السيد عبدالملك الحوثي في محاضرته الرمضانية الرابعة:
عندما نسير على هدى الله فسَيَمُـنَّ علينا بالحياة الطيبة في الدنيا، سنحظى برعايةٍ واسعة من الله ولن نكون في خسارةٍ أبداً حتى عندما نواجه العناء
الحياةُ المستقبلية في الآخرة والموتُ فاصلٌ قصيرٌ تنتقل من خلاله إلى الحياة الأبدية والدائمة
عالم الآخرة ليس مجهولاً حتى يخاف الإنسان منه بل عالمٌ تحدَّث الله عن تفاصيله في القرآن الكريم على نحوٍ واسعٍ
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الحَمْدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ المَـلِكُ الحَـقُّ المُبِيْن، وأشهَدُ أن سَيِّـدَنا مُحَمَّــدًا عَبْـدُه ورَسُــوْلُه خَاتَمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــدٍ وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــدٍ، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إِبْـرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ إِبْـرَاهِيْمَ إنك حميدٌ مجيدٌ.
وارضَ اللَّهُم برِضَاك عن أَصْحَابِهِ الأَخْيَارِ المنتجَبين وعَنْ سَائِرِ عِبَادِك الصالحين.
اللَّهُّم اهْدِنَا، وَتَقَبَّــــلَ مِنَّـا، إِنَّــكَ أَنْتَ السَّمِيْعُ العَلِيْمُ، وَتُبْ عَلَيْنَا، إِنَّــكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيْــمُ.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ والأخواتُ..
السَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه.
يقولُ اللهُ “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” في كتابه الكريم: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ}[الأنبياء: 1-3]، يتبين لنا من خلال هذه الآيات المباركة أن من أخطر العوامل التي تبعد الإنسان عن التقوى، وعن العمل الصالح، وعن الاستقامة في هذه الدنيا، والاتباع لهدى الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، هي الغفلة عن الجزاء، والإعراض عن المستقبل الأبدي الدائم الآتي لهذا الإنسان. هذه الغفلة ينتج عنها الإعراض، والاتّجاه ذهنياً، والاتّجاه عمليًّا، وبشكلٍ رئيسي إلى الانشغال بأمور هذه الحياة، وكأنه لا وجود لنا إلا في هذه الحياة، أن وجودنا كبشر يقتصر على هذه الحياة الدنيا، فيتوجّـه نحوها كُـلّ الاهتمام، وكل التركيز، وكل الانشغال، الذهني والنفسي.
عندما نذكّر أنفسَنا، وبالذات عندما نذكّر أنفسنا كمؤمنين، نؤمنُ بالله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، نؤمنُ برسله وأنبيائه وكتبه واليوم الآخر، فنحن نجد أن الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” قدم لنا في القرآن الكريم، وهو من أَسَاس ما نؤمن به: أنه “جلَّ شأنه” خلقنا لحياتين، في القرآن الكريم يقدم لنا تصوراً لحياتين خلقنا الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” لهما: الحياة الأولى، والحياة الأُخرى.
- الحياة الأولى: لها مدة محدودة وقصيرة.
- والحياة الأُخرى: لا نهاية لها، ولا انقطاع لمدتها، حياة أبدية.
إذا غفلنا عن هذا المستقبل في الحياة الأبدية، ولم نعد نستذكر ونستحضر إلا هذه الحياة المحدودة المؤقتة، فهنا ندخل في حالة الغفلة، وهنا نتشبث في هذه الحياة ونتجه في سبيل الحصول على رغباتنا في هذه الحياة، ومتطلباتنا في هذه الحياة، بأي طريقة، بأي وسيلة، بأي ثمن، وهذا هو من أهم عوامل الانحراف للكثير من المنحرفين في هذه الحياة، أنهم في سبيل الحصول على مبتغاهم، على شهواتهم، على رغباتهم، على آمالهم، على طموحاتهم، في سبيل الحصول على ما يحقّق هوى أنفسهم، لا يرتدعون، ولا ينزجرون، ولا يتحرون، عن فعل أي شيءٍ، مهما كان معصيةً، مهما كان إثماً، مهما كان جرماً.
