استراتيجيةُ النهوض بزراعة البُن اليمني.. مسارُ العودة إلى صدارة التذوق العالمي
المسيرة – إبراهيم العنسي
في المسابقة الدولية التي تنظِّمُها “منظمةُ متذوقي البن العالمي” في العاصمة اليابانية طوكيو، أحرز البُنُّ اليمني المركَزَ الأول عالميًّا للعام الثاني على التوالي.
وقدمت المنظمةُ اليمنية “حراز موكا” في المسابقة العالمية خلال الموسمين 2019 – 2020، أجودَ أنواع البن اليمني المزروع في مختلف المناطق اليمنية، مؤكّـدةً أن مشاركتها كانت بهَدفِ إعادة التعريف دوليًّا بالبن اليمني والمساعدة على الترويج للمحصول الذي اشتهرت به اليمن على مر العصور في ظل تزايد الطلب العالمي على محصول البن الذي يجعلنا أمام فرصة كبيرة لاستعادة هذه المكانة وجني مردود اقتصادي كبير من محصول “واحد” يعتبر اليمن هو صاحب الكلمة الأولى فيه إلى جانب محاصيلَ أُخرى يمكنها أن تشكلَ واجهةَ نهضة زراعية مرتقبة.
وكما تقول الاستراتيجية الوطنية للبن فالهدفُ حتى العام 2025 هو الوصول لإنتاجية تصل إلى 50 ألف طن سنوياً، وهي إنتاجية اليمن من البن في العام 1962م، أي قبل حوالي ستين عاماً.
ومع أن هذا الرقمَ يبدو متواضعاً إلَّا أن المردود النقدي لخزينة البلاد سيصل إلى “مليار دولار”، فكيف إذَا تضاعف الإنتاج أضعافاً مضاعفةً، فوقتها سنتحدث عن عشرات المليارات إن لم يكن أكثر من ذلك.
وتحكي مصادرُ تاريخية أن معرفة العالم بالبن يعود في الأَسَاس إلى اليمن وحضارته الزراعية، إذ سجل البن اليمني خلال قرون طويلة حضوراً بارزاً تجاوز بلد المنشأ أثيوبيا، وَجعل من البديهي ارتباطَ البن كشجرة وكمحصول بالهُــوِيَّة والحضارة اليمنية العريقة، حَيْثُ عُرفت اليمن منذ القدم بأشهر أنواع البن وتميزت بجودته العالية وشهرته الواسعة على مستوى العالم في سفن تجوب العالم؛ لتلبية رغبات شعوب تلك البلدان في احتساء قهوته ذات النكهة المميزة.
بُنُّ اليمن تصدّر العالم
وَتذكر كتب التاريخ أن العثمانيين عندما تمكّنوا من طرد البرتغاليين من سواحل البحر الأحمر منتصف القرن السادس عشر دشّـنوا عهداً جديدًا من التجارة عبر ميناء المخا، ولأجل تعزيز مكاسبهم تلك سعى العثمانيون إلى فرض الضرائب على بضائع السفن التجارية الداخلة للبحر الأحمر، بإجبارها على التوقف في ميناء المخاء، وقد ساهم هذا الإجراء في تعريف العالم بالبن كسلعة يمنية يمكن تصديرها إلى العالم.
وبحسب المصادر التاريخية، فَـإنَّ شركات هولندية قامت بتصدير البن إلى العالم بعد إنشائها مصنعاً لذلك في مدينة المخاء مع بداية القرن الثامن عشر الميلادي، وبعد سنوات قامت شركة فرنسية بإنشاء مصنع بغرض التصدير، ومع مرور الوقت تصاعد إنتاج البن مع تزايد التنافس بين مختلف الشركات الأُورُوبية الهولندية والبريطانية والفرنسية على البن اليمني حتى القرن الـ18 الميلادي، وساهم هذا التنافس في تسارع حركة الملاحة والتجارة الدولية ما بين الموانئ في العالم وميناء المخاء.
وخلال القرون الماضية، اعتُبر البُنُّ اليمني في المرتبة الأولى عالميًّا بمقاييس الجودة وبنكهاته المميزة التي تتفوق على أنواع البن الأُخرى كنتيجة للبيئة الزراعية التي ينمو فيها في المرتفعات الجبلية الغربية والوسطى والجنوبية وفي المدرجات الجبلية الممتدة من أقصى شمال اليمن بمديرية رازح إلى جبال يافع جنوب اليمن والتي تعد مناسبة أكثر من غيرها لزراعة شجرة البن.
