السيد عبدالملك الحوثي في محاضرته الرمضانية الثالثة:
يجب أن تكونَ علاقتُنا بالقرآن من واقع حياتنا، في المواقف والولاءات وفي كُـلّ مجالات الحياة،
الكثيرون من أبناء أمتنا -وحتى في أوساط شعبنا- لا يزالون بعيدين عن حالة التقبل لما يأتي من القرآن، من هدى الله
القرآن يفصلنا كليًّا عن التبعية للضالين والمستكبرين والكافرين والمفسدين في الأرض، ويصلنا بالله وهذا ما يحقّق لنا الاستقلال التام كأمةٍ مسلمة
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الحَمْدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ المَـلِكُ الحَـقُّ المُبِيْن، وأشهَدُ أن سَيِّـدَنا مُحَمَّــدًا عَبْـدُه ورَسُــوْلُه خَاتَمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــدٍ وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــدٍ، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إِبْـرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ إِبْـرَاهِيْمَ إنك حميدٌ مجيدٌ.
وارضَ اللَّهُم برِضَاك عن أَصْحَابِهِ الأَخْيَارِ المنتجَبين وعَنْ سَائِرِ عِبَادِك الصالحين.
اللَّهُّم اهْدِنَا، وَتَقَبَّــــلَ مِنَّـا، إِنَّــكَ أَنْتَ السَّمِيْعُ العَلِيْمُ، وَتُبْ عَلَيْنَا، إِنَّــكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيْــمُ.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ والأخواتُ..
السَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه.
في سياقِ الحديثِ عن العلاقة مع القرآن الكريم، وعن الصِّلةِ ما بين شهرِ رمضانَ المبارك والتقوى والقرآن الكريم، تحدَّثنا بالأمسِ بعضاً من الحديث، واليوم نستكمل، ولو أنَّ الحديثَ عن القرآن الكريم هو حديثٌ واسعٌ جِـدًّا، ويمكن أن يستغرق الكثير والكثير من المحاضرات والدروس، والإنسانُ عندما يقرأ في القرآن نفسه، هو يقرأ الكثير من آيات الله، التي تتحدث عن أهميّة القرآن، وعن عظمة القرآن، وعن العلاقة مع القرآن الكريم.
مشكلتُنا -إلى حَــدٍّ كبير- كأُمَّةٍ مسلمة في العالم الإسلامي بشكلٍ عام: أننا لا نستوعب بالقدر الكافي أهميّة القرآن الكريم وعظمته، وكذلك لا نستوعب طبيعة العلاقة معه، كيف ينبغي أن تكون، ومشكلة العرب في المقدمة: أنهم لم يدركوا ولم يستوعبوا أهميّة القرآن، وعظمة القرآن، والحاجة إلى القرآن، ونعمة الله الكبرى على عباده بالقرآن الكريم.
ولذلك اللهُ “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى” أخبرنا في القرآنِ الكريمِ عن نبيه “صلواتُ الله وسلامه عليه وعلى آله” في شكواه، عندما قال: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا القرآن مَهْجُورًا}[الفرقان: الآية30]، إلى هذه الدرجة: حالة هجرٍ للقرآن، واتِّخاذه كمهجور، يعني: أكثر من مُجَـرّد الهجر، بل اتِّخاذه كمهجور، وكأنه مما ينبغي الإعراض عنه، ومما يفترض ألَّا يلتفت الإنسان إليه، وألَّا يهتم به، يتخذه مهجورا، فهو يعتبره قليل الأهميّة، قليل الفائدة، أَو حتى عديم الأهميّة، وهذه حالة خطيرة جِـدًّا، أفقدت الكثير من الناس الاستفادة من هذه النعمة الكبرى، التي يتوقف على الاهتداء بها: النجاة، والفوز، والفلاح.
