نُشر في صحيفة النيوزويك العالمية: عودةُ الدبلوماسية إلى اليمن.. ماذا بعد؟!
بعد أن تم التوصُّلُ إلى حَـلٍّ يعكسُ توافُقَ الأطراف بدأت السعودية بالغارات الجوية
من نافذة الفندق حيث كان يقيم فريق الأمم المتحدة، تابعتُ بمرارة حجم التدمير الذي كانت تتعرض له صنعاء إحدى أقدم المدن في العالم
جمال بن عمر*
بعدَ مقتلِ نحوِ رُبعِ مليون يمني، وتهجيرِ أكثرَ من ثلاثة ملايين آخرين أَو اضطرارهم للنزوحِ، وبعدَ ما تفشَّت جرائمُ الحرب على نطاقٍ واسعٍ، وضاع أكثرُ من نصف عِقدٍ في صراع بدون طائل، أعلن الرئيسُ الأمريكي جو بايدن عن ”عودة الدبلوماسية“ إلى اليمن.
من البديهي أن يكونَ هذا الإعلانُ موضعَ ترحيب، إلا أن وَقْـــعَه في صنعاءَ وعدنَ سيكونُ حتماً مختلفاً عن صداه في واشنطن، عندما نتذكر أن عدداً من كبار مستشاري السياسَة الخارجية للرئيس بايدن شغلوا -قبل ست سنوات- مناصبَ مماثلةً في إدارة الرئيس باراك أوباما، وقدموا الدعمَ للحرب التي تقودها السعودية.
بصفتي مبعوثًا خاصًّا للأمم المتحدة إلي اليمن، كنتُ في ذلك الوقت في صنعاء مُكِبًّـا على تيسيرِ مفاوضاتٍ معقَّدةٍ تهدفُ إلى صياغة اتّفاق لتقاسم السلطة يضعُ حَـدًّا لاستيلاء الحوثيين على مفاصل الدولة، ويمنعُ نشوبَ حرب أهلية لا تُبقي ولا تذر. وبعد عشرة أسابيع عصيبة، تم التوصُّلُ إلى حَـلٍّ وسطٍ يعكسُ توافُقَ الأطرافِ على شكل السلطتين التنفيذية والتشريعية، والترتيبات الأمنية، والجدول الزمني للعملية الانتقالية.
كان الاتّفاقُ مطروحًا على الطاولة، وقد أَطلعتُ مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة على تفاصيله، بل وكنت أُجري مناقشات مع كبار المسؤولين السعوديين حول المكان الذي يفترض أن يحتضنَ حفلَ التوقيع.
بعد يومين على عودتي من الرياض، وبدونِ سابقِ إنذار، بدأت الغاراتُ الجوية. ومن نافذة الفندق، حَيثُ كان يقيم فريق الأمم المتحدة، تابعتُ بمرارة حجم التدمير الذي كانت تتعرض له إحدى أقدم المدن في العالم.
للأسف، وفّر قرارُ مجلس الأمن 2216 غطاءً للفظاعات التي تلت بعد ذلك. قرارٌ صاغه السعوديون، وحملته بسرعةٍ الولاياتُ المتحدة وبريطانيا وفرنسا إلى مجلس الأمن يُفترَضُ أنه معنيٌّ بضمان الأمن والسلم الدوليين.
لقد كان حليفُهم الخليجي في حاجةٍ إلى ترضية بعد إبرام الاتّفاق النووي مع إيران في غفلةٍ منه. لا بُـدَّ أنها بدت مقايضةً ديبلوماسيةً عادلةً لهم. غير أن الطرفَ الغربي في المقايضة كان يعرفُ كذلك أن مطالَبةَ الحوثيين، المسيطرين على الأرض والمتقدمين ميدانيًّا، بالاستسلام لحكومة تعيشُ في منفى فندقي أنيق في الرياض لم يكن أمراً واقعياً أَو مقبولاً. لكن ذلك لم يكن ذا أهميّةٍ كبيرة بالنسبة لهم؛ لأَنَّهم كانوا موقنين بأن الروس سيعرقلون القرار.
لكنهم اخطأوا التقدير! موسكو التي شعرت بوجود فرصة لها كذلك للإفادة من الصفقات التجارية مع المملكة العربية السعودية، امتنعت عن التصويت، مزيحةً العقبةَ الوحيدة أمام تبني القرار.
وللسخرية، فَـإنَّ هذا القرار غير العملي لا يزالُ يشكِّلُ إلى اليوم إطاراً لجميع عمليات الوساطة التي تشرفُ عليها الأمم المتحدة. وساطةٌ فاشلةٌ بشهادة السنوات الست من عمر هذه الحرب.
مما سبق، يبدو ضرورياً للدبلوماسية الأمريكية اليوم أن تجعل مهمتها الأولى تغيير الإطار القائم. ينبغي لواشنطن أن تروِّجَ لقرارٍ جديدٍ في مجلس الأمن، يوفِّرُ إطاراً مختلفاً لعملية تفاوضية واسعة وشاملة تضمن مقعداً لكل الأطراف اليمنية، بما فيها الفعاليات المدنية التي نأت بنفسِها عن الاقتتال.