فاللهُ “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” في القرآن الكريم، وفي آياتٍ كثيرةٍ جِـدًّا، تحدَّثَ عن حياتنا في الآخرة، وأنها حياةٌ لا بدَّ منها، وأنها آتية، وقدم لنا في القرآن الكريم أَيْـضاً تصوراً عن هاتين الحياتين، وما بينهما من ترابط، وما يميز كلاً منهما عن الأُخرى، وأول ما يميز هاتين الحياتين، يميز كلاً منهما عن الأُخرى، هو الوقت، أن هذه الحياة هي حياة محدودة، مؤقتة، أنت موجودٌ فيها بأجلٍ محدود، والأجل هذا ينقضي، يمر وينقضي، وما مضى منه كأنه أحلام، كأنه مر وانقضى سريعاً جِـدًّا.
بينما تلك الحياةُ المستقبلية في الآخرة، هي حياةٌ أبديةٌ لا انقطاع لها، والموت بينهما هو فاصلٌ قصيرٌ ونقلة، نقلةٌ، تنتقل من خلاله إلى تلك الحياة الأبدية والدائمة.
ولذلك يؤكّـدُ اللهُ “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” في آياتٍ كثيرة على هذه الحقائق، وينبهنا إليها في القرآن الكريم، منها قوله “جلَّ شأنه”: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[البقرة: الآية28]، هذا الإيمان بهذه الحياة الأُخرى، وأنها آتية، وأن هذه الحياة ليست إلا جزءاً بسيطاً في مقابل تلك الحياة، وأن الإنسان في الأَسَاس مخلوقٌ للأبد، والفناء بالنسبة له هو حالة عارضة، وحالة فاصلة، ينتقل بعدها إلى حياةٌ أُخرى، له أهميّةٌ كبيرةٌ جِـدًّا، أولاً كي لا نتشبَّثَ بهذه الحياة، ويكونَ كُـلُّ اهتمامنا، كُـلُّ اهتمامنا متوجّـهاً نحوها على حساب هذه الحياة الآخرة الأبدية المهمة، وهذه نقطة مهمة جِـدًّا؛ لأَنَّ الكثيرَ الكثيرَ من الناس اتَّجهوا بكل اهتماماتهم إلى هذه الحياة، وغفلوا بشكلٍ تامٍّ عن الحياة المستقبلية الأبدية الدائمة، وبذلك تورطوا في الكثير من المعاصي، وأعرضوا، وهذا يؤثر حتى على استقامة هذه الحياة؛ لأَنَّه كما قلنا: هناك ترابط ما بين هذه الحياة والحياة الأُخرى، وهذا ركّز عليه القرآنُ الكريم كَثيراً، ومن ضمن ذلك في قوله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى}[طه: 123-126]، فهنا نجد الربط ما بين هاتين الحياتين، استقامتك في هذه الحياة، هو خيرٌ لك في هذه الحياة نفسها، وهو أَيْـضاً أَسَاسيٌ لا بدَّ منه في أن تستقيم حياتك الأُخرى الأبدية والدائمة.