وبحسب المختصين، فَـإنَّ الظروف المناخية والبيئة المتنوعة التي تُزرع فيها شجرة البن ساهمت في تحسين جودة المحاصيل.
وَشهدت زراعة البن توسعاً كَبيراً بحسب الدراسات في القرن الـ 17 والذي مثل العصر الذهبي لتجارة البن مع بداية ظهور الاستعمار الأُورُوبي للعالم، خَاصَّة بعد أن عُرف البن لدى التجار والشركات في أُورُوبا من خلال البحّارة البرتغاليين الذين تعرفوا على قهوة البن بعد أن رست سفنهم على السواحل الغربية لليمن.
لكن ما الذي تغيّر؟
المتغيراتُ التي حدثت خلال القرنين الـ 19 وَ20، فيما يخص زراعة وتجارة البن على المستوى العالمي، انعكست سلباً على البن اليمني، لا سِـيَّـما مع نقل فكرة زراعة شجرة البن إلى بلدان أُخرى، نتيجة زيادة الطلب على البن عالميًّا، وهو ما لم يستطع أن يلبيَه الإنتاج اليمني، حَيْثُ جرى نقلُ واستنباتُ شجرة البن في العالم الجديد في أمريكا الجنوبية من قبل شركاتِ القهوة الأُورُوبية؛ لمواكبة زيادة الطلب على منتوج القهوة.
تلك المتغيرات وغيرها ساهمت في انحسار الاهتمام بزراعة البن داخل اليمن مع مرور الوقت، إذ تشير الإحصائيات إلى أن التراجع شمل المساحات المزروعة وكميات الإنتاج والأيادي العاملة وتراجع التصدير لمحصول البن إلى ما دون 20 ألف طن بعد أن كان يقارب 55 ألف طن سنوياً خلال الثلث الأخير من القرن الـ 20.
ولأن الزراعة هي أحد مرتكزات نهضة البلاد فَـإنَّ مواردها الزراعية تصنف ضمن أهم الموارد الاقتصادية لقياس قوة ومكانة الدولة جيو سياسيًّا، والتي يتم على ضوئها تقييم وزن الدول؛ لما له من انعكاسات على حاضر ومستقبلها وعلاقاتها بالعالم الخارجي، إضافة إلى استقلالية قرارها ومقدرتها على مواجهة الأزمات والأعداء خلال الحروب، وهكذا يمكن إدراكُ قوة اليمن مع استعادة قيمة ومكانة محصول البن على مستوى العالم وعلى نحو يفوق ما قد سبق في انتشار زراعته وتحسين جودته وتصديره مع ما يمثله من رقم عالمي يصل إلى 80 مليار دولار في مجال صناعة قهوة البن.
تشجيع زراعة وإنتاج البن
وفي إطار تلك الأهميّة النقدية لزراعة البن اليمني، كان لا بد من إعادة الاعتبار للبن اليمني عبر تكثيف الجهود الحكومية والمجتمعية في سبيل تحريك المياه الراكدة في مجال الزراعة عُمُـومًا والبن خُصُوصاً، وقد كان قرار حظر استيراد البن وقشوره وغلايته -بحسب المهندس محمد حارث، مدير عام إدارة البن بوزارة الزراعة- والذي صدر بقرار مشترك من وزارتي الصناعة والتجارة، والزراعة والري، كأبرز خطوة ومسعى حكومي هدفُه حمايةُ زراعة وتجارة محصول البن اليمني، إضافة إلى اعتماد مجلس الوزراء بصنعاء لاستراتيجية وطنية في إبريل 2020 لرفع جودة وإنتاج اليمن من محصول البن، والتي مثلت مرحلتها الأولى أولى الخطوات الناجحة بإتمام غرس مليون شجرة بن في ست محافظات (صنعاء وَذمار وعمران حجّـة والمحويت)، واستهداف مناطق جديدة في الحيمة وبني مطر وحراز وريمه وعتمة والعدين وبني حماد في تعز… إلخ، واستعداد أهالي تلك المناطق للعودة لزراعة البن وتوافد المزارعين على الجهات المعنية؛ بهَدفِ مساعدتهم على اقتلاع أشجار القات واستبدالها بأشجار البن، بعد أن رأوا ارتفاعاً في أسعار البن المصدر على نحو غير مسبوق.
وكان من الواضح أن تلك الخطوات، حسب المختصين، بمثابة البداية الصحيحة في سبيل دعم المنتج الوطني لمواجهة المنتج الخارجي الذي غزا السوق المحلي منذ سنوات طويلة.
تلك الخطوة -كما يقول المهندس حارث- أزعجت مستوردي البن الذين كانوا يأتون بالبن الخارجي بمئات الأطنان ليعيدوا تصديره على أنه بن يمني، وهو ما يؤثر على مزارعي البن المحليين ومردوداته الاقتصادية وعلى سمعة ومكانة البن اليمني ذائع الصيت.
هذه الخطوة التي تمنع الاتجار بسمعة البن اليمني واستغلال بعض التجار لمكانته باستيراد البن الخارجي بأثمان أرخص ثم بيعها بمكاسبَ تعادل أضعاف سعر شرائه تحت عنوان “بن يمني”، وَقد تزامنت هذه الخطوة مع تزايد حجم الطلب على البن اليمني في الأسواق العالمية، وهو ما أثار حفيظة البعض من أُولئك التجار والذين لا زلنا معهم في شد وجذب، إذ إننا لا نمنعُ استيرادهم للبن الخارجي لاستهلاكه محلياً دون إعادة تصديره، ووصل الأمر مع منعنا واحتجازنا في المنافذ لكميات البن المستوردة إلى تهديدنا.
مبادرات تنعش ذاكرة البن
وفي إطار الجهود المجتمعية التكاملية مع الجهود الحكومية، سجلت عددٌ من منظمات المجتمع المدني، خاصة في منطقة حراز، حضوراً متقدماً في دعم وتشجيع المزارعين على تطوير وتحسين زراعة البن؛ كونه محصولاً عالمياً ارتبط بالهُــوِيَّة اليمنية واقتلاع ما يقارب 500 ألف شجرة قات واستبدالها بأشجار البن وُصُـولاً لإنعاش ذاكرة المواطنين والمزارعين بقيمة البن اليمني العالمية بمبادرات البن “غرامك ذهب”.
ومع هذه المبادرات والأنشطة، يستمر البرنامج الزراعي الخاص بالبن منتقلاً إلى مرحلته الثانية بعد استكمال زراعة المليون شتلة بن، وذلك بسعيه لمعالجة مشاكل مزارعي هذا المحصول وَالمرتبطة بالري وتحسين جودة وإنتاجية المحصول النقدي واستعادة الإرث القديم في التعامل مع الآفات.
وكما يقول مدير زراعة البن فقد تم اعتمادُ ثلاثة برامج رئيسية للري وهي خزانات حصاد المياه والبرك وَالمواجل وترميم البرك وقد بدأ العمل عليها عبر ثلاث جهات تشارك في عملية التمويل وهي صندوق التشجيع الزراعي والسمكي والصندوق الاجتماعي للتنمية ومشروع الأشغال العامة إلى جانب تدريب المزارعين في كيفية معاملة الحصاد وَما بعد الحصاد وتم توفيرُ بعض المجفّفات واستعداد بعض المبادرات؛ لتوفير المزيد من هذه المجففات التي ستحد من كميات الفاقد والتالف من حصاد البن، إلى جانب أنها ستحافظ على جودته ومع مرور الوقت، ومع تنفيذنا للمزيد من الأنشطة سيكتسب مزارعو البن ثقافةً جيدةً حول زراعة ورعاية محصول البن الذي بدأ مبشراً مع توجّـه الاستراتيجية الوطنية لإنتاج مليوني شتلة بن سنوياً واعتماد المشاتل القروية لأصناف البن رغم ظروف العدوان والحصار.
سوق عالمي رائج
تشير الإحصائيات إلى أن الإنتاجَ العالمي من البن بلغ في موسم2020، نحو 10 ملايين طن.
وتعتبر البرازيل أكبرَ دولة منتجة للبن في العالم، بنحو 2.59 مليون طن تليها فيتنام بنحو 1.65 مليون طن، فيما قاربت صادراتُ البن العالمية الـ 20 مليار دولار من سوق تقدر قيمته بنحو 27 مليار دولار.
وأمام لغة الأرقام هذه التي تشير إلى ضخامة سوق تجارة البن دوليًّا لا بد من العمل على تحسين ترتيب موقع اليمن في حجم التجارة الدولية لهذه السلعة، ما سينعكس إيجاباً على الوضع الاقتصادي إجمالاً، بما فيه الاقتصادات المحلية في مناطق زراعة البن، بالإضافة إلى توفير آلاف فرص العمل الجديدة في زراعة وإنتاج وتصدير محصول البن.