بدايةً، يجبُ أن يشملَ هذا الإطار الحوثيين. فبغضِّ النظر عن الدور السلبي والمُدان الذي لعبوه في الصراع، إلا أنهم ما يزالون أقوياء. ورغم المليارات من مبيعات الأسلحة لدول التحالف الذي تقودُه السعودية، إلا أنهم لا زالوا يسيطرون على نصف البلاد ويواصلون التقدم بين الفينة والأُخرى.
كما يجب أن تتضمَّنَ الصيغةُ التفاوضيةُ الجديدة حزبَ التجمع اليمني للإصلاح، النسخة اليمنية للإخوان المسلمين. قد يقول قائل إن مفاوضات سلام بهذه الصيغة لن تؤديَ إلا إلى إضفاء الشرعية على كليهما -الحوثي والإصلاح- لكن وسطاءَ السلام يحتاجون بالضرورة إلى مساحة للتعامل مع جميع الأطراف، بما في ذلك الجهات المثيرة للجدل. فالسلام يصنع مع الأعداء وليس بين الأصدقاء.
وعلى الدول الغربية أن تشجِّعَ أُولئك الذين تصِفُهم بالأصدقاء على العودة إلى المناطق الواقعة تحت سيطرتهم في اليمن. فالجلوسُ على طاولة المفاوضات لا يمكن أن يتم عن بُعدٍ أَو عبر الهاتف من منفى مريح، بل يتطلب التواجد على الأرض.
لا يمكن كذلك تجاهُلُ طبقة جديدة من أمراء الحرب والمجموعات المسلحة، بما في ذلك الانفصاليين الجنوبيين -الذين ظهروا بعد اندلاع الحرب بدعم وتمويل من دولة الإمارات العربية المتحدة-. كما لا يمكن غض الطرف عن المستفيدين من الحرب الذين يجدون مصلحتهم في إطالة أمدها.
لقد أصبح الحقلُ السياسي في اليمن أكثرَ تشظياً وتنوعاً من أي وقت مضى. فإلى جانب الأحزاب التقليدية والفصائل المسلحة، هنالك أَيْـضاً مجموعاتٌ شبابية ونسائية ديموقراطية ومدنية. ولهؤلاء جميعاً كُـلّ الحق في مقعد على طاولة المفاوضات الجديدة.
قد تبدو هذه العملية معقدة في ظاهرها، لكنها لن تكون بمثابة إعادة اختراع العجلة. فاليمنيون خَبِروا بالفعل خلال مؤتمر الحوار الوطني كيف تبدو عمليةً سياسية شاملة بقيادة يمنية. لقد استغرق الأمر من جميع المكونات السياسية نحو ستة شهور من الاستعدادات وأكثرَ من عشرة شهور أُخرى من المداولات اليومية للاتّفاق على صيغة للحكم الديموقراطي والانتقال السياسي. بعد ذلك، جاء الدور على صياغة مسودة دستور بنفس الآلية التوافقية الشاملة ذات القيادة الوطنية. واليوم أكثر من أي وقت مضى، يبدو من الضروري اتِّباع هذا النهج التوافقي للوصول باليمن إلى بر السلام.
لتحقيق إجماع بين جميع الأطراف اليمنية المتباينة في المحادثات التي أصبحت مُلحةً اليوم، لا يمكنُ للولايات المتحدة أن تتبنى مقاربةً قائمةً على الإملاءات. قد يكون من الطبيعة البشرية محاولةُ تصحيح الغلط، لكن لا ينبغي لواشنطن بأي شكل من الأشكال أن تقودَ العملية. بل عليها أن تلعب دورَ الراعي الميسِّر وأن تحاول جلبَ جميع الأطراف إلى الطاولة، وستجد حينها أن الجالسين للتفاوُضِ لن يعدموا الخيارات في إيجادِ شخصياتٍ يمنية مرموقة تربطها علاقات مع كُـلّ الأطراف. شخصيات يمكنها مساعدةَ جميع الفرقاء على الالتقاء والبحث عن حلول وسط كما فعل اليمنيون دوماً منذ آلاف السنين.
لقد آن الأوان للنخبة السياسية اليمنية كي تتحملَ مسؤولياتها، وأن تكُفَّ عن الاعتماد على جهات خارجية فقط للومها في الأخير على كُـلّ الآفات التي حلت ببلدهم. لقد ساهمت النخب اليمنية بدرجات متفاوتة في إفشال ما كان يعتبر حتى وقت قريب تحولا سياسيًّا واعداً.
لقد شدّدتُ في آخر تقرير قدمته لمجلس الأمن في أبريل 2015 على أنه ”يجبُ منحُ اليمنيين الفرصة لتقريرِ مستقبلهم بحرية ودون تدخل أَو إكراه من قوى خارجية“. وهذا الأمر لا يزال صحيحاً اليوم.
لا أحد يستطيعُ أن ينكرَ أن قرارَ الولايات المتحدة إنهاء دعمها العسكري للحرب التي تقودها السعودية في اليمن هو خبر جيد. ونأمل أن تحذو كُـلّ من بريطانيا وفرنسا حذوها. لكن هذا لن يوقف القتال في اليمن أَو يجلب السلام لشعبه.
* شغل الكاتب منصبَ المبعوث الخاص إلى اليمن بين عامَي 2011 وَ2015 ومنصبَ وكيل الأمين العام للأمم المتحدة لشؤون منع النزاعات.