إذا لم تستقمْ على أَسَاس هدى الله في هذه الحياة، فأنت ستكون خاسراً في هذه الحياة، لو نلت منها ما نلت، ولو حصلت منها على ما حصلت، فأنت لا بدَّ خاسر؛ لأَنَّ ما يميز أَيْـضاً هذه الحياة عن الحياة الأُخرى: أن هذه الحياة ممزوجةٌ بالمنغصات، ممزوجةٌ بالخير والشر، والسعادة والشقاء، والعسر واليسر، والسقم والعافية، مع أنها حياة محدودة، مؤقتة، قصيرة، هي أَيْـضاً ممزوجةٌ بالخير والشر، ليس فيها خيرٌ خالصٌ، ولا شرٌ خالص، ولا شقاءٌ دائم، تتنوع حالات الإنسان فيها، الإنسان فيها يمر بحالات مختلفة، بحالات متنوعة، أحياناً في يسرٍ، وأحياناً يكون في عسر، أحياناً في عافية، وأحياناً يكون في حالة سقمٍ ومرض، أحياناً في غنىً، وأحياناً في حالة فقرٍ وشدة، أحياناً في حالة فرح، وأحياناً في حالة حزن، وهكذا، حالات مختلفة، حالات متنوعة، وأحوال متنوعة، هذا فيه درس كبير لهذا الإنسان:
أولاً يبين لنا حقيقة هذه الحياة؛ حتى لا نؤثرها على تلك الحياة الآخرة، الأبدية؛ لأَنَّ تلك الحياة على العكس من هذه الحياة، خيرها خالصٌ، ليس فيه أية منغصات، ولا لحظة واحدة، عندما تكون في نعيمها يمكن أن تعتريك لحظة واحدة، أَو ذرة واحدة من الشقاء، أَو الغم، أَو الحزن، أَو الألم، أَو الهَمِّ، أَو الضجر، أَو الضيق، أَو العناء، أَو التعب، هي حياةٌ نعيمها نعيمٌ خالصٌ من أية منغصات ولا لمستوى لحظة واحدة، والشر فيها كذلك هو شرٌ خالص، في الحياة الآخرة الشر خالص، لا يمكن أن يكون هناك لحظة واحدة من الراحة، ولا لحظة واحدة يفارقك فيها الألم والعناء والوجع والشدة والعذاب، فخيرها خالصٌ، وهو على أرقى مستوى، نعيمٌ عظيمٌ جِـدًّا، وشرها إذَا كان الإنسان في تلك الحياة، إذَا كان خاسراً وإلى العذاب، فشرها خالصٌ وعذابها خالص، وعلى مدى مليارات السنين، وعلى مدى ذلك الزمن الذي لا انقضاء له، وتلك المدة التي لا نهاية لها، لا يمكن أن تحظى حتى بلحظة واحدة، ولا بثانية واحدة، من الراحة، ولا بلحظة واحدة من أن يفارقك فيها الألم، والوجع، والعذاب، والشدة، والضيق، والعذاب النفسي والجسدي.
فإذا كان هذا هو حال كُـلٍّ من هاتين الحياتين، أفلا يجدر بنا أن نحرص على أن نسيرَ في الاتّجاه الذي فيه الخير لنا في هذه الحياة، وفي تلك الحياة المستقبلية الأبدية، عندما نسير على أَسَاس هدى الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، فاللهُ سَيَمُنَّ علينا بالحياة الطيبة، سنحظى في هذه الحياة برعايةٍ واسعة من الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، ولن نكون في حالة خسارةٍ أبداً، حتى عندما نواجه العناء، فهو عناءٌ مكتوب، مكتوبٌ لنا، عندما نواجه شيئاً من عناء هذه الحياة، من عسرها، أَو من ضيقها، عندما نضحي ونحن في إطار العمل في سبيل الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، ونحن في إطار الاهتداء بهدى الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، ونحن نتحَرّك على أَسَاس ما وجهنا الله إليه، أي عناءٍ يحصل لنا ونحن في حال ذلك هو عناءٌ مكتوب، لك فيه ما يقابله، وأنت في نفس الوقت تكون في حالة رضا عن الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، بل إنه سيكون عاملاً مهماً في أن يدفع بك أكثر وأكثر إلى الاهتمام بما يؤمِّن لك تلك الحياة الأبدية الدائمة، وأنت في الأَسَاس لا تكترث؛ لأَنَّك تدرك أنه وحتى إن نالك شيءٌ من العسر في هذه الحياة، أَو من العناء في هذه الحياة، فأنتَ متجهٌ بآمالك لتلك الحياة الأبدية، والسعادة الخالصة، التي لا يكدر صفوها أي عناء، ولا أي ضر، ولا أي شر، ولا أي كدر، ولذلك أنت في حالة رضى عن الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، أنت لا ترى نفسك خاسراً، حتى لو كان الثمن أن تضحي بنفسك، أن تقتل شهيداً في سبيل الله، هذه بالنسبة لك ليست خسارة، تنتقل بعدها شهيداً، في حياة الشهداء إلى يوم القيامة، رابحاً، تنال حياة أفضل من هذه الحياة، ثم تأتي أَيْـضاً مرحلة الحياة الآخرة، التي هي حياةٌ سعيدةٌ للأبد في جَنَّةِ المأوى.