اللهُ “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى” قال أَيْـضاً مذكِّراً في القرآن الكريم: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}[الأنبياء: الآية10]، القرآن فيه الذكر، ما يذكِّرنا بهدايةٍ كاملة إلى كُـلّ ما فيه الخير، والفلاح، والنجاة، والفوز، والعزة، والكرامة، والسعادة، والخير للناس في الدنيا والآخرة، وفيه الشرف الكبير أَيْـضاً، الشرف الكبير لمن يهتدي به، تسمو به نفسه، يتحقّق له به السمو، والمجد، والخير، والعزة، والكرامة، والشأن الرفيع في الدنيا وفي الآخرة.
ولذلك تعتبر خسارة كبيرة جِـدًّا عندما لا يهتدي الناس به، لا يعرفون عظمته، وقدره، وقيمته، فيعرضون عنه، ويبحثون -في أكثر الأمور- عن بدائل، سواءً -كما قلنا بالأمس- من خارج الساحة الإسلامية، أَو من داخل الساحة الإسلامية، إنتاج بدائل، بدائل من الضلال، من الضياع، بدائل ليس لها أهميّة كبيرة، بدائل لا يمكن أن تساوي القرآن الكريم في أشياء كثيرة.
عندما ندركُ أهميّةَ القرآن الكريم، ونعي كيف يجب أن تكونَ علاقتنا به، من خلال هذا المفتاح المهم: استشعار عظمته، أهميته، قيمته، فائدته، ما يترتب على الاهتداء به، والتمسك به، والإتِّباع له، وأنَّ علينا أن نُقْبِل إلى تلاوته، إلى التدبر لآياته، إلى التثقف بثقافته، إلى أن نستبصر ببصائره، إلى أن نحمله وعياً، ومعرفةً، وفهماً، ومفاهيم، نتحَرّك على أَسَاسها في كُـلّ شؤون ومجالات هذه الحياة، هذه مسألة مهمة جِـدًّا.
اللهُ “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى” قال في كتابه الكريم: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القرآن أم عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}[محمد: الآية24]، {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القرآن}، من الخطأ الكبير أن تكونَ علاقةُ الإنسان بالقرآن -في الحد الأقصى- علاقةَ تلاوة عادية، قراءة عادية، ومن دون تأمل، من دون تدبر، من دون استفادة من هديه العظيم، هذه حالة خطيرة جِـدًّا.
اللهُ “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى” أَيْـضاً قال في آيةٍ أُخرى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}[ص: 29]، فنحن معنيون أن تكون علاقتنا بالقرآن الكريم علاقة تأمل، وتدبر، واهتداء، واستبصار، واستيعاب، لما فيه من المفاهيم، لما فيه من النور، لما فيه من الإرشاد، لما يدُّلنا الله عليه في كُـلّ مجالات هذه الحياة ومختلف شؤونها، هذا هو المطلوب، لا أن تكون العلاقة -في الحد الأقصى- مُجَـرّد تلاوة، قراءة عادية، أَو البعض يزيدون أكثر من ذلك، في الاهتمام مثلاً بالتجويد، ويقفون عند هذا الحد، أَو معرفة بعضٍ من المفردات.
يجب أن تكونَ علاقتُنا بالقرآن من واقع حياتنا، من واقع حياتنا، في كُـلّ مجالات هذه الحياة، وفي المواقف والولاءات، والقرآن -كما قلنا بالأمس- هو يفصلنا كليًّا عن التبعية للضالين، والمستكبرين، والكافرين، والمفسدين في الأرض، ويصلنا بالله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”، وهذا ما يحقّق لنا الاستقلال التام كأمةٍ مسلمة.
من أكبر المشاكل التي تعيشها الأُمَّــة الإسلامية: أنَّ كَثيراً من حكوماتها، وأنظمتها، ومن مكوناتها الفاعلة في الساحة، من أحزاب واتّجاهات سياسية مختلفة، علاقتهم بالقرآن ضعيفة جِـدًّا، وعلاقتهم بأعداء الأُمَّــة الإسلامية من الكافرين، والضالين، والمفسدين في الأرض، والمستكبرين، علاقة تبعية، تبعية، يتَّبعونهم في كثيرٍ من الأمور، يرتبطون بهم في كثيرٍ من القضايا، يتصلون بهم في كثيرٍ من الشؤون (شؤون الحياة)، ويعتمدون على ما يأتي من عندهم من سياسات، وتوجيهات، ونظم، وخطط، ورؤى، وأفكار، وكما قلنا بالأمس: بإعجابٍ وانبهارٍ، هذه قضيةٌ خطيرةٌ على الأُمَّــة الإسلامية.
