ذكراتُ التضحيات في أيَّار الانتصار
زينب إبراهيم الديلمي
يُقالُ إنَّ خيرَ الكلام ما قل وَما دَلَّ، وحينما يكون فاتحة الكلام في مقام البطولة تتسع بساط المديح والثّناء.. وقليلٌ هو أنّ نرد لهم الجميل فيما صنعوه لدينهم ولأوطانهم وأمتهم، وصنعوا ما أجبر الدهر أن يضعَ مُعجماً لسؤددهم المُمجّد له عدة أبواب وفصول مجموعةً في تأريخ أيّار – مايو.. واختزلت لوحاته النّاطقة بأبجديّات النّصر صورة هي قدّيسة في وجدان من اتخذوها ركيزتهم الأسمى وبُوصلتهم الأغلى تعني لهم كُـلَّ تضحياتهم وجهادهم، بل شريان حياتهم.. ومما زاد حِلّة جمالها أنّها تتوهّج بين سطور ذلك المعجم، نابذة كُـلّ النبذ أن تُسترقَ في نخاسة التهويد ويُشوه بهاءها بقبيح اليهوديّة.
أحد عشر يوماً واجهت مدينة الإسراء وقدس المُسلمين ألوان المُعاناة والألم.. وجَنتَ ربيبة الشّر ما جَنته هي وأدواتها في اليمن من إراقة آلافٍ من ينابيع الدّماء وركام الأشلاء، لم تنطفئ شرارة غضب الأحرار وجاءت عملية “سَيْـفُ القُـدْسِ” بما لم يُخيّل إليه العدوّ يوماً ما أنّه على ميعادٍ مع تأديب مُحكمٍ.. أحد عشر تلاشياً وتيهاً وانكساراً لكيانٍ أوهن من بيت العنكبوت، وأحد عشر خلوداً وتمكيناً وفلاحاً لمُقاومة وكتائب وسرايا ازدانت تمسكاً بحبل الله تعالى وَبقضيّتها المُحِقة.
واحدٌ وعشرون عاماً من محطةٍ مجيدةٍ نستذكر بها كيف أنّ أنفاس العدوّ الصّهيوني لَفَظت آخر شهيقٍ وزفيرٍ في أهدافهم الهشّة ومطامعهم الواهنة، وخرجوا أذلاء صاغرين من جنوب لبنان.. واختنقت رئتاه من دخان النّصر الذي سطّره سادة المُجاهدين وَحَفَظَة ماء وجه الأُمَّــة وأمينه القائد المقدام الذي هزّ جذع أباطيلهم وأبطل مفعول مُبتغاهم، هذا النّصر امتد أواصره في رُقعةِ البُلدان التي تعرضت للمؤمركات الخبيثة، ولا سيما اليمن الذي تعرض منذُ سبع سنوات إلى عدوانٍ خلّف آثاره آلاف المجازر الوحشيّة بحق الأطفال والنّساء والكهول الأبرياء.
ورغم ما آلت إليه اليمن وما تؤول به من حصارٍ ضاقت بها الأرض بما رحبت، إلا أن المظلوميّة والتضحيّة شاطرت الشّعب الفلسطيني برغيف عيشه وبعذوبة مائه.. وعلى لسان بدرنا الأبلج وقائدنا الأغر أننا: “حاضرون أن نقتسم اللُّقمة الواحدة مع إخوتنا في فلسطين وأن نُؤْثِـرَهم على أنفسنا”.
وخلال العشرين الثانيّة التي توقف بها سماحة الأمين العام وَفُتحت آذان قلوبنا، رأينا فيها لحظات الغِصّة الممزوجة بدموعٍ لاحت بالحُرقة والأنين على وجنتيه الطّاهرتين؛ تذكراً لحال اليمن المُحاصر الذي لا يجد ما يسد به رمق يومه.. وتساؤلاً بما ورد في كلمة السيّد القائد ألنا الخُبز لنقاسمه الشعب الفلسطيني؟
من فرط الخجل المركون في أفئدتنا أمام هذا الإعظام والتبجيل وأمام هذه الدموع التي بالنّسبة لنا أغلى من جوهر الأرض وكنوزها الفائضة، وأنستنا مرارة ما تجرّعناه من ويلات الحصار.. لم نتمالك حتى انهمرت دموعنا أَيْـضاً؛ تقديراً لحضوره الدائم في نصرة قضيّتنا والذي ظلَّ في أول طلعةٍ غرّاء يُمجّد صمود الشعب اليمني وتمنّى أن يكون ممن يُقاتلون تحت راية قائدنا العَلَم.. وا خجلتاه من أنفسنا إنّ قصّرنا في مديحه وإن فرّطنا في أداء ما ينبغي لنا أن نوفيَ ولو بشيء يسير من حقه!
إنّها محطّاتٌ مليئةٌ بكينونة الإيثار والإباء، ومُذكّرات تُشوّق المرء إلى الغوص في لُججها والاغتراف من فيضها.. وتضيء سناها دروبَ الأجيال التي هي بأمسِّ الحاجة إلى الاستضاءة بنور تضحيات محور المقاومة وقادتها العظماء، وترسيخ المبدأ الديني في أذهانهم أن القدس دوماً هي قضيّة الأحرار.