عندما تقدم شيئاً من مالك، عندما تواجه العناء والجهد في حياتك، وأنت في هذا الطريق الذي تضمن به مستقبلك الأبدي، والسعادة الدائمة، فأنت في حالة رضا؛ لأَنَّك تدرك أنه: إن نالني شيءٌ محدودٌ يسيرٌ من العناء، فهو في مقابل أنني سأرتاح الراحة الدائمة، الراحة الأبدية، سأسعد السعادة العظيمة على أرقى مستوى، والحال مختلف، الحال مختلف لمن لم يحسب حساب الحياة الآخرة، لمن لم يحسب حساب حياتين يعيش فيهما، وإنما حياة واحدة هي هذه الحياة، لن تصفو له هذه الحياة، لن تصفو له أبداً، حتى وإن كانت له إمْكَانيات، وحصل على وفرة من هذه الدنيا، وكان لديه أموال، ولديه ممتلكات، ولديه إمْكَانيات، فهو لن يسعد بذلك، لا بدَّ أن يكون معانياً، لا بدَّ أن تأتيه المعيشة الضنكا، وفق الوعيد الإلهي، وفق الوعيد الإلهي؛ لأَنَّ الله قال: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}، تختلف هذه الحالة من شخصٍ إلى آخر.
البعض قد تكون حياته الضنكا، ومعيشته الضنكا، والضيق الذي يأتيه في حياته، حتى بأمواله، حتى بممتلكاته، حتى بسلطانه، حتى بموقعه الاجتماعي الذي راهن عليه، وكان بالنسبة له أهم شيء، قد يكون سبب عناءٍ له، ولا ينال الراحة النفسية التي يبتغيها، يمكن للإنسان أن يعذب حتى بالمال، ويمكن للإنسان أن يعذب حتى بموقعه في السلطة، أن يكون ذلك سبب اضطراب وقلقٍ مُستمرٍّ بالنسبة له، وهَمٍّ دائم، وانشغالٍ نفسيٍّ وذهنيٍّ على نحوٍ غير طبيعي، ليس فيما يؤمل من ورائه الخيرَ عند الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، والمستقبل الأبدي السعيد والمُهِم.
فلذلك لن تصفوَ له هذه الحياة، إنما يأتيه فيها ما يكدرها، وتأتيه فيها المنغصات الكثيرة، فينال أَيْـضاً مع خيرها من شرها، ومن عسرها، ومن آلامها، ومن همومها، ومن منغصاتها الكثيرة، والذي هو في هذه الدنيا قد يجد نفسه أنه أكثر الناس ثروةً، أَو أنه أكبر الناس سُلطاناً وجاهاً، لا يمكنه أبداً أن يعيش ولو لفترةٍ مؤقتة محدودة من حياته، بدون أن يعاني من الهموم، من الآلام، من الأمراض، من المشاكل، من القلق، من العوامل الكثيرة التي تنغص عليه حياته هذه، فلن تصفوَ له هذه الحياة أبداً، وهذا أمرٌ واقعي، قائمٌ في حياة الناس، حتى على مستوى أغنيائهم، وملوكهم، وسلاطينهم، وأصحاب الثروة والجاه والمال فيهم، من يتجه في حياته كُـلّ اتّجاهه ليستمتع بهذه الحياة، لتطيب له هذه الحياة، لن يحصل له ذلك، لكن إذَا كان عند الإنسان توجّـه على أَسَاس ما يصوره لنا القرآن الكريم، وما يقدمه الله لنا في القرآن الكريم، وما أخبرنا به، عن حياتين مترابطتين، استقامتك في هذه الحياة هي أَسَاس لاستقامة حياتك الأُخرى الأبدية ومستقبلك الدائم، هنا سيكون هناك فارق كبير، سيتحقّق لك في هذه الحياة ما قاله الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى}.