يجب أن يكونَ من أول ما ندركه ونعيه جيداً: أنَّ القرآن الكريم هو يصلنا بالله، ويصلنا بهديه، بتوجيهاته؛ وبالتالي برعايته، الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى” لم ينزل هذا القرآن ليكون مُجَـرّد توجيهات نعمل بها، توجيهات إيجابية، وانتهى الأمر عند هذا الحد، لا، هو مع كتابه، هو مع كتابه، فعندما نتَّبع كتابه، هذه هي صِلةٌ برعاية الله الواسعة، بنصره، بتأييده، بالبركات من عنده، بالتوفيق، بالهداية في كُـلّ مجالات الحياة، بالرعاية الواسعة الشاملة في الدنيا، وبعد الدنيا، وفي الآخرة: الجنة، ورضوان الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”، والسلامة من عذاب الله “جَـلَّ شَأْنُــهُ”، أمَّا بالإعراض عن هديه، وبالإتِّباع لبدائل من عند الآخرين، فالنتيجة خطيرة جِـدًّا في الدنيا وفي الآخرة.
هذه المسألةُ إذَا حُسِمت في الساحة الإسلامية، يترتب عليها إيجابيات كبيرة جِـدًّا، يترتب عليها تقبل لما يأتي من هدى الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”.
الآن لا يزالُ الكثيرون من أبناء أمتنا -وحتى في أوساط شعبنا- لا يزالون بعيدين عن حالة التقبل لما يأتي من القرآن، من هدى الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”، عندما تقدَّم لهم رؤية واضحة من هدى الله، من كتابه المبارك، في أي مجال من المجالات، في أي موضوع من المواضيع، يُفترَضُ أن يكون ذلك كافياً، وأن يكون هو المطلوب ابتداءً، أن يكون ما نعتمد عليه في أمور حياتنا هو هدى الله، ولكنهم لا يزالون بعيدين، وغير متقبلين، بل البعض ينزعج من مثل هذا الكلام، ويتبنى مواقف معاكسة، واتّجاهات مختلفة، ويتجه -في نهاية المطاف- ليتصدى لأي عمل، لأي تحَرّك، ينطلق على أَسَاس الإتِّباع للقرآن الكريم، والاهتداء بالقرآن الكريم، وهي حالة الإعراض، حالة الإعراض التي حذَّر الله منها، وتوعَّد عليها، وقرأنا بالأمس عنها، عن خطورة الإعراض عن القرآن الكريم، وَأَيْـضاً قرأنا من مثل قول الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى” في مناسبات متعددة: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ}[السجدة: الآية22].
الإعراض: عندما يأتي التذكير بآيات الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”، ويقدَّم ما فيها من هدى، في أي موضوع من المواضيع، في أية قضيةٍ من القضايا، في أي مجالٍ من المجالات؛ لأَنَّها للحياة؛ لأَنَّها نورٌ لنا في هذه الحياة، في كُـلّ مجالات هذه الحياة، فعندما يأتي التذكير بآيات ربنا “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”، وفيه ما يبين موقفاً محدّداً، أَو توجُّـهاً محدّداً، رؤيةً محدّدة، أوامرَ معينةً، فالشيء الصحيح الذي ينسجم مع انتمائنا للإسلام: أن نقبل، وأن يكون هذا هو الذي نريده، وليس أن نعرض، وأن نبحث عن بدائل أُخرى، وأن نتجه لتشويه ما يقدَّم من رؤى، لتشويه ما يقدَّم من أوامرَ، من توجيهات، أتت من خلال كتاب الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”.
