“صفقةُ القرن” دُفنت تحت رمال غزة
محمد بركات*
أظن أن عنوان المقال نفسه يصفُ مضمونَه، قضية فلسطين لن تموت إلَّا بإحقاق الحق لأهله، ما حصل في المعركة الأخيرة بين فصائل المقاومة وإسرائيل أزاح اللثام عن عدة أمور جوهرية أَدَّت إلى أفول نجم صفقة القرن ووأدها في مكانها، الخص بعض نتائجها وتداعياتها كما يلي:
إعادة إحياء الصراع العربي الإسرائيلي ووضعه على الطاولة من جديد وبزخم أكبر من الماضي بعد عدة محاولات محمومة لدفنه تحت مظلة التطبيع وعمليات السلام والمفاوضات التي طالت أكثر من 50 سنة بدون أية نتائج… إلخ.
إزالةُ الستار والوهم عن أقوى عاشر جيش في العالم، الجيش الإسرائيلي، وبيان مدى هشاشته وعدم تمكّنه من الانتصار أمام حفنة من المقاتلين (ليس جيش نظامي حتى…). هذا الجيش المدرب تدريباً جيِّدًا والمدجج بأحدث أنواع الأسلحة والتكنولوجيا، والذي لم يستطع خوض مجابهة مباشرة مع فصائل المقاومة، فالجيش القوي إذَا لم ينجز أهدافه في المعركة أمام قوة ضعيفة فهذا يعتبر هزيمة.
تغير موازين القوى بين إسرائيل والقوى المقاومة الفلسطينية، حَيثُ تضاعفت قوة ردع المقاومة وأصبحت هي المبادرة للأعمال العسكرية وللمرة الأولى في تاريخ الصراع، أَيْـضاً في تلك المعركة تم تحييد سلاح المدرعات وسلاح المشاة وسلاح المروحيات الإسرائيلي، لم يستطع الجيش الإسرائيلي المخاطرة بهذه الأسلحة خوفاً من تكبد خسائر بالأرواح والمعدات، استعمل الجيش الإسرائيلي فقط سلاح الجو وسلاح البحرية والحرب الإلكترونية، وكل تلك الأسلحة تخاض عن بعد بدون مجابهة مباشرة بين أفراد الجيش البري، ولكن بدون الجيش البري لا يوجد حسماً لأية معركة.
وأود أن أستدل بهذه المقابلة الصحفية التي حصلت عام 1990 والمأخوذة من كتاب يتناول القضية الفلسطينية التي تُصور وتصف قضية فلسطين على حقيقتها وتبين جوهرها:
((جنّدت المخابراتُ البريطانية عام 1925 أَيَّـامَ الانتداب البريطاني لفلسطين فتاةً انجليزيةً اسمها أنطوانيت لتعمل على قضية فلسطين آنذاك، جاءت أنطوانيت إلى فلسطين واستقرت في القدس في حي الشيخ جراح وبدأت تعمل مع فريق الاستخبارات البريطاني هناك بدراسة وتحضير الخطط المستقبلية لفلسطين، وكانت تجيد اللغة العربية بطلاقة، طبعا كانت تعمل هناك تحت مظلة الجمعيات والأعمال الخيرية وأصبحت تُعرف في الوسط السياسي والصحفي الفلسطيني بمدام انطوانيت، تواصلت مدام أنطوانيت مع القوى والزعامات السياسية آنذاك، العربية واليهودية، لتنفيذ مخطّطات بريطانيا في فلسطين وما حولها، في عام 1936 تعرفت على طبيب قبطي، تزوجا ثم جندته للعمل معها، في الأربعينيات ترقت لتصبح رئيسة جهاز الاستخبارات البريطاني في المنطقة، عام 1948 أسست مدام أنطوانيت مدرسة للأطفال اليتامى العرب جراء نكبة 1948 وأسمتها مدرسة دار الأولاد، استمرت في العمل في القدس حتى عام 1967، حَيثُ انتقلت بعدها إلى خارج فلسطين وظلت تعمل من هناك في القضية الفلسطينية حتى عام 1978، حَيثُ طعنت في السن وتقاعدت ثم انتقلت بعدها للاستقرار في منتجع للمسنين في الإسكندرية، في عام 1990 وهي فترة دخول القوات العراقية للكويت، حَيثُ بدأت أمريكا وحلفاؤها حشد الجيوش لتحرير الكويت، ووقتها هدّد صدام بضرب إسرائيل بالصواريخ إذَا هوجم العراق، في تلك الفترة زارها صحفي فلسطيني وأجرى معها مقابلة صحفية وكانت حالتها الذهنية ممتازة، ومن جملة ما سألها: إنك يا مدام أنطوانيت اشتغلت على قضية فلسطين منذ بداياتها الأولى وعاصرت كُـلّ مجرياتها وكنت على اضطلاع على أدق تفاصيلها، ما فوق الطاولة وما تحتها، وأفنيت جل عمرك فيها، أود أن أعرف منك ما هي تصوراتك المستقبلية لهذه القضية وماذا تتوقعين أن يتمخض عنه هذا الصراع على القضية الفلسطينية في ظل الوضع الراهن المتوتر والعراق يهدّد بضرب تل أبيب؟ أجابته أنطوانيت: إنك على حق، فلقد عملت في هذه القضية وأمضيت فيها أكثر من خمسة عقود من حياتي، أستطيع أن أقول لك لقد نجحت حكومة بريطانيا العظمى (آنذاك) نجاحاً باهراً خلال القرنين الماضيين في إعادة رسم خريطة العالم الحالية الجيو-سياسية من خلال إعادة تقسيم الدول القديمة وإنشاء دويلات جديدة وإزالة قيادات وإيجاد قيادات جديدة… إلخ، بما يتماشى مع المصالح البريطانية إلا في فلسطين فكان الوضع مختلفاً، لقد كان عندنا هدفاً نريد الوصول إليه (لم تتفوه ما هو الهدف…)، وحتى نحقّقه كنا نأتي بجهابذة المفكرين والعقول ونرسم الخطط الطويلة الأمد المحكمة والمحبكة جيِّدًا أخذين بعين الاعتبار كُـلّ الاحتمالات والمخاطر التي ممكن أن تحصل خلال التنفيذ، وتنفيذ هذه الخطط كان يتطلب منا العمل الطويل والدؤوب لعشر أَو عشرين سنة في كُـلّ مرة، والغريب أنه في كُـلّ مرة من تنفيذ الخطط وعند المراحل النهائية للخطة وعندما كنا ننتظر أن نجني ثمارها، كان يحدث أمراً لا يخطر على بال، لا ندري كيف ولماذا ولا ندري مصدره، كان ينسف الخطة عن بكرة أبيها ويعيدنا إلى نقطة الصفر وهكذا دواليك حتى هذه اللحظة، لذا لقد أصبحت عندي قناعة يقينية أن هناك قوى خفية خارج إدراك قوى البشر تعمل في هذه القضية، لا أستطيع وصفها أَو تحديدها ولكني أحس بها، لذا لا أستطيع أن أقول لك ما هي تصوراتي المستقبلية لفلسطين)).
هذه تصريحات من إنسانة غير مسلمة خبيرة ومطلعة على تفصيل التفاصيل ومع هذا هي لا تستطيع أن تتوقع ماذا سيحصل في فلسطين، فكل الخطط فشلت على مدى عمر الصراع ولم تنجح كما خُطط لها.
* كاتب سوري