«غزوة الكونغرس»: انفجار فقاعة «الديمقراطية الأمريكية»!
أنصار ترامب يقتحمون مبنى “الكابيتول” اعتراضاً على نتائج الانتخابات وسقوط أربعة قتلى
محاولات أمريكية لـ “شخصنة” الفضيحة وسط سخرية عالمية
المسيرة | خاص
سيُسجَّلُ يومُ السادس من يناير كذكرى فضيحةٍ تاريخية كبرى لـ”الديمقراطية الأمريكية”، ولكيان الولايات المتحدة كله، فاقتحامُ مبنى “الكابيتول” من قبل أنصار الرئيس دونالد ترامب اعتراضاً على نتائج الانتخابات، لم يكشف فقطْ “هشاشةَ” تلك الديمقراطية التي لطالما تغنت بها أمريكا أمام العالم واعتمدت عليها كدعاية رئيسية، بل كشف أَيْـضاً حجمَ تآكل البلد الذي يصفُ نفسَه دائماً بـ”أقوى بلد في العالم”، فما حدث -بحسب الكثير من المراقبين- لم يكن سببه الوحيد هو السباق الانتخابي، بل أَيْـضاً المشاكل المتراكمة داخليا منذ زمن.
كان رفض ترامب لخسارته في الانتخابات أمام منافسه “الديمقراطي” جو بايدن وما رافقه من تصريحات وتهديدات يفصحُ بوضوح عن أن دعايةَ “الديمقراطية الأمريكية” لا تعكس واقعًا حقيقيًّا، غير أن هذه المسألةَ حصرت إعلامياً وبشكل موجَّه في شخص ترامب نفسه، ولكن ما حدث في السادس من يناير الجاري – الأربعاء الفائت – أكّـد على أن الأمر أكبر من شخصية ترامب الذي كان قد دعا أنصاره (عدد من صوّتوا له 74 مليون ناخب) إلى القدوم إلى واشنطن في هذا التأريخ وتحدي “الكونغرس”؛ مِن أجلِ الاعتراض على نتائج الانتخابات الرئاسية و”القتال”؛ مِن أجلِ إبقائه رئيساً على الولايات المتحدة.
احتشد أنصارُ ترامب أمام “الكونغرس” تزامناً مع انعقاد جلسة المصادقة على نتائج الانتخابات، لكن ليس للاحتجاج، بل لـ”القتال” فعلا، إذ اقتحموا المبنى الذي يعتبر أكثرَ رموز الديمقراطية الأمريكية “قداسةً”، وسط مواجهات مع عناصر الشرطة، ووصل المقتحمون إلى كُرسي رئيسة مجلس النواب، نانسي بيلوسي، حَيثُ جلس أحدُهم واضعاً حذاءَه على طاولة المكتب، في الوقت الذي قام آخرون بانتزاع وتمزيقِ صور ووثائقَ مبروزة من الجدران، كما نهبوا بعضَ الأثاث والمنصات، وتجوّل آخرون حاملين علَمَ “الكونفيدرالية” ولافتات كُتب عليها “ترامب رئيسي” وَ”سوف نخضع واشنطن”، بينما يختبئ بعضُ موظفي الكونغرس تحت الكراسي.
فوضى غير مسبوقة، لم تكن الدماءُ غائبةً عنها، إذ قامت الشرطةُ بقتل امرأة، وتم الإعلانُ عن وفاة ثلاثة أشخاص آخرين متأثرين بإصابات، وتم الإبلاغ عن وجود قنابل وعبوات داخل المبنى.
تراجعت لهجةُ ترامب عقب ذلك، ودعا أنصارَه إلى العودة إلى المنازل، واستأنف الكونغرس الجلسةَ، معلناً فوز بايدن بالانتخابات، لكن تلك المناظر التي رآها العالم كله كانت وما زالت تتصدر واجهةَ المشهد، بل أصبحت هي المشهدَ الرئيسي، إذ اعتبرت أبلغَ تعبيرٍ عن حقيقة “الديمقراطية الأمريكية” التي بسقوطها تسقُطُ “السُّمعة” التي بنتها الولايات المتحدة لنفسها كـ”دولة عظمى”، وقد مثل اقتحام الكونغرس سقوطاً مشهوداً لتلك السمعة.
هذا ما أكّـدته بوضوح الكثير من ردود الفعل الدولية على ما حدث، وخُصُوصاً ردود خصومِ الولايات المتحدة ومنافسيها، إذ صرح مسؤولٌ في مجلس الشيوخ الروسي قائلاً إن “أمريكا وصلت إلى الحضيض”، مُشيراً إلى أن ما حدث دليلٌ على أن أمريكا لا يحق لها تحديدَ المسار وفرضَه على الآخرين، فيما أكّـد الرئيس الإيراني، حسن روحاني، على أن الأحداثَ التي شهدتها واشنطن “دليلٌ على ضعف الديمقراطية الغربية وهشاشتها”، وقد سخرت وسائلُ الإعلام الصينية مذكرةً بموقف الولايات المتحدة الداعم لاحتجاجات هونغ كونغ في 2019.