هناك أَيْـضاً نصٌ مهمٌ عن الرسول “صلوات الله عليه وعلى آله”، يبين لنا الحاجة الماسة إلى القرآن الكريم، والأهميّة الكبيرة للقرآن الكريم، سيما والأمة ستواجه حتى في واقعها الداخلي الكثير من الفتن، فتن قال عنها النبي “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله” في أحد النصوص المروية عنه: كقِطَعِ الليل المُظلِم، تُلَبِّس على الكثير من أبناء الأُمَّــة، تشتبه عليهم الأمور إلى حَــدٍّ كبير، يلتبس عليهم-؛ بسَببِ تلك الفتن -الحق من الباطل؛ لأَنَّها تأتي العناوين من الجميع، يأتي العمل حتى لخدمة الباطل تحت عنوان الحق، يأتي العمل لإضلال الناس حتى تحت عناوين دينية، من شخصيات قد تكون منظورٌ إليها بأنها شخصيات دينية، فعند الفتن يحتاج الناس إلى نور، إلى هدى ينقذهم من الفتن.
عن أمير المؤمنين عليٍّ “عليه السلام” قال: قال رسول الله “صلى الله عليه وآله”: (ألا إنها ستكونُ فتنة)، هذا إعلان، إعلان عام، (ألا إنها ستكون فتنة)، وهو “صَلَّى اللهُ عَـلَيْـهِ وَعَـلَى آلِـــهِ وَسَلَّـمَ” يتحدث عن مستقبل الأُمَّــة، وهذا أمر مؤسف جِـدًّا، أمر مؤسف، هذه الأُمَّــة التي أنعم الله عليها بالقرآن والرسول “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”، وقدَّم الله إليها الهداية الكاملة الكافية، مستقبلها ستعاني فيه من الفتن، الفتن، وخطورة الفتن: الضلال، أنها تُضِل الكثير من الناس، ويَضِل بها الكثير من الناس، وتشتبه الأمور فيها على كثيرٍ من الناس.
(ألا إنها ستكون فتنة)، هذا الإعلان من النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” فيه إنذار، فيه تحذير للأُمَّـة؛ حتى تكون متنبِّهة.
الإمام عليٌّ “عليه السلام” بين الحاضرين، هو عنده اهتمام بالنقطة المهمة: ما دام وأنه سيكون هناك فتن في مستقبل الأُمَّــة، فالذي يجب أن نركِّز عليه هو: ما الذي ينقذ من هذه الفتن؟ ما هو المخرج من هذه الفتن؟ ما الذي يقي ويحمي من ضلال الفتن، ومن مضلات الفتن؟
فقلت: ما المخرج منها يا رسول الله؟ هذا السؤال مهم جِـدًّا، سؤال مهم جِـدًّا، هو يفيد اهتمام الإمام علي “عليه السلام” بما فيه إنقاذ الأُمَّــة، بما فيه حماية الأُمَّــة من الوقوع في ضلال الفتن ومضلات الفتن، فقلت: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: (كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحَكَمُ ما بينكم).
كتاب الله هو المخرج، هو الذي يمكن أن يقي الإنسان من مضلات الفتن، ومن الالتباس عند الفتن، ومن الاشتباه للأمور عند الفتن، لماذا؟؛ لأَنَّ القرآنَ فيه كُـلّ هذه المواصفات التي ستأتي:
أولها قال: (فيه نبأُ ما قبلكم)، القرآن يخبرنا عن الأمم الماضية، وبطريقة فيها الكثير من الدروس والعبر المهمة، التي تصنع لدى الإنسان الوعي، والبصيرة، والفهم الصحيح، والإدراك للسنن الإلهية، والمعرفة عن الاختلاف في الواقع البشري، وعن الأساليب التي تأتي من كُـلّ فئات الضلال، هذا بحد ذاته -نبأ الذي قبلنا من الأخبار، أخبار الأمم المتقدمة والسالفة، وأخبار الأنبياء وأممهم- فيه دروس كثيرة ومهمة جِـدًّا تجاه الفتن، تفيد الإنسان تجاه الفتن، يلحظ من خلال ذلك تقييماً شاملاً لكل المراحل المهمة البارزة، التي قدِّمت عنها نماذج مهمة في القرآن الكريم، ودروس وعبر كافية في أن يكون لدى الإنسان الوعي العالي جِـدًّا، والبصيرة الكبيرة، والفهم العميق الصحيح، فيكون هذا بحد ذاته -الوعي من خلال النماذج التي قدَّمها القرآن الكريم عمَّا قبلنا من الأمم والأجيال والأحداث- يكون هذا بحد ذاته عاملاً مهماً في أن يكون لدى الإنسان بصيرة وفرقان وفهم صحيح؛ فيبتعد عن حالة الالتباس، التي يعيشها الكثير من الناس.