على مستوى المكاسب المعنوية، الراحة والاطمئنان الكبير، وأنت تتحَرّك في حياتك هذه على نحوٍ هادفٍ، وبأهداف عظيمة جِـدًّا، ولك صلتك بالله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، ترجوه “جلَّ شأنه”، وتعمل على أَسَاس الحصول على مرضاته، وهذا له أهميّة كبيرة على مستوى الرضا النفسي، والاطمئنان النفسي، والحياة الطيِّبة، {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}، ولا تعني الحياة الطيِّبة ألا تواجه في هذه الحياة مشاكلَ، أَو هموماً، أَو أمراضاً معينة، أَو صعوباتٍ معينةً، أَو تحدياتٍ معينةً، أَو معاناةً معينةً، ولا يعني ذلك أنَّ هذه الحياة لم تعد ميدان مسؤولية، ودار ابتلاء، ودار عمل، لا، هذا كله لا بدَّ منه، لكن هناك فارق كبير جِـدًّا على المستوى النفسي، وعلى مستوى الواقع، واقع حياتك أنت، في الحالة التي لك فيها صلةٌ بالله سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى، أنت مؤمنٌ به جلَّ شأنه، ترجوه، وتخافه، وتحبه، هذه الحياة لديك فيها هذه الصلة العظيمة، التي تزيح عنك أكثر الهموم، وتنال فيها رعاية الله سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى، وفضله الواسع، الذي ينقذك ويقيك من أكثر الأشياء.
ثم أنت تشعر بقيمة ما تعمله، وأهميّة ما تقدِّمه، ثم آمالك ممتدةٌ إلى مستقبلك الكبير في الآخرة، هذه مسألة مهمة جِـدًّا، ولهذا سمَّى الله هذه الحياة بالمتاع، بالمتاع، وأنها ليست إلَّا حياةً مؤقتة، هي جزءٌ من وجودك كإنسان، هذا الوجود الذي جزءٌ منه في هذه الحياة، وجزءٌ منه يستمر في مستقبلك الكبير في الآخرة.
الخطورة على الإنسان: عندما يؤثر هذه الحياة على تلك الحياة، ثم يغفل عن تلك الحياة، ولا يحسب حسابها، هنا الخطورة، ولهذا قال الله سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى في القرآن الكريم، {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالآخرة خَيْرٌ وَأَبْقَى}[الأعلى: 16-17]؛ أمَّا عندما تحمل هذا الإيمان، وهذا اليقين، وهذا الوعي، فأنت ستحسب حساب هاتين الحياتين، وتحسب حساب هذا الارتباط بين هذه الحياة وهذه الحياة الأُخرى، الحياة الثانية، الحياة الأبدية، ولذلك لا قلق عندك.
القلق الكبير عند من اتجهت كُـلّ آمالهم نحو هذه الحياة، هم يرونها حياةً قصيرةً، فتتجه كُـلُّ آمالهم نحوَها، وعذاباتهم الكبيرة لما يفوت منها، وهمومهم الكبيرة عندما لا تصفو لهم، وسعيهم الدؤوب الذي لن يصل بهم إلى نتيجة في كيف تستقر لهم هذه الحياة، ولذلك لن يصلوا إلى نتيجة؛ لأَنَّها متاعٌ، حياة مؤقَّتة ومحدودة، وما فيها هو قليلٌ يفنى ويزول وينتهي، لكن من يحسب حساب هاتين الحياتين، وأن وجوده المستقبلي هو وجودٌ مهمٌّ جِـدًّا، وأنَّ الله خلقه في الأَسَاس لكي يكون موجوداً للأبد، إنما الفناء في حقه حالةٌ عارضةٌ -كما قلنا- وفاصلٌ قصير، إذَا أصبحت نظرته ممتدة هناك إلى أفقٍ واسع، وفضاءٍ واسع، ورَحْبٍ واسع، لا يعيش هذا القلق والاضطراب نتيجة اتّجاهه إلى فقط حياةٍ مؤقتة.