أما إداناتُ حلفاء الولايات المتحدة فقد تجاهلت دلالاتِ ما حدث وحاولت شخصنةَ المسألة وربطها بترامب فقط، وهو أَيْـضاً الأُسلُـوبُ الذي تم اعتمادُه داخل الولايات المتحدة لتلافي الفضيحة، سواء من خلال الخِطابِ الإعلامي الذي أَيْـضاً وصف المتظاهرين بـ”الإرهابيين” و”الغوغاء”، أَو من خلال تقييد وإيقاف حسابات ترامب على مواقع التواصل الاجتماعي؛ بذريعةِ التحريض على العنف، أَو من خلال مواقف “الجمهوريين” أنفسهم الذين بدوا أكثرَ تزعزعاً، وحاولوا “التبرؤ” من الرئيس، وُصُـولاً إلى استقالات بعض مسؤولي إدارة ترامب والتهديد بعزله بواسطة المادة 25 من الدستور.
لكن كُـلّ تلك الترقيعات التي ما زالت تحاولُ تقزيمَ دلالات الفوضى التي حصلت، ليست ذات قيمة، فالحقيقة هي أن ترامب الذي يتفنن الجميع في لومه الآن ووصف مدى سوئه كرئيس وكشخص، حظي بدعم أربعة وسبعين مليون ناخبٍ أمريكي منذ فترة قصيرة جِـدًّا، ولم يكن وقتَها يختلفُ كَثيراً عما هو عليه الآن، أَو عما كان عليه يوم السادس من يناير تحديداً، ومن داخل هذه القاعدة الانتخابية جاء “الغوغاء” الذين اقتحموا الكونغرس، وهو الأمر الذي يؤكّـد على أن المشكلة كانت كامنة داخل “الديمقراطية الأمريكية” نفسها وداخل هيكل البلد كله.
بحسب محللين، فَـإنَّ ما حدث الأربعاء جاء في جزءٍ كبير منه نتيجةَ التآكل الداخلي المتراكم في أمريكا منذ زمن، فتصريحاتُ ودعوات ترامب لم تكن لتحدث وحدَها فوضى مثل تلك، لكن تراكم الانقسامات الداخلية والفجوة المتزايدة باستمرار بين جزءٍ كبيرٍ من الشعب وبين النظام، كفيلٌ بإحداث ذلك، بل وينذر بالمزيد، وقد عبر ترامب نفسه عن ذلك حين علّق على اقتحام الكونغرس قائلاً: “هذا ما يحدث عندما يجرد الوطنيون العظماء، الذين عوملوا بطريقةٍ سيئة وغير عادلة لوقت طويل، من فوز ساحق ومقدَّس بطريقة وحشية وغير قانونية”، فما يبدو للقاعدة الانتخابية الكبيرة التي صوتت لترامب هو أنه تمت سرقة “فوزها” من قبل نخب سياسية.
وهكذا فَـإنَّ ما حدث قد عبر بشكل واضح عن هشاشة أمريكا نفسها، بما في ذلك “ديمقراطيتها” الدعائية التي تحت شعاراتها قدمت الولايات المتحدة نفسها كوصي على العالم كله.
قد يتم عزلُ ترامب أَو سيسلم السلطة لبايدن “سلمياً” كما قال، لكن هذا لا يعني أن “غزوة الكونغرس” كما يسميها البعضُ ستنسى؛ لأَنَّها جزءٌ –وإن كان مفاجئاً- من تراجع مستمر للولايات المتحدة على أكثر من مستوى، وقد جاء صعود ترامب إلى السلطة بشكل عام في هذا السياق، إذ اتفق الجميع خلال فترة رئاسته على أنه “كشف الوجه الحقيقي لأمريكا”، وما حدث في الكونغرس ينتمي إلى هذا “الوجه” بشكل واضح وغير مستغرب.
ولأن الأمر كذلك جاءت تعليقاتُ جزءٍ كبيرٍ من الجماهير ووسائل الإعلام حول العالم تحملُ طابعاً ساخراً من “سُمعة” أمريكا، وتؤكّـدُ على حجم التناقُضِ بين تلك “السُّمعة” وبين الواقع الحقيقي للولايات المتحدة، فالسباقُ بين بايدن وترامب في حَــدِّ ذاته ليس هو الإطارِ الرئيسي لأحداث السادس من يناير، من وجهة نظر الرأي العام حول العالم، بل ضعف الولايات المتحدة وهشاشتها.