(فيه نبأُ ما قبلكم)، والذي هذا النبأ، هذا الخبر من الأمم الماضية، متضمناً الدروس والعبر الكافية والمهمة جِـدًّا، {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}[يوسف: من الآية111].
(وخبر ما بعدكم)، خبر ما سيأتي، كيف ذلك؟ هل عن طريق السرد الإخباري، على شبيه ما يأتي في بعض الملاحم: [سيأتي في عام كذا، أَو آخر الزمان حدث كذا وكذا، ويأتي كذا، ويفعل البعض كذا]؟ لا، ليس عن طريق السرد الإخباري، في القرآن الكريم بعض الأخبار عمَّا يأتي في آخر الزمان، كمثل ما حكاه عن يأجوج ومأجوج وغير ذلك، ولكن المقصود هنا ليس السرد الإخباري، هو يخبرنا في القرآن الكريم: عن الأعمال، وعن نتائجها، وعن الأسباب، وعن نتائجها، وعن السنن التي رسمها الله في واقع هذه الحياة في أعمال الناس، ونتائجها، وهذه طريقة مهمة جِـدًّا جداً، فيستطيع الإنسان أن يعرف من خلال سلوك معين، من خلال تصرفات معينة، مسيرة عملية معينة، لأمة، لقوم، لشخص، لمجتمع، أنَّ نتائجها الحتمية هي بالتحديد كذا وكذا، نتائج جيدة، أَو نتائج سيئة، عوامل تصل بالأمة إلى حالة الانهيار، عوامل تسمو بالأمة، وترتفع بالأمة، أسباب للعزة، للفلاح، للنجاح، وللنهضة، أسباب للسقوط والانهيار، وهذا هو مهم، هذا من أهم ما تحتاج إليه الأُمَّــة، من أهم ما نحتاج إلى الوعي عنه، أن نعيَ الاتّجاهاتِ الخطيرة، وأين مآلاتُها، وأين يمكن أن تصلَ بالأمة، والاتّجاهات الصحيحة، وكيف هي نتائجها، وكيف يمكن أن ترتقي بالأمة، فيصبح هناك أَيْـضاً تقييم من خلال الواقع العملي، من خلال نتائج الأشياء، تقييم حتى للتوجّـهات الصحيحة، للأفكار الصحيحة، للمواقف الصحيحة، بقياس آثارها ونتائجها في واقع الحياة، وهذا مما يغيب عن أي طرحٍ آخر خارج القرآن الكريم، عن أي أُطروحات، أفكار، ثقافات، مفاهيم، مقروءات وعلوم، تقدم من خارج القرآن الكريم، هي لا تعطي ما يعطيه القرآن الكريم فيما يتعلق بهذا الأمر.
الآن من خلال القرآن الكريم تستطيعُ حتى أن تقيِّمَ فكرةً معينةً، أَو حتى عقيدة معينة، أَو مقولة معينة قدمت باسم الدين، عندما طُبِّقَت كيف كانت نتائجها، كيف كان آثرها في واقع الحياة، هل سلباً، أم إيجاباً؟ جيِّدًا، أم سيئاً؟ وهكذا مما يفيدُه القرآن فيصنعُ الوعي تجاهَ الفتن، والفتن يترتب عليها نتائج كبيرة جِـدًّا، لها مخرجات كثيرة، الفتن يبتني عليها عقائد، الفتن يبتني عليها: أفكار، وثقافات، ومفاهيم، الفتن ينتج عنها: توجّـهات، وولاءات، ومواقف، فالقرآن الكريم هو الذي يقيس من خلال ما يربطنا به في واقع الحياة، ويكشفه لنا من النتائج في واقع الحياة، يقيس لنا الأمور الصحيحة، والتوجّـهات الصحيحة، والمواقف الصحيحة، والعقائد الصحيحة، والمفاهيم الصحيحة.
(وحَكَمُ ما بينكم)، في القرآن ما يحكم، ما يفصل، عند الاختلاف، الاختلاف في كُـلّ الأمور، في كُـلّ المسائل، الأمور العقائدية، المفاهيم الدينية، المفاهيم العامة، يأتي القرآن الكريم ليقدم الحق، ويقدم لنا ما هو صحيح في المسألة، فيكون فصلاً، لكن يحتاج هذا إلى الرجوع إليه.
(هو الفصل، ليس بالهزل)، القرآن ما يقدمه هو فصل، وأمور جادة، ومؤكّـدة، ويجب أن نتعامل معه بجدية، لا نتعامل معه بالهزل، فما فيه هو حقائق فاصلة، ليس فيه أي هزلٍ.
(من تركه من جبارٍ قصمه الله)، من تركه، النتيجة أن يقصمه الله حتى ولو كان جباراً، بإعراضه عن القرآن، وابتعاده عن القرآن، وإن كان ينتمي للإسلام، وهو جبارٌ، مُعرِضٌ، متكبرٌ، ويرى أنه في غنىً عن القرآن الكريم، وعن هديه، عن تعليمات الله فيه، في النهاية يقصمه الله ويخسر.
(ومن ابتغى الهدى من غيره أضلَّه الله)، وهذا نص مهم جِـدًّا، (ومن ابتغى الهدى)، إنسان يريد الهدى، ويطلب الهدى، ويسعى للحصول على الهدى، ولكنه لا يريد أن يعتمد على القرآن الكريم في ذلك، قد تكون عنده نظرة خاطئة تجاه القرآن يستنقص القرآن يعجب بكتب أُخرى، بمصادر أُخرى، ويرى أن فيها الهداية الكافية، ويكون تعامله مع القرآن الكريم، إما تعاملاً ثانوياً هامشياً، أَو بالإعراض التام، النتيجة: أن يضل، وأن يضله الله، فلا يهتدي أبداً، حتى وهو حريصٌ على الهدى، لكنه لم يأت للهدى من قناته الصحيحة، من القرآن الكريم.
(وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم)، هو حبل الله الذي إن تمسكنا به أنقذنا الله بذلك، وارتفع بنا من وحل الضلال، من وحل الشقاء، من الحضيض، الذي يسقط إليه الناس، عندما يبتعدون عن القرآن الكريم، فهو الحبل الذي دلاه الله لنا؛ لينقذنا به، وليرفعنا به من وحل الضلال والشقاء والخُسْرَان والعياذ بالله.
(المتين): الذي لا ينقطع، لا ينفصل، موثق وقوي، (وهو الذكر الحكيم)، فقوله: (حبل الله)، هو يصلنا بالله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى”، يصلنا بالله، إذَا أردنا أن ينقذنا الله من دون أن نستمسك بحبله هذا، لن نحصل على الإنقاذ؛ لأَنَّه قد قدم لنا وسيلة الإنقاذ إلينا، والخلاص لنا، فإذا لم نأخذ بها، لا ننجو.
(وهو الذكرُ الحكيم)، كُـلّ ما فيه حكمة، ويهدي إلى ما هو حكمة، إلى المواقف الحكيمة، الرؤى الحكيمة، الأعمال الحكيمة، الأقوال الحكيمة… إلخ.
(وهو الصراطُ المستقيم)، الذي إن سرنا على ضوء هديه، يصل بنا إلى الغايات العظيمة، والتي من آخرها وأهمها: رضا الله، والجنة، والسلامة من عذاب الله.