ثم يكون ما ينالك في هذه الحياة من أحوالها المختلفة، وهي -كما قلنا- حياةٌ ممزوجة بالعسر، واليسر، والسقم، والعافية، وحالة الفرح، وحالة الحزن، وحالاتٌ متفاوتة متنوعة، تتنقل فيها أنت، تكون بالنسبة لك درساً مهماً، فهي نماذج مصغَّرة جِـدًّا من أحوال تلك الحياة الأبدية؛ لأَنَّ ما في تلك الحياة الأبدية هو على أرقى مستوى، وعلى أشد مستوى في جانب الشر أَيْـضاً، وللأبد.
عندما ينالك اليسر في هذه الحياة، عندما تشعر بالرضا، عندما تشعر بالسعادة، بالراحة، بالاطمئنان، فليذكِّرك هذا بالسعادة الأبدية، بالراحة الأبدية، التي هي على أرقى مستوى، ما يمكن أن تناله هنا في هذه الحياة من حالة فرح، أَو سرور، أَو اطمئنان، أَو سعادة، أَو ابتهاج، أَو توفر لشيءٍ من آمالك ورغباتك، هو نموذج مصغَّر جِـدًّا جداً جِـدًّا فيما يقابله في عالم الآخرة، السرور هناك الذي هو سرورٌ، وفرحٌ، وابتهاجٌ، وراحةٌ، ورضا، واطمئنان على أرقى مستوى، لا يقارنُ أبداً فيما هنا من هذا النموذج اليسير الصغير المحدود جِـدًّا، فلتهتم، فلتسعَ، فلتحرص، فلتعمل على أن تصل إلى ذلك الرضا، إلى ذلك السرور، إلى ذلك النعيم، إلى تلك الراحة، التي هي عظيمةٌ جِـدًّا، ولا نهاية لها، ولا يشوبها أيُّ منغِّصٍ، ولا يشوبها أي شيءٍ من هذه الحالات التي تأتي فتنغِّص عليك راحتك هنا في هذه الدنيا، فكِّر في هذه الحياة المستقبلية الدائمة، التي ستكون فيها فرحاً بلا انقطاع، مستبشراً، وراضياً، ومطمئناً، ومرتاحاً بدون أية منغصات، وعلى نحوٍ دائمٍ وأبدي، أليست جديرةً منك بالاهتمام؟ أليست جديرةً منك بالعمل؟
البعض -مثلاً- قد يعاني، قد يبذُلُ جهداً، قد يكد، قد يتعب في مقابل أن يحصلَ على راحة في بعض الحالات، على متطلباتٍ معينة قد يرتاحُ بها لبعض الوقت، عندما يصل إلى تلك الراحة، عندما تتوفر له تلك المتطلبات، تهون عنده كُـلّ المتاعب التي حصلت له في سبيل الحصول عليها؛ لأَنَّه شعر بالرضا عندما وصل إلى تلك المتطلبات، أَو تحقّقت له تلك الراحة، شعر بالرضا، ووجد أنها تستحق منه ذلك الجهد، وذلك العناء؛ لأَنَّه في الدنيا لا نصل إلى راحة إلَّا بعناء، إلَّا بعمل، إلَّا بجهد، لا يصل الإنسان إلى متطلبات معينة من حياته إلَّا وقد سبق ذلك شيءٌ من الجهد، والعناء، والمتاعب، والصعوبات، ولكنه عندما يصل إلى تلك الراحة، قد يجد أنها تستحق منه ذلك العناء، وذلك الجهد، ففكِّر في تلك الراحة العظيمة جِـدًّا، ذلك النعيم العظيم جِـدًّا، الذي هو على أرقى مستوى، لا يماثله شيءٌ في هذه الدنيا، حتى فيما يمكن أن يكون قد وصل إليه أغنى الأغنياء من الناس، أكثر الناس مالاً وسلطاناً وتمكّناً في هذه الدنيا، لا يمكن أن يصل إلى ما يصل إليه أقل الناس نعيماً في الجنة، أقل الناس وأدنى الناس فيما وصل إليه من نعيم الآخرة، هناك نعيم عظيم جِـدًّا، على مستوى راقٍ جِـدًّا.
كذلك فيما يتعلق بما تمر به في هذه الحياة من حالات عسر، أَو ألم، أَو وجع، أَو عناء، أَو ضيق، أَو ضجر، أَو همّ، كُـلّ هذه الحالات التي تعرض لك، كيف تترك أثرها على نفسك؟
الإنسان عندما يأتيه آلام شديدة جِـدًّا، كيف يشعر بالضيق، والتعب، والعناء الشديد، عندما يأتي له حزن من أمرٍ معين، فيستغرق في حالة الحزن تلك، ولم يعد يشعر بحالةٍ فرحٍ ولا ارتياح، وأصبح يعاني نفسياً من تلك الحالة من الحزن الشديد، أَو الضجر والغضب والضيق النفسي، الذي يجعله في بعض الحالات يتمنى الموت، الإنسان في بعض الحالات، كثيرٌ من الناس من شدة الضيق النفسي، من شدة العناء، من شدة الهم، من الكدر، من الضجر، قد يتمنى أن يموت، أَو من الألم كذلك، البعض من شدة الألم قد يتمنى أن يموت، هذه الحالة عندما تعرِض لك، هي ليست إلَّا نموذجاً مصغَّراً جِـدًّا جداً جِـدًّا عما يمكن أن يحصل لك في الآخرة عند الهلاك والعياذ بالله، إذَا كان مستقبل الإنسان إلى العذاب.
ما يأتيك هناك في عالم الآخرة من العذاب الجسدي، والأوجاع الشديدة جِـدًّا في كُـلّ جسمك، في كُـلّ مكانٍ من جسمك، ما يأتيك على المستوى النفسي من الضيق الشديد، من الضجر الشديد، من الهمِّ الشديد، من العناء الشديد، أمرٌ رهيبٌ جِـدًّا، لا يماثله أي شيء في هذه الدنيا، من أشد آلامها، ولا من أشد وأضيق حالات الضيق فيها، من الضجر، والهم، والغم، والحزن الشديد، كُـلّ هذا يجتمع على الإنسان في جهنم، يجتمع ويدوم، ويدوم، إلى حَــدّ أنه ولا مثقال ذرة من الراحة أَو النعيم، ولا لحظة واحدة، ولا ثانية واحدة، ولا بمقدار ثانية واحدة يمكن أن تشعر فيها بالراحة، أَو أن يفارقك فيها ذلك الهمّ، أَو ذلك الضيق، أَو ذلك الضجر، أَو ذلك الحزن، أَو ذلك العناء النفسي، عناء نفسي للأبد، متى تستفيد في استشعار هذا بشكلٍ أكثر؟ عندما تمر بهذه الحالات، عندما ترى تعبك من الضيق النفسي، أَو الضجر، وترى أنه إذَا استمر لك لساعات أحياناً، ضيق معين، ضجر معين، غم وهمّ معين، إذَا استمر البعض من الناس إذَا استمر لهم لفترات طويلة يصابون بالأمراض النفسية، أَو يصابون بالجنون، أَو تأتيهم أسقام ومعاناة كبيرة جِـدًّا، وأمراض شديدة جِـدًّا، فأنت في نفس الحالات؛ لأَنَّك ستكون أكثر تذكُّراً، أكثر اعتباراً، أكثر استشعاراً لأهميّة هذه المسألة، في الحال الذي تشعر فيه بحالة الهمّ، الضيق، الضجر، العناء النفسي، أَو الحزن الشديد، الغضب، تلك الحالة تذكَّر فيها وأنت أقرب إلى أن تستشعر أهميّة هذه المسألة، فترى خطورة أن تفرِّط، وأن تبتعد عن هدي الله سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى، فتورط نفسك للذهاب إلى ذلك الهلاك، إلى ذلك الخُسْرَان، الخُسْرَان الرهيب جِـدًّا جداً، الذي ستعيش فيه الهمّ، والغم، والضجر، والضيق، والتعب، والألم للأبد، فلا تعيش لحظةً واحدة من الراحة النفسية والجسدية، ولا لحظة واحدة يمكن أن يخفف عنك ذلك العذاب النفسي والجسدي في الحياة الثانية، الحياة الأبدية، الحياة الأُخرى.
