بصماتُ “البيت الأبيض” على أجساد أطفال اليمن الجوعى
المسيرة | خاص
تلاشى الزَّخَـــمُ الدِّعائيُّ الأمريكي السعوديِّ حولَ “السلام” في اليمن، مع انكشافِ “الابتزاز” الذي لجأت الرياضُ وواشنطن إلى ممارستِه، لكن بقيت مسؤوليتُهما عن الأزمةِ الإنسانية في البلد متصدِّرةً واجهةَ المشهد، كنتيجةٍ عكسيةٍ لمسعى المراوغة الذي حاولتا فيه التهربَ من تداعيات هذه المسؤولية، فيما واصلت صنعاءُ الدفعَ بالمزيد من التفاصيل إلى الواجهة، في إطار تأكيد تمسكها بضرورة معالجة المِلَفِّ الإنساني بشكل كامل وعاجل وبدون أية شروطٍ سياسية أَو عسكرية، الأمر الذي يدعمُه أَيْـضاً الضغطُ الحقوقي والإعلامي المتزايد على الولايات المتحدة.
بالأمس، قالت الخارجية الأمريكية: إن المبعوث الأمريكي إلى اليمن، تيم ليندركينغ “تحدث مع المدير التنفيذ لبرنامج الأغذية العالمي، ديفيد بيزلي، حول أثر شحنات الوقود الأخيرة على المساعدات الإنسانية”، في خطوة اعتبرها مراقبون محاولةً أمريكيةً إضافيةً لإنعاش دعايات “السلام المزيَّـف”، بعد الإخفاق الأخير لجولة “ليندركينغ” إلى المنطقة؛ مِن أجلِ ابتزاز صنعاء بالمِـلَـفِّ الإنساني تحت يافطة “وقف إطلاق النار”.
شحناتُ الوقود التي يتحدث عنها المبعوثُ الأمريكي هي أربع سفن تم السماحُ لها بدخول ميناء الحديدة، علماً بأن ثلاث منها تتبعُ القطاعَ الخاص، كما أن الولايات المتحدة قد احتجزت لاحقاً سفينتين إضافيتين، وهو ما يعني أن الولايات المتحدة لا زالت متمسكة بخيار استخدام المِـلَـفِّ الإنساني كورقة ضغط، على الرغم من ثبوت فشل هذه الورقة الإجرامية.
في الواقع، لم يعد أيُّ حديث أمريكي أَو سعوديٍّ عن “المعاناة الإنسانية” في اليمن مقبولاً، وخُصُوصاً الآن، بعد أن جاهرت الرياض وواشنطن بمحاولة استغلال هذه المعاناة للحصول على مكاسبَ سياسية وعسكرية، وهذا ما يمكن ملاحظتُه اليومَ في معظم الردود على تقارير وسائل الإعلام الأمريكية حول الحصار الخانق المفروض على اليمن.
آخر هذه التقاريرِ نشرته قبل أَيَّـام صحيفة “نيويورك تايمز” حول “عودة خطر المجاعة على نطاق واسع” داخل اليمن بفعل الحصار الذي يفرضه تحالف العدوان، حَيثُ زار فريق الصحيفة مستشفى حرف سفيان، ونقل معاناة بعض الأطفال المصابين بسوء التغذية الحاد، وقد تفاعل مع التقرير الكثير من الناشطين حول العالم، والذين أكّـدوا بصيغ متعددة أن على الولايات المتحدة وبريطانيا وقف دعم السعوديّة، ورفع الحصار بشكل عاجل.
قبل ذلك، كانت شبكة “سي إن إن” الأمريكية قد أجرت تحقيقاً أكّـد استمرار السفن الحربية التابعة لتحالف العدوان المدعوم من الولايات المتحدة في منع سفن الوقود من الوصول إلى ميناء الحديدة، في الوقت الذي تمتلئ فيه المستشفيات بالأطفال الجوعى، كما أكّـدت الشبكة لاحقاً على أن سفن الوقود الأربع التي تم إطلاقها لا تكفي، وقد أثار ذلك موجةَ انتقادات واسعة من قبل نشطاء أمريكيين، وصفوا ما تقوم به بلادهم بـ”إبادة جماعية” بحق اليمنيين.
ومع انكشافِ حقيقةِ مشاركة الولايات المتحدة في حصار اليمنيين واستخدامها “التجويع” كسلاحِ حرب وورقة تفاوض، أصبح الرأيُ العام حول العالم منسجماً مع موقف صنعاء المتمسك بضرورة معالجة المِـلَـفِّ الإنساني وفصله عن المِـلَـفَّات العسكرية والسياسية، الأمر الذي يجعل السعوديّة والولايات المتحدة في مواجهة ضغوط أكبر، وقد كانت إدارة بايدن تحاول منذ أشهر الهروب من هذه الضغوط بالحديث عن “وقف الدعم للسعوديّة” و”العمل على وقف الحرب”، لكن تلك الدعايات لم تفلح في تغيير المشهد، كما لم تفلح جولة المبعوث الأمريكي التي عكست إفلاساً أمريكياً كَبيراً، وتخبطاً واضحًا في محاولة الجمع بين “الابتزاز” المعلَن، وشعارات “الإنسانية”!
في الأثناء، تواصل صنعاءُ تثبيتَ هذه الصورة على الواجهة، في إطار توضيح موقفها الثابت من المِـلَـفِّ الإنساني، وتواكب إفلاس السعوديّة والولايات المتحدة وعجزهما عن تبرير التمسك باستمرار الحصار، بالتأكيد المتجدد على أن وصول سفن الوقود والغذاء والدواء وفتح مطار صنعاء، هي استحقاقات إنسانية للشعب اليمني، ليس من حق تحالف العدوان ولا الولايات المتحدة الأمريكية منعها، أَو استخدامها كأوراق تفاوض.
في هذا السياق، كتب عضو الوفد الوطني المفاوض، عبدُ الملك العجري، على حسابه في تويتر: “في اليمن يتم التعامل مع الحصار خارج كُـلّ القوانين والأعراف والمألوف المعروف في تاريخ الحروب، فتشت فلم أجد نظيراً لما يجري في اليمن إطلاقاً لا في سوريا ولا ليبيا ولا غزة. وحدَها اليمنُ تخضعُ لحصار وقيود لا تجيزُها حتى قوانينُ النازية. فتشوا ما استطعتم لن تجدوا، ولا ذنب لنا سوى أنه من الصعب هزيمتنا”.
وبعد أن كان الحديث يدور خلال الفترة القصيرة الماضية حول “وصول سفن الوقود إلى ميناء الحديدة” و”إعادة فتح مطار صنعاء” وهما الموضوعان الرئيسيان اللذان ركّزت عليهما “مبادرةُ الابتزاز” السعوديّة الأمريكية، سلّطت صنعاءُ الضوءَ على موضوع “المرتبات” أيضاً، حَيثُ قال العجري، أمس: إن: “المرتبات، والميناء، والمطار، كلها مطالب إنسانية مشروعة عوائدها أَسَاساً للمواطنين في مناطق سيطرة السلطة الوطنية في صنعاء وحقوق أَسَاسية للمواطنين لا تسقط بالحرب، ومزاعم استخدامها لأغراض عسكرية مزاعم واهية في ظل الحصار والتفتيش المفروض على السلع الواردة، وفوق الحصار الظالم أضافوا قيوداً ظالمة”.
الحديث عن المرتبات يأتي كتنبيه مهم على أن الولايات المتحدة والسعوديّة ما زالتا مطالبتين بالكثير من الاستحقاقات الإنسانية للشعب اليمني والتي لا يجوز ربطها بأية مكاسبَ سياسية أَو عسكرية، وهو ما اعتبره البعضُ رَفْعاً لسقف المطالب، إلا أنه في الحقيقة أقرب إلى “توضيح الصورة” أكثر أمام واشنطن والرياض.
بعبارةٍ أُخرى: لا ينبغي على الأمريكيين أَو السعوديّين أن يكونَ لديهم أيُّ أمل في الحصول على مكاسبَ عسكرية أَو سياسيةٍ من وراء المقايضة بأي شيء متعلقٍ بالمِـلَـفِّ الإنساني، وليس ميناء الحديدة ومطار صنعاء فحسب؛ لأَنَّ هذا المِـلَـفَّ كله عبارة عن التزامات يقع على عاتقهم أداؤها، وليس نقاط تفاوض قابلة للتقديم كـ”عروض”، ناهيك عن أن يتم استخدامها في الابتزاز.
هذه الرسالة تأتي منسجمة مع مشروعية موقف صنعاء بخصوصِ المِـلَـفِّ الإنساني، والتي أصبحت الضغوط الحقوقية تشهدُ بها، الأمر الذي يعني أن آمال الولايات المتحدة والسعوديّة في استغلالِ الحصار كسلاح، غيرُ قابلة للتحقّق، لا الآن ولا في المستقبل.