في العشرين ربيعاً للصرخة
صفاء فايع
خَمْسُ جُمل مُستوحاة من كتاب الله، رَفعها علَمُ الهُدى الشهيدُ القائدُ من شواهِق جِبال مران لتعلوَ بعد ذلك رايةُ الحق التي تلتها الانتصارات، ليست الانتصارات المادية على قوى الطُّغيان والشر فحسب وإنما الانتصارات المعنوية التي تنتشِل النفوس المؤمنة بمفعولها المستشعِرة أثرها من براثِن الجمود وهفوات الآثام إلى السمو الروحي وعالم الفضيلة، فما رفعها مؤمن إلا واهتز كيانُهُ وخرَّ على قلبهِ مُنكبًّا يتحسّس نبضات قلبهِ وهي تُشارك لسانه ترتيلها.
شَهدت صرخةُ الحق منذُ ولادتها ميلاد فجر العزّة والكرامة، فبعد أن أصبح المسلم في اليمن وغيرها من بلاد المسلمين لا تقوم له قائمة، وليس بيدهِ أي عمل يغيظ بهِ اليهود الذين يعيثون في الأرض الفساد كما أمرهُ الله القائل في كتابه: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخرين مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ، وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ) بل إنهُ لم يكُن حتى رقماً يمثل ذرةً من كيانٍ له سيادة، هَـا هو الآن يُحسب لصرختهِ ألف حساب.
انبلجَت السماءُ في أحدِ أَيَّـام العام 2002م بميلاد الصرخة فشهدَ العالم بولادتها انطفاء نار تمثال الحرية في أمريكا واهتزّ عرش إسرائيل، وزفتها ملائكة السماء إلى المؤمنين المستضعفين في الأرض مبشرةً لهم بمستقبلٍ ليسَ كما مضى، مخبرة لهم أنها ليست كلمات تُقال إنما هي (فكر – ومنهج – وعقيدة- ورؤية ثاقبة)، بل إنها نمط حياة تصل بالإنسان إلى صفاتِ المُتقين التي رُبما ما نزلت سورة في كتاب الله إلا وهو يأمُرنا أن نكون منهم.
مرت مراحلُ نمو الصرخة بمستويات ومنعطفات، فمن مرحلةِ المهد والضعف إلى مرحلة الانتشار والوعي تلاها مرحلة الاكتساح والقوة، استمدت رونق صباها من الكهوف كأنها زهرة مسائية لم يئن حصادها بعد، تستنشِق عبير تسبيحات المؤمنين الصادقين فتكبَر وتترعرع وتزيد بذلك صلابةً وقوة، شهدت خلال مراحلها انتصار الدم على السيف في معركة كربلاء مران، وعاشت ويلات الخذلان من المقربين المنهزِمين نفسياً أمام جحافل وقوات الحكومة آنذاك، وإنني أؤمن أنها لن تنسى قط أُولئك المنافقين والمرجفين الذين كانوا يسترقون السمع ويشون بها عند أسيادهم، لقد تساقطوا تباعاً فيما بعد ولم يعودوا شيئاً يُذكر.
وصلت الصرخة إلى المنابر والمآذن، ثم القُرى والمدن، لجدران الشوارع والحواري والمدارس للأسواق والمنازل، تسكُن قلوب مُريديها قبل ديارهم، تَفتح مدارِكهم وتصحح ثقافاتهم المغلوطة المندسّة من المذهب التكفيري الوهَّـابي، تلين العقول المتحجّرة، وتُنير دروب الصادقين في البحث عن الطريق الصحيح لانتزاع الحرية والكرامة، لم تكُن حياتها سهلةً أبداً، لكنها كما غيرها ممّا خلق الله لم يقوَ عودها إلا بعد أن ذاقت المصاعب والمتاعب.
خُيِّلَ لمن لم يعرفها حق معرفتها أنما هي سحر محض! ومن يلوم من لم يتعمق فيها ? وقد انكسرت برعبِها الجيوش وتهاوت بقوتها العروش، عندما تصدح من حناجر المؤمنين ترتجِف من الخوف منها وتلوذُ بالفرار هامات وقامات، لقد شهِدت الصرخة في العدوان على اليمن التهام الأطقم والدبابات والمجنزرات بنار ولاعة! وشهِدت المقاتل اليمني حافي القدمين يطارد أكبر قائد في جيش العدوّ السعوديّ من تحيطه الحماية براً وجواً وبحراً، من لا يقاتل إلا من وراء حصونٍ مشيدة يختبئ خلفها كالفأر، شهِدت اليمني كأنما يطارد فريسة سهلة وذلك يلوذ بالفرار وأبطال الجيش ما يزالون على بعد أمتار بعيدة منه، شَهِدت الصّرخةُ في مرحلة الانتصار مئات الأُمهات يزفِفْن أبناءهن الشهداء برؤوسٍ عالية، ونفوس شامخة انبهرت أُمهات الدُنا بعطائهن وسخائهن وقوة إيمانهن فبعدما كان الـ (ترند) لأُمهات فلسطين في تلك الرفعة والمكانة تسلمتُه الأم اليمنية بكل استحقاق وجدارة.
شهِدت الصرخةُ أَيْـضاً في مرحلتها المتقدمة قدرات مبهِرة في مجال التصنيع الحربي فها هي (صُنِعَ في اليمن) تنحتها الأيادي اليمنية على صواريخها متنوعة الأشكالِ والأحجامِ وعلى طائراتِها المسيّرة متعددةِ المهام، وعلى قذائِفها والكثير الكثير من أنواع الأسلحة التي يغطي العدوّ على هزائمه بقولهِ: إنها أتت من إيران.. ما ذلك كُله إلا بفضل الصّرخة، لقد كان آخر ما شهدته الصرخة ووثقته دموع المؤمنين في أواخر أَيَّـام ربيعها التاسع عشر هو قسم قائد أمتها على تقاسم كسرة الخبز اليابسة في اليمن المحاصر مع أبناء فلسطين فالقضية الأم هي القدس ولا شيء غير القدس.
وكان الأحدث من هذا الحدث (عملية جيزان الواسعة) التي وثقتها عدسات الإعلام الحربي فجعلت العالم يقف مشدوهاً أمام مقاطع هي ضرب من الخيال، تجعل العدوّ ينكر أنها حقيقية، واصفاً إياها بالتمثيل والدبلجة ولا عجب أن يظن العالم صدق العدوّ هذه المرة بأنها لا يمكن إلا أن تكون العاب (بوبجي) إلكترونية لرجال يتقنون اللكنة اليمنية ببراعة، بعد كُـلّ ما سبق من قوة سلاح الصرخة والذي لم يتم إلا ذكر قطرة من بحر، ترى متى يُدرك من ما زال في قلبهِ شك أن من لديها القدرة على فعل كُـلّ هذا هي قادرة بعون الله على تحرير الأقصى، ولا عجب عندما تتأمل أنها سلاح فتاك يخرج من أضعف عضلة في جسم الإنسان، فَـإنَّ القوة لله جميعاً.