فهذا التصور الذي يقدِّمه لنا القرآن الكريم، ونؤمن به بإيماننا بالحياة الآخرة، هو يساعد الإنسان على أن تستقيم حياته هنا في الدنيا؛ وبالتالي تستقيم في الآخرة، وَإذَا أصبح عنده اهتمام بمستقبله في الآخرة، يساعده ذلك على الاستقامة هنا في الدنيا، فنجد هذا الترابط، نجد هذا الترابط ما بين الحياتين، استقامة حياتك في الآخرة مرتبطٌ باستقامتك في الدنيا، واستقامة حياتك في الدنيا مرتبطٌ بإيمانك بالآخرة، وسعيك إلى أن تكون حياتك في الآخرة حياةً مستقيمة، وأن تكونَ إلى النعيم.
عالم الآخرة ليس عالماً مجهولاً حتى يخاف الإنسان بأنه سينتقل إلى عالمٍ مجهول، لا، هو عالمٌ تحدَّث الله عن تفاصيله في القرآن الكريم على نحوٍ واسعٍ جِـدًّا، وفي كثيرٍ من السور في القرآن الكريم، وفي كثيرٍ من الآيات، حديثٌ واسع عن هذا العالم الآتي، الذي سنعيش فيه الحياة الأبدية، وهو آتٍ وقريباً يعني، {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ}[الأنبياء: من الآية1]، {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ}[القمر: الآية1]، يأتي الحديث عن أنه قريب، الفاصل الذي بينك وبينه هو الموت، والموت بالنسبة لك هي لحظة أَو نقلة سريعة، نقلة سريعة، إلى درجة أنه عندما تأتي إلى عالم الآخرة، فَـإنَّك تتوقع أنَّ هذه كانت مرحلة قصيرة جِـدًّا، {كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ}[يونس: من الآية45]، وجودك في هذه الحياة، أما وجودك ما بين مرحلة موتك أَو مرحلة فنائك، التي هي نقلة ما بين هذا العالم، ثم بعده إلى عالم الآخرة، كذلك حالة ساعة، بمستوى ساعةٍ من الزمن، {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ}[الروم: من الآية55]، {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ}، إلى هذا المستوى: كأنهم لم يلبثوا في تلك الفترة من موتهم إلى بعثهم إلَّا ساعة، وفي آية أُخرى:{لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَو ضُحَاهَا}[النازعات: الآية46] فترة قصيرة جِـدًّا، فترة قصيرة جِـدًّا.
فالقرآنُ الكريمُ يؤكّـدُ لنا حتى نكونَ على استعدادٍ تامٍّ، وحتى نبني مسيرة حياتنا هذه على أَسَاس هذا التصور: تصورٌ لحياتين مترابطتين، هناك في القرآن الكريم من سوره العظيمة والمباركة والمهمة، ما يقدِّم تصوراً لهاتين الحياتين مع ربطٍ كبيرٍ بينهما، وتفاصيل مهمة وكثيرة عنهما، سورةٌ عظيمة هي سورة الرحمن، إن شاء الله في المحاضرة القادمة نتحدث على ضوءِ الآيات المباركة في سورة الرحمن، ونستفيدُ منها فيما يرسِّخُ لدينا الإيمانُ بأن اللهَ سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى خلقنا لحياتين، وعلينا أن نستقيم في هذه الحياة؛ لكي تستقيم حياتنا في الآخرة.
نكتفي بهذا المقدار..
وَنَسْأَلُ اللهَ سُـبْـحَـانَـهُ وَتَـعَـالَـى أَنْ يُوَفِّقَنَا وإيّاكم لما يرضيه عنا، وأن يتقبَّلَ مِنَّا ومنكم صالحَ الأعمال، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهْدَاءَنا الأبرارَ، وأن يشفيَ جرحانا، وأن يفرِّجَ عن أسرانا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بنصْرِهِ.. إِنَّـهُ سَمِيْـعُ الدُّعَـاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه..