مرثية في وداع أُستاذي ورفيقي الرباش بن حبتور
أ. د. عبدالعزيز صالح بن حبتور*
تمنيتُ أن أكون واحداً من أقرب المشيَّعين لوداع أُستاذنا الفاضل الدكتور/ محمد ناصر الرباش بن حبتور، الذي وافته المنيةُ بتاريخ 01 يناير 2021م، في مدينة المكلا عاصمة محافظة حضرموت، وهي المدينةُ الساحلية الوادعة التي قرّر أُستاذُنا أن يحُطَّ رِحالَه الأخيرَ فيها، وأن يترجلَ من صهوة جواده الجامح كفارسٍ شهمٍ عنيدٍ خاض معترك الحياة برجولةٍ وفخرٍ وثبات دونما انحناء وركوع سوى لله الواحد الأحد، نعم هو المثقف الصلب ابن الفلاح العصامي العم ناصر الرباش، الذي تولى تربيتَه بروحٍ كفاحيةٍ صلبة مُنذ أن كان طفلاً تربى في أحضان قرية النبوة التي سُميت آنذاك (بالبيت العالي) في منطقتنا غيل حبان في محافظة شبوة، لوجود دار قبيلة آل حبتور فيها، بحكم انتماء عاقل قبيلتنا لهذه القرية.
بطبيعة الحال فأنا واحدٌ من بين أبناء هذه الأسرة التي حزنت عميقاً على فقيدنا العزيز لمكانته العلمية والثقافية والاجتماعية والإنسانية، وفي ذات الوقت حزنت عليه؛ لأَنَّه مُعلمي الأول في هذه الحياة، وهو المربي الجليل لجيلٍ بكامله من أبناء ومنتسبي غيل حبان عامةً، لقد عرفته عن قُرب كغيري من أبناء جيلي في العام 1969م، أي قبل أزيد من نصف قرن من القرن العشرين، وحتى لحظة كتابة المرثية هذه، نعم تعرفنا عليه مُنذ أن كُنّا تلاميذَ في الصف الخامس ابتدائي، وكان هو مُعلِّمَنا ومديرَ مدرستنا في قرية الغُرير في ذلك التاريخ، ومُنذ ذلك الزمان تعززت وتوثقت بيننا الروابط الأسرية والإنسانية والأخوية مع فارق العمر بطبيعة الحال.
وفي هذا السياق، أود تذكيرَ أبناء جيلي الذين شغلتهم متطلباتُ الحياة الفردية والجماعية المعتادة، بدَينٍ قديمٍ لهذا المُربي الجليل والشهم، وبالفضل الكبير والخدمة العظيمة التي قدّمها فقيدُنا العزيز محمد الرباش بن حبتور وأبناء عمومته المُعلمين الجليلين الأوائل في مدرستنا الابتدائية وهم البروفيسور/ ناصر صالح يسلم بن حبتور -أُستاذ التاريخ اليمني القديم في جامعة عدن وحضرموت-، متّعه اللهُ بالصحة وطول العمر، والمُعلم القدير الحاج/ يسلم غسيل يسلم بن حبتور متعه الله بالصحة وأطال الله في عمره، هؤلاء الرجال الثلاثة كان لهم فضلٌ عظيمٌ في تأسيس التعليم النظامي الحكومي في منطقتنا، وعبر تربيتهم جيلاً كاملاً تخرج المئات من الأطباء والمهندسين والحقوقيين والاقتصاديين وغيرها من الاختصاصات، فلزاماً على جيلنا والأجيال اللاحقة أن نتذكرَهم بكثيرٍ من الاعتزاز والاحترام والتقدير والشكر لما قدموه، إن من لم يشكر الناس على ما قدموه من خدماتٍ جليلة تجاههم فكأنه لا يشكر الله بالمطلق.
عُرِف عن مُعلمنا وأُستاذنا الفاضل/ محمد الرباش رحمة الله عليه، بأنه إنسانٌ جادٌّ ومثابرٌ وطموح، لهذا التحق في اثناء تأدية مهامه العملية في السلك الحكومي بالجامعة حتى حصل منها على شهادة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية من كلية التربية العليا جامعة عدن، ولم يكتفِ بتلك الشهادة الرفيعة في ذلك الزمان، وقرّر السفرَ للدراسة في جمهورية فرنسا، متجهاً صوبَ باريس مدينة النور والفلاسفة العظماء، والتحق بجامعة السوربون الشهيرة ذات السمعة العلمية الرفيعة، فحصل منها على درجتَي الماجستير والدكتوراه في الأدب الفرنسي، وهي لعَمري مرتبةٌ علمية رفيعةٌ قلَّ من ينالُها.
أتذكر أنني زرت مدينةَ باريس في العام 1987م، حينما كنت طالباً للدراسات العليا بجامعة الاقتصاد العليا ببرلين في جمهورية ألمانيا الديمقراطية، التقيت حينها بالعديد من الزملاء والأصدقاء هناك، وبضمنهم مُعلمي المرحوم/ محمد الرباش، وتجولنا معاً بين معالم باريس الشهيرة، وكانت بمثابة فرصةٍ نادرة وسانحة خَاصَّة بي، التقينا في أجواء وظروف هادئة ومريحة مع صفاء أجواء باريس والحياة الأُورُوبية الثقافية المترفة، كانت فرصة ذهبية لي في أنني تحدثت كَثيراً مع أُستاذي ومُعلمي، واستعدنا معاً أَيَّـامَ بدءِ مشوارِ تعارفِنا في مدرسة القرية، وكيف سارت بعد ذلك الأمور وتسارع الحياة بمتطلباته المتعددة، ووجدته ذلك المثقف البدوي الأصيل الذي امتلك ذخيرة معرفية واسعة من تجارب الحياة العملية مع قدراً عاليًا من الوعي بالمعرفة في مجالات الثقافة والعلوم الإنسانية.
عُدت بعد هذه الرحلة إلى مدينة برلين وأنا في غايةِ السعادة والسرور؛ لأَنَّني قد استمتعت بزيارة مدينة النور باريس، حَيثُ يستوطنها عددٌ من (مزارات) مباركة للثقافة الإنسانية العالمية كمتحف اللوفر، وجادة الشانزليزيه، وبومبيدو سنتر، وقصور ومتاحف وشوارع فرساي، والعديد العديد من تلك الأمكنة الخالدة، وكذلك استمتعت بلقاء المعلم الإنسان محمد الرباش بن حبتور، وتعلمت منه الكثير من سعة معلوماته وثقافته وتجربته السياسية والأمنية الثرية، تعلمت منه مرتين الأولى حينما كنت تلميذاً في المدرسة، والثانية بعد أن أصبحنا راشدين في هذه الحياة المعقدة بطبيعتها.
بعد أن أنهينا دراستَنا العليا عدنا إلى الوطن، إلى مدينة عدن بالذات، وهناك تجددت لقاءاتنا بشكلٍ شبه دائم؛ ولأنه رجل مؤهل علمياً وكسب خبراتٍ جمَّة في مجال عمله الأمني، وبعد الوحدة اليمنية المباركة واصل مشواره في تبوَّأ العديد من المهام الأمنية الحساسة، فقد شغل منصب مدير الأمن السياسي في مدينة عدن لعدد من السنوات، وبعدها انتقل بقرار رئاسي للعمل في العاصمة صنعاء، لِيُعيَّن في منصبٍ هام كوكيل جهاز الأمن السياسي للأمن الخارجي لعددٍ من السنوات، وبعد ذلك عُيِّن في منصب المسؤول العسكري والأمني في سفارة الجمهورية اليمنية في باكستان، وأمضى هناك عدداً من السنوات، وبعد ذلك عُيِّن مديراً للأمن القومي في محافظة حضرموت، إلى أن بلغ حَــدَّ الأجلين وتقاعد في العام 2013م.
تميز الفقيد/ محمد الرباش بالمثابرة والجدية في تأدية المهام المناطة به في جميع المواقع الإدارية التي شغلها، وكانت صِلاتُه الخارجيةُ بالدول والمنظمات والشخصيات ممتازةً، وكانت جميعُها موجهةً لخدمة اليمن الكبير ولم يلمس مُعظم من عمل معه سوى الطيبة والعشرة الحسنة مع الجميع.
إنني حزينٌ على فُقدان مُعلمنا الكبير/ محمد الرباش في هذه الظروف الصعبة التي يمر بها الوطنُ العزيز، وحزينٌ جِـدًّا لوداعه دون أن أراه لبضعِ سنينَ قبل الرحيل المؤلم؛ لأَنَّه ترك أثراً تربوياً إيجابياً ليس على شخصي فحسب، لكنه ترك بصمةً إيجابيةً واضحة لمنطقتنا، حينما كان المؤسّس الأول للمدماك الأَسَاس للتعليم النظامي الرسمي في قريتنا الغُرير، ومن صرحٍ شامخٍ كان هو البنّاء الأول له، ومن ذلك المحراب التربوي والتعليمي انطلقت منه قوافل عديدة من أبناء المنطقة الذين تأهلوا في الجامعات اليمنية والعربية والأجنبية، وأصبح العددُ الآن يتجاوز الـ 300 خريج، ومنهم الأطباءُ الاختصاصيون، والمهندسون اللامعون، ومنهم القيادات الإدارية، والسياسية، التي تحملت مسؤوليات رفيعة في جهاز الدولة اليمنية، ومنهم الاقتصاديون، والحقوقيون، والتربويون، والأمنيون… إلخ.
يقولون: إن حصادَ الحقل الوفير يسبقُه بذرُ التقاوي والبذور الجيدة، ومُعلمُنا الكبير الدكتور/ محمد ناصر الرباش بن حبتور وإخوانُه الكرام البروفيسور/ ناصر صالح، ويسلم بن غسيل آل علي بن ناصر بن ذيب بن حبتور، كان لهم السبقُ والفضلُ العظيمُ في تربية جيلٍ من الشباب قد أصبحوا اليوم أُناساً مؤهلين وذوي فائدة كبيرة في المجتمع اليمني برمته، فهم يتواجدون ويخدمون في مُعظم المحافظات، والمدن، وفي المهجر، ووصلوا في خدمتهم حتى القرى النائية، نعم نحن حزينون جِـدًّا على وداعه الأبدي، لكننا في ذات الوقت مدينون لتلك الكوكبة من المعلمين من أهلنا الكرام بما قدموه من عطاء تربوي نادر الحدوث في ذاك الزمان.
قال تعالى: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي). صدق الله العظيم.
نسألُ اللّهَ العليَّ القديرَ أن يتغمدَ فقيدَنا بواسعِ رحمتِه ويسكنَه دارَ الخلودِ الأبدي، جنات تجري من تحتها الأنهار، وأن يلهمَ أهلَه، ومحبيه، وأصدقاءه، ورفاقه، الصبر والسلوان، إنَّا لله وإنَّا إليه الراجعون.
﴿وَفَوْقَ كُـلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾
* رئيس مجلس الوزراء