية في أحداث كثيرة في الجنوب وتعز، سقط قتلى كثيرون خلال ذلك، ولقد قصفت طائرات الإمارات مجندي السعودية في الجنوب ومجنديها أَيْـضاً، وفعلت مثلها السعودية، كانت أطقم الفكر الوهَّـابي والداعشي والإخواني تحتسب قتلاها شهداء بمقابل أنهم قاتلوا الروافضَ كما أطلقوا تسمياتهم، وهم كفار وخارجون عن الدين كما ذهبوا، لكن أتسعت فكرة التكفير لديهم وفيما بينهم، أصبح من يقتل جنوبياً فَــإنَّه قتل كافراً أَو ملحداً ومن قتل إخواني فَــإنَّه سيدخل الجنة، وعلى هذا النحو، بينما ظل أعداء أنصار الله هم هم فقط، عدو واحد، وظهر بشكل فضائحي وعالمي ذلك في ظل التطبيع، أي أن الخط ظل ثابت، وعلى هذا الأَسَاس قدم الشهداء مشروعاً عظيماً، ولم يخن المجاهدين من بعدهم قطرة دم أي شهيد، ولقد قتل الخائن عفاش؛ لأَنَّه حاول أن يخون دماء الشهداء.
لو عاد الشهداء، شهدائنا، لفرحوا أكثر وقاتلوا أكثر، لكن ماذا لو عاد قتلى المرتزِقة الذين حاربوا في صفوف العدوان إلى الحياة مرة أُخرى؟، ربما يأسفون لواقع تضليلهم، ربما يبيعون “زعقة” وَ”آيس كريم” بدلاً عن خوض حرب باطلة لا تستند إلى الحق.
أخيرًا، ليس الحبر أهم من الدماء، وأية دماء؟!، إنها دماء الشهداء الزكية، وليس الورق الرخيص والمصنوع أهم من الجسد الطاهر، طبعاً أقصد، جسد الشهيد، وإلا كيف، وليس ما يقدمه القلم والفكر وما تقدمه الكتابة أهم مما قدمه الشهداء، ليس كُـلّ ذلك أهم من حياة ونضالات الشهداء، ليست القصائد أوضح تعبيراً من بسمة شهيد، ليست الماديات البشرية وأحدث تكنولوجيا العالم أهم من مظهر شهيد اغبرَّ شعر رأسه وبذلته بتراب هذا الوطن وهو على مترسه متأهب، وليست كُـلّ التجهيزات المقدمة من قبل مؤسّسة الشهداء والمعنيين بحفل الذكرى شيء مقابل ما قدمه الشهداء، ولكن كُـلّ ما ذكرت، حتى مقالي هذا وَسابقيه لا يرقون لقطرة دم وإنما محاولة لأن يقدموا شيئاً ملموساً للشهيد في ذكراه السنوية كأقل ما يمكن وكأبسط ما يحقّق الشكر والوفاء لهؤلاء العظام.