(هو الذي لا تزيغ به الأهواء)، مهما أتى الآخرون من ذوي الأهواء ليتقولوا عليه، وليقولوا عنه ما ليس فيه، من مفاهيم باسم تفسير خاطئ، أَو باسم كذلك حديث خاطئ، ليس صحيحاً، يحسب على أنه معنى لآية، أَو مفهوم لنصٍ قرآنيٍ معين، فمهما أتى هذا التلبيس، وأتى في واقع الأُمَّــة بشكل كبير، لكن القرآن يبقى في أصله سليماً، وعند العودة إليه من خلال قرنائه، يتضح لنا بطلان كُـلّ ما حُسِبَ عليه من تفاسير غير صحيحة، أَو مفاهيم غير صحيحة، يبقى أصله سليماً.
(ولا تلتبسُ به الألسن): المتقوِّلون الكثيرون، الذين يخدمون الباطل، ويفترون على الله الكذب، وكذلك هو الحال، كمثل ما قال: (لا تزيغ به الأهواء)، (لا تلتبس): يبقى القرآن في أصله سليماً لمن عاد إليه، وعندما يقدم من خلال قرنائه، تتضح الحقائق التي تعبر عن مفاهيمه الصحيحة.
(ولا يشبعُ منه العُلماءُ)؛ لأَنَّه بحرٌ من العلوم، والمعارف، والمفاهيم، لا يمكن أن ينفد، ولا أن ينضب معينه، ولا أن يدرك قعره، ولا أن يستكمل الإنسان كُـلّ ما فيه من المفاهيم والهدى، الله قال: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ}[لقمان: من الآية27]، حتى لو أصبح الإنسان عالماً كَبيراً، لا يمكن أن يكون قد استكمل القرآن، وفرغ من كُـلّ ما فيه من الهدى، وأحاط بكل ما فيه من المعارف، لا يصل إلى ذلك أبداً، وَلا يزال بحاجة إلى المزيد والمزيد، ولا يزال عطاء القرآن واسعاً جِـدًّا جداً، هذه النظرة غابت، غابت حتى عند الكثير ممن هم يتحَرّكون باسم علماء، أَو باسم طلاب علم، لم تعد نظرتهم إلى القرآن الكريم هذه النظرة، وجعلوه هناك على جنب، مهمَّشاً إلى حَــدٍّ كبير، واستغنوا عنه بأشياء أُخرى لا تغنيهم، لا تفيدهم، وأعطوها كُـلَّ الجهد، وكل الاهتمام، وكل الوقت، واستغرقت منهم كُـلّ اهتمامهم، وكل جهدهم، وكل جدهم، وكل عنايتهم، مع تعظيمٍ لها يكاد يكون أكثر من تعظيم القرآن الكريم.
(ولا يخلق على كَثْرِةِ الرَّدِّ): لا يبلى، لا يبلى، كلما عاد الإنسان إليه، كلما تأمل فيه، كلما استزاد منه، من معارفه، من هديه، من نوره، لا يبلى، يتجدد عطاؤه بشكلٍ مُستمرّ، ويواكب كُـلّ الأحداث، كُـلّ الأزمنة، كُـلّ المتغيرات، كُـلّ الظروف، فيعطي المزيد والمزيد والمزيد، وهكذا.
(ولا تنقضي عجائبُه)، عطاؤه فيما يعطي من هدى، ونور، وحكم، ومعارف، كلها عجيبة، كلها ثمينة، كلها ذات أهميّة، لا تقول أنه: لم يعد يعطي إلا حثل، وإلا معارف عادية، أَو نفدت منه الحكم العجيبة، الهدى العظيم، الدلالة العجيبة جِـدًّا، المعارف العجيبة، لا، بشكل مُستمرّ، عطاؤه عطاء نفيس وعظيم ومتميز.
(هو الذي لم تنته الجن، إذ سمعته حتى قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إلى الرُّشْدِ}[الجن: 1-2])، هؤلاء الجن الذين عندما سمعوه قالوا هذا القول، هم أدركوا أهميّة القرآن وعظمته، فقالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا}، عرفوا أنه ليس كتاباً عادياً، وليس شيئاً عادياً، هو شيءٌ عظيمٌ، شيءٌ عجيبٌ ومتميز، {يَهْدِي إلى الرُّشْدِ}، عرفوا وظيفةَ القرآن الأَسَاسية، وهي الهداية إلى الرشد.
(من قال به صدق، ومن عمل به أُجِر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه فقد هدى إلى صراطٍ مستقيم): عندما تتحَرّك على أَسَاس القرآن، عندما تكون مسيرتك قرآنية، تقول به، تركز على أن تقدم هديه للناس، وأن تتحدث من خلال آياته ومعارفه، تقدمها إلى الناس، فأنت تصدق؛ لأَنَّ كُـلّ ما فيه صدق، هذا يبعدك عن تقديم مفاهيم خاطئة، وأفكار خاطئة، وروايات غير صحيحة، ومقولات غير صحيحة، من أقوال الناس، فالتركيز على القرآن الكريم، والتمحور حول القرآن الكريم، فيما يقدم إلى الناس، لتعريفهم بالدين، لتوعيتهم، لتبصيرهم، يجعل الإنسان يقدم حقائق.
(ومن عمل به أُجِر): عندما تعمل به، فيما يدعو إليه، فيما يوجه الله فيه إليه، تحصل على أجرك من الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَـى” في الدنيا والآخرة، لذلك ثمرة عظيمة في عاجل الدنيا وفي أجل الآخرة.
(ومن حكم به عدل): عندما تحكم به، فأنت تعدل، وتقيم القسط؛ لأَنَّ مضمونه وما فيه مما يفصل بين الناس في كُـلّ اختلافاتهم هو العدل.
(ومن دعا إليه): دعا إلى القرآن، إلى اتباعه، إلى الاهتداء به، إلى التثقف بثقافته، إلى إعطائه أولوية على ما سواه، مما يقدم باسم كتب، أَو ثقافات، أَو مفاهيم، إلى أن يكون هو المعيار الفاصل الحاسم، تجاه مختلف الثقافات والمقولات.
(فقد هدى إلى صراطٍ مستقيم): إلى الاتباع له، إلى التمسك به، إلى الالتزام به، (فقد هدى إلى صراطٍ مستقيم): لم يغش الناس، وقدم ما فيه هداية إلى الصراط المستقيم، الموصل إلى الغايات الكبرى والعظيمة.
هذا النص النبوي فيه ما يكفي ويفي أَيْـضاً، إلى جانب الآيات القرآنية العظيمة، التي تحدثت لنا عن القرآن وعظمته، ليكون دافعاً لنا إلى أن نلتفت بكل جدية إلى الاهتمام بالقرآن الكريم، وإلى أن نؤمن به إيْمَـاناً متكاملاً، وأن نتحَرّك على أَسَاس الاستجابة الكاملة، في مواقفنا، في ولاءاتنا، في حركتنا في هذه الحياة، في كُـلّ مجالاتها؛ حتى لا ندخل في محذور الإيْمَـان ببعض والكفر ببعض، هذه حالة خطيرة جِـدًّا، عندما نقبل بعضاً من القرآن على المستوى العملي، ونرفض البعض الآخر على المستوى العملي، هذه الحالة الخطيرة التي حذر الله منها في قوله: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إلى أَشَدِّ الْعَذَابِ}[البقرة: من الآية85]، نعوذُ بالله، تحذير ووعيد شديد.
نكتفي بهذا المقدار..
وَنَسْأَلُ اللهَ سُـبْـحَـانَـهُ وَتَـعَـالَـى أَنْ يتقبَّلَ مِنَّا ومنكم الصيامَ، والقيامَ، وصالحَ الأعمال، وَنَسْأَلُهُ –جَلَّ شَأْنُهُ- أَنْ يَرْحَمَ شُهْدَاءَنا الأبرارَ، وأن يشفيَ جرحانا، وأن يفرِّجَ عن أسرانا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بنصْرِهِ.. إِنَّـهُ سَمِيْـعُ الدُّعَـاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه..