التنميةُ في ظل الأنظمة السابقة.. إنهاك الاقتصاد بالقروض الربوية
المسيرة| إبراهيم الهمداني:
كانت التنميةُ -وما تزال- الهاجسَ الأولَ، الذي شَغَلَ تفكيرَ الإنسان، والقضيةَ الكُبرى التي أخذت كُـلَّ اهتمامه، منذُ فجر تاريخ البشرية؛ نظراً لارتباطها الوثيق بحقيقة تموضعه الوجودي على الأرض، واستمرار بقائه، وبطبيعة علاقته بما ومن حوله من الكائنات والأشياء.
ومثلما اندفع الإنسانُ -بدافع الحاجة- وبفعل غريزة البقاء، إلى امتهان حرفة الصيد؛ لتأمين احتياجاته من الغذاء، وضمان تحقيق البقاء، فقد دفعته الحاجة إلى ابتكار الوسائل والأدوات الكفيلة بإنجاح مهمته، وتحقيق هدفه، من خلال استغلال وتوظيف الممكن والمتاح والمتوفر، من مفردات وعناصر الطبيعة من حوله، لصناعة أدوات ومستلزمات الصيد، في صورتها البدائية الأولية، والعمل على تطويرها وتحديثها، بما من شأنه تأكيد تطور الاكتساب والتحصيل المعرفي، عند الإنسان الأول، وشعوره بأهميّة مواكبة عامل الزمن، معرفةً وإنجازاً.
وإذا كانت مهنة الزراعة قد ظهرت استجابةً لضرورات التحول الاجتماعي، وانتقال الإنسان إلى طبيعة الاستقرار الدائم، تبعاً لمقتضيات مسيرة التطور، فَـإنَّ مهنة الرعي قد عكست طبيعة الاستقرار الجزئي، وفقاً لظروف وعوامل جغرافية ومناخية واجتماعية معينة، ضمن معطيات الإطار الزمني التطوري العام.
وكذلك مثَّلَ النشاطُ التجاري صورةً متقدمةً، من صور التفكير التنموي، والعمل على تنويع مصادر الدخل والثروة، ويمكن القول إن تلك الأنشطة وغيرها قد رسمت الإطارَ العام للمسيرة التنموية، في مسارها التطوري المتصاعد، وأكّـدت تطور الفكر الإنساني، وسعيه الحثيث إلى تطوير معارفه ومهاراته، وِفْــقاً لمعطيات التطور الحضاري الإنساني.
وإذا ما تجاوزنا تلك الحقب والأزمنة، من مسيرة التطور والارتقاء الحضاري، وُصُـولاً إلى العصر الحديث، وخَاصَّة حقبة الاستعمار الحديث، وما تلاها من وهم الاستقلال، الذي صدرته القوى الاستعمارية للشعوب، نظير ثوراتها وتضحياتها الكبيرة، فَـإنَّه يمكن القول إن حقبة القرن العشرين في الغرب وأُورُوبا، قد اتسمت بنهضة صناعية، وثورة تكنولوجية، وقفزة تنموية شاملة، كانت من نصيب ذلك الغرب أُورُوبي، ولم يكن للعالم العربي والإسلامي حظٌ فيها، إلَّا بمقدار ما يجود به عليه الآخر، الذي استغل -بدوره- ذلك التموضع الريادي العالمي، ليجعل منه وسيلةً لممارسة دوره الإمبريالي مرة أُخرى.
وبناءً على ذلك المعطى الاقتصادي التنموي، تم تقسيم العالم إلى قسمَين؛ عالمٌ متحضرٌ وآخر متخلف، دولٌ متقدمة وأُخرى نامية، مجتمعات منتجة وأُخرى مستهلكة… إلخ، وهي تسميات اعتمدت المعيار الاقتصادي التنموي، ومقومات الإنتاج، في عملية التصنيف والفرز، كما ظهرت تسميات أُخرى، ارتكزت على العنصرية العرقية الاستعلائية، والبُعد الاستكباري التسلطي، لتمييز العالم الثالث المتخلف، عن عالم ذوي الدماء الزرقاء، وأصحاب السلالات النقية، لتكشف عُنصرية العِرق والنسب، عن حقيقة ذلك السرطان الاستعماري، الذي استنكف أن يسمي عالَماً ثانياً، يفصله عن عالم التخلف الثالث، الذي لا ذنب له فيما مني به، إلا أنه كان يرزح تحت نير المستعمر، ويحترق في براكين ثورته، التي سرعان ما أطفأتها صكوك الاستقلال الوهمي، ليعودَ ذلك المستعمرُ مرتدياً قناعَ التفوق الاقتصادي والتكنولوجي، ولكن بذات الأطماع الاستعمارية، وذات العقلية اللصوصية المتوحشة، ليمنح نفسه -من جديد- حق الاستحواذ والتسلط، ونهب ثروات وخيرات ومقدرات الشعوب النامية.
وبعيدًا عن التعريفات اللانهائية لمفهوم التنمية، يمكن القول: إنها عملية مجتمعية، تبحث عن الطرق والوسائل والسبل، الكفيلة بإدارة وتطوير وتنويع وتوليد مصادر الثروة، واستغلالها الاستغلال الأمثل، وِفْــقاً لطبيعة الإمْكَانات المتوفرة والممكنة والمتاحة، ويقاس النمو الاقتصادي في مجتمع ما، بمستوى قدرته على الإنتاج، مقارنة بمصادر ثروته المتجددة، ونسبة عملياته الإنتاجية، إلى مستواه المعيشي، وسقف متطلبات حياته.
وعادةً ما تقومُ الحكوماتُ بوضع سياسات واستراتيجيات تنموية شاملة ومدروسة، معتمدة على مستوى كفاءة وقدرة المؤسّسات والأفراد، في إنجاح عملية إدارة التنمية، وإنجاز كُـلّ مشاريعها المزمَّنة، ومواكبة إيقاع المسيرة التنموية، في سياقها الحضاري العام، الأمر الذي يجعلنا نتساءل عن الدور التنموي، الذي لعبته الأنظمة العربية، وطبيعة التنمية التي قدمتها لشعوبها، وخَاصَّة في اليمن؟!
إن النظر في حقيقة الوضع التنموي في البلدان العربية، واليمن على وجه الخصوص، يضع بين أيدينا خيوط مؤامرة قذرة، حيكت ضد الشعوب، بتواطؤ حكامها مع مستعمريها، وتم إيهام الشعوب بإمْكَانية استيراد التنمية والتطور الحضاري، دفعة واحدة، بحيث يمكنها توظيف مخرجات الحضارة الغربية، واستغلال آخر وأحدث نتاجاتها ومشاريعها، لصناعة النموذج الحضاري والتنموي الخاص بنا، لكن تلك التنمية المستوردة، كانت عبارة عن مشاريع وهمية، مدعومة بقروض ربوية منهكة، ومقابل فشل وتعثر معظم تلك المشاريع -المفتقرة لأبسط معاني النماء والتطور المستمر- ذات الطابع الإنشائي الاستهلاكي، برزت القروض المرافقة لها؛ لتؤكّـد من خلال طبيعتها الربوية، وأرباحها المتصاعدة يوماً بعد، يوم أنها هي من يمثل النماء الربوي المستمر، وليس المشاريع التي قدمت من خلالها.
وبذلك تم إغراق المجتمعات في قروض ربوية، أنهكت اقتصادها، وجعلتها عرضة لحرب الله ونقمته، خَاصَّة وقد أصبحت عاجزة عن التراجع، أَو التنصل عن تلك القروض، أَو رفض الاتّفاقيات المطروحة باسم التنمية؛ بسَببِ تنامي فوائدها الربوية المهولة، التي ألحقت بالاقتصاد الوطني أضراراً وأخطاراً كارثية، تمتد عبر الزمن إلى الأجيال القادمة، والتي تليها، علاوة على تعميم طبيعتها الربوية، كظاهرة حياتية لا بُـدَّ منها؛ بهَدفِ تدنيس زكاء النفوس، وتنصيب المجتمع لحرب الله وغضبه ونقمته، ومن خلال تدنيس النفوس، وإنهاك الاقتصاد، تتضح حقيقة التنمية المقدمة من دول الاستكبار والهيمنة والاستعمار، وهو ما تنبَّه له الشهيد القائد رضوان الله عليه، وحذر من مخاطره، ومغبة الاستمرار فيه، بقوله:- “يقولون لنا بأن التنمية هي كُـلّ شيء، ويريدون التنمية، ولتكن التنمية بأية وسيلة وبأي ثمن! نحن نقول: لا نريد هذا، وكل ما نراه، وكل ما نسمعه من دعاوى عن التنمية، أَو أن هناك اتّجاه إلى التنمية كلها خطط فاشلة، كلها خطط فاشلة. متى ما وضعوا خطة تنموية لسنين معينة، انظر كم سيطلبون من القروض من دول أُخرى؟ هذه القروض انظر كم سيترتب عليها من فوائد ربوية، ثم انظر في الأخير ماذا سيحصل؟ لا شيء، لا شيء. إن التنمية لا تقوم إلا على هدى الله سبحانه”. ملزمة:- (اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً).
وخلافاً لما يتم الترويج له، بأن التنمية هي ارتقاء قيمي وأخلاقي، فقد أفرزت التنمية المستوردة، حالة من الفساد القيمي والانحدار الأخلاقي، وتفشي الانحطاط النفسي، والانتهاك الجمعي للدين، والانقلاب على الأعراف والعادات والتقاليد الحميدة، وغير ذلك من مظاهر السقوط والانحلال، التي أُصيب بها المجتمع، كنتيجة لقبوله تلك القروض الربوية، وقبوله التعامل بالربا، ومحاربة جبار السماوات والأرض علنا، وفي ظل هذا الواقع المتردي، دينيًّا وقيميًّا وأخلاقيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا، وعلى كافة المستويات، هل يمكن القول إن لدينا تنميةً؟، هل هذه هي التنمية؟!
تساؤلٌ مريرٌ، يجيبُ عنه الشهيدُ القائدُ، قائلاً:- “ليس هناك تنمية.. القروض التي يعطوننا قروضا منهكة مثقلة، وهل تعتقدون أن القروض تسجل على الدولة الفلانية، أَو على الرئيس الفلاني، وعلى رئيس الوزراء الفلاني؟. تسجل على الشعب، وهي في الأخير من ستدفع من أجساد الشعب نفسه في حالة التقشف التي مرت بها بلدان أُخرى أنهكتها القروض، يفرضون حالة من التقشف. ألسنا متقشفين؟ ستفرض حالات أسوأ مما نحن فيها تحت عناوين أُخرى، ستدفع أنت ثمن تلك القروض من شحمك ولحمك أنت وأبناؤك، تذبل أجسامنا من سوء التغذية، فندفع تلك الفوائد الربوية، من أين؟ من شحمنا ولحمنا ودمائنا، ألستم تسمعون بأن هناك بلدانا كالبرازيل وبلد كتركيا أصبحت الآن مشرفة على أن تعلن عن حالة التقشف؟ واليمن ألستم تسمعون كُـلّ شهر قروض؟. قروض بعد قروض، كنا في مجلس النواب لا يكاد يمر أسبوع واحد ليس فيه قروض، وهم يصادقون عليها، قروض بالملايين من الدولارات، قروض شهر بعد شهر، سنة بعد سنة، قروض [للتنمية، للتنمية] نموا هم، أما نحن فما نزال جائعين، أليس كذلك؟ المسئولون هم من نموا، هم من غلظت أجسامهم، وعلت بيوتهم وقصورهم، هم من نموا، ونمت شركاتُهم، من نما أولادهم، من نمت أرصدتهم في البنوك، والشعب هو من سيدفع ثمن ذلك كله؛ لأَنَّه كله من القروض”. (ملزمة:- اشتروا بآيات الله ثمنا قليلاً).
عودةُ الاستعمار بالقروض الربوية
لقد غابت التنميةُ عن واقعنا شكلاً ومضموناً، ولم تتجاوزِ التنميةَ المستوردةَ من العالم المتحضر؛ كونها وسيلةَ هدم وتدمير للمجتمعات، استهدفتها في صميم تدينها، وفي مصدرِ قوتها، وأَسَاسِ عزتها ورفعتها، فخرجت بذلك عن دائرة التأييد والحفظ والعون الإلهي، وحُرمت البصيرة والبركة، وسُلبت العزةُ والمنعة، وسقطت في مستنقع الربا، فاستحقت حربَ الله ونقمتَه وعذابَه، ونالها مقتَه وخذلانَه وغضبَه، وأصبحت رهينةَ أعدائها، وضحيةَ حكامها، وأسيرةَ أوهامها، وباستمرار تداعيات صمتها عن الحق، وتغاضيها عن ردع حكامها.
وهي بذلك تفتحُ بابَ العقوبات الجماعية على الأجيال اللاحقة، التي لن تجد أمامها سوى نفوس دنيئة، واقتصاد منهك بديون تصاعدية إلى ما لا نهاية، الأمر الذي يحتم عليهم الخضوع لاستعمار اقتصادي قذر، يعمل على استعبادهم تحت مسمى التنمية، بينما الحقيقة، كما يقول الشهيد القائد:- «ليس هناك تنمية، لا في واقع النفوس ولا في واقع الحياة. وإن كانت تنمية فهي مقابل أحمال ثقيلة تجعلنا عبيداً للآخرين، ومستعمرين أشد من الاستعمار الذي كانت تعاني منه الشعوب قبل عقود من الزمن. التنمية من منظار الآخرين: هو تحويلنا إلى أيدٍ عاملة لمنتجاتهم، وفي مصانعهم، تحويل الأُمَّــة إلى سوق مستهلكة لمنتجاتهم، أن لا ترى الأُمَّــة، أن لا يرى أحد، وليس الأُمَّــة، أن لا يرى أحد من الناس نفسه قادراً على أن يستغني عنهم؛ قوته، ملابسه، حاجاته كلها من تحت أيديهم، هل هذه تنمية؟. فنحن نقول: نريد التنمية التي تحفظ لنا كرامتنا، نريد نمو الإنسان المسلم في نفسه، وهو الذي سيبني الحياة، هو الذي سيعرف كيف يعمل، هو الذي سيعرف كيف يبني اقتصاده بالشكل الذي يراه اقتصاداً يمكن أن يهيئَ له حريته واستقلاله، فيملك قراره الاقتصادي، يستطيع أن يقف الموقف اللائق به، يستطيع أن يعمل العمل المسئول أمام الله” (الشهيد القائد:- ملزمة:- اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً).
عملت القوى الاستعمارية على ترويج وتسويق وهم الحرية والاستقلال وحق تقرير المصير، في أوساط الشعوب التي كانت ترزح تحت وطأتها، وتعاني ويلات الاستبداد والقمع والامتهان، علاوةً على غياب أدنى معايير الحياة الكريمة، في اشتراطاتها الإنسانية، التي يجب أن يوفرها المستعمِر للمستعمَر، ولهذا كانت ثورات الشعوب ضرورة قصوى فرضتها معطيات ذلك الوضع، وتداعيات الحالة الاستعمارية المهيمنة بمنطق الحديد والنار، التي مارست من خلال عامل القوة دوراً مزدوجاً متناقضاً، ظاهره أبوية استعلائية، تسلب الشعوب سيادتها واستقلالها، وحقها في الديموقراطية وحكم نفسها، وتحديد علاقاتها بمحيطها، تحت مبرّر جهلها وتخلفها، وافتقارها لمشروعها الحضاري الخاص، وباطنه أطماع المستعمر في مزيد من الهيمنة والنفوذ، ونهب الثروات والخيرات، واستغلالها لتعزيز وتقوية التموضع الاستعماري.
ولذلك يجب أن تبقى تلك الشعوب تحت وصاية وحماية وهيمنة القوى الاستعمارية، صاحبة المشروع الحضاري التقدمي، لتمارس بحقها لصوصية واضحة الصلف والقبح، تسلب الشعوب خيراتها وثرواتها ومقدراتها، وتستنزف كُـلّ مقومات نهضتها وتقدمها، وُصُـولاً إلى القوة البشرية، التي تتحول إلى أيدٍ عاملة –آلية– في مصانعه ومشاريعه وشركاته، وتتحول البلدان المستعمرة إلى أسواق مفتوحة لمنتجاته، ليضيف إلى تدمير الجهود والقوة البشرية، تدمير الاقتصادات المحلية في مختلف صورها، حاضراً ومستقبلاً.
وحاصل ذلك كله، أن الاستعمار العسكري، الذي أوهم الشعوب بأنه قد خرج من الباب، ومنحها حريتها واستقلالها –متفضلاً وممتناً عليها بذلك– وأنه قد غادر مقام السيطرة والاستبداد والهيمنة، معترفا بحق الشعوب في الحرية والسيادة والاستقلال، قد استطاع بذلك تسويق الخديعة والحيلة، التي منحته الفرصة الذهبية، ليعود من نافذة الصداقة، ومسميات النديِّة والاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، ليمارس أبشع صور الاستعمار، من خلال تموضعه الجديد، وثوبه الحضاري المغلف بحماية ورعاية حقوق الإنسان، وتقديم العون والمساعدة لكل محتاج، والارتقاء بالمجتمعات النامية والمتخلفة إلى مصافه الحضاري.
إن المستعمر الذي خرج بالأمس –من البلدان العربية– مرغماً، منهزماً بجيوشه وجحافله، وعدته وعتاده، تحت وقع ضربات الأحرار، وإصرار وتصميم الشعوب على نيل حريتها، مهما كانت التضحيات، قد عاد اليوم بنفس الأطماع الاستعمارية، ولكن تحت قناع الحضارة والإنسانية، ليفرض وصايته وهيمنته المتعالية، على (العالم الثالث) من جديد، ويلعب من خلال قوته وهيمنته الاقتصادية، أكثر الأدوار انحطاطا وقذارة وإجراما ووحشية، في تاريخ التسلط الإمبريالي والهيمنة، نظرا لما تمنحه صورته الجديدة – المغلفة بعناوين الاقتصاد والإنسانية – من مشروعية التدخل، وأحقية الحضور في كُـلّ بلد، والتحكم بصنع وتوجيه التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بما يخدم مصالح القوى الاستعمارية الكبرى، التي تغلف أطماعها بفتات المساعدات الغذائية، أَو أوهام التنمية الغائبة، ومشاريعها الخالية من أي مظهر للتنمية، أَو المساعدات المالية والقروض الربوية، التي تهدم بنيان المجتمعات، وتفسده على كافة المستويات، علاوة على كون تلك القروض مشروطة، ومشاريعها التنموية محدّدة سلفا، وِفْــقاً لما تراه الدول المانحة، من موقعها الأبوي المهيمن، ومركزيتها الحضارية المزعومة، وأحقيتها في تقرير ما تراه مناسباً، وفرضه على الشعوب المستضعفة، وبذلك عاد عدو الأمس/ المستعمر القديم، في ثياب صديق اليوم/ المتسلط الجديد، بصلاحيات أكبر، ونفوذ أوسع، وقبول وترحيب رسمي، من الأنظمة الحاكمة، التي تشكر حضوره، وتثني على استجابته لمساعدتها في تحقيق النهضة الشاملة، وتطلب منه المزيد من التعاون.
الذي يعني –في حقيقته– مزيداً من الوصاية والنفوذ والهيمنة، وما يترتب على ذلك، من فرض الجرع السعرية، والسياسات التقشفية وغلاء المعيشة، وما يصاحب ذلك من فرض واقع سياسي وأمني جديد، يعطي تلك القوى الاستعمارية الحق في استباحة الجغرافيا والإنسان، إلى أقصى درجات التسلط، دون أن تحمل تلك القوى أية مسئولية إنسانية أَو حضارية أَو قانونية، على ما اقترفته من استغلال وحشي، وجرائم حرب، وإرهاب منظم، بحق الشعوب العربية والإسلامية، ودول العالم الثالث عُمُـومًا.
إذن.. لا تعدو تلك التنمية الوهمية – القائمة على القروض الربوية – كونها سياسة إجرامية كارثية بحق الشعوب، تم التخطيط لها بدقة بالغة ومنهجية مدروسة، بما يضمنُ نجاحَها المُطَلَقَ، بفعالية كبيرة، ودقة متناهية، في عملية هدم البنية الاجتماعية، وتفكيك منظومة القيم والأخلاق، وإفساد الشعوب على كافة المستويات والأصعدة، وتدجينها وإخضاعها لهيمنة العدو/ المستعمر القديم الجديد، الذي لم يتوانَ عن جعل البلدان العربية –النامية– أسواقاً مفتوحة على مصراعيها أمام منتجاته، وتسخير الثروة البشرية للعمل لديه، كآليات رقمية تابعة له، وتحويل المجتمعات إلى قطعان من الزومبي، المتصارعة معه ولأجله، في صورة هي الأفظع استلابا وخضوعا وتبعية.
ويمكن القول إن تلك الحالة المزرية، كانت إحدى نتائج ممارسة الربا، والقبول به كآلية تعامل تجارية عامة، الأمر الذي أَدَّى إلى إفساد المجتمع، وقطع صلته بخالقه نهائياً، وسلبه أدنى مقومات الرعاية والتأييد الإلهي، لينحدر في مهاوي السقوط، ويصل إلى مستوى متقدم جِـدًّا، من الذل والخزي والهوان والاستلاب، والعجز عن محاولة النظر في حقيقة وضعه، وتحليل مشكلته، وإيقاف ممارسات المستعمر وخططه وإجرامه، وكشف حقيقة دور الأمم المتحدة الإرهابية ومنظماتها الاستعمارية، وإيقاف تدفق القروض الربوية المنهكة للاقتصاد والإنسان، والمشاريع التنموية الزائفة، والتعاطي مع المستعمر الحديث، من منظور قرآني، ومن موقع العداوة لليهود والنصارى، الذين لا يودون أن ينزل علينا أي خير من ربنا على الإطلاق، فهل يعقل أن يقدموا لنا ذلك الخير –أَو بعضه– بأيديهم.
وبما أن ذلك مستحيل عقلا، ممتنع واقعا، فيمكن القول إنهم قد استطاعوا خداعنا، وإيهامنا بجليل خدماتهم، وكبير مساعدتهم وفضلهم، بما من شأنه تحسين قبح صورتهم الاستعمارية، وخلق حالة من القبول والتعاطف المجتمعي معهم، تحت مسمى الصداقة والأخوة الإنسانية، بوصفهم ضرورة وجودية، وكينونة حضارية، لا يستقيم وجودنا، ولا تقوم حياتنا إلا بها، بينما حقيقة وجودهم وحضورهم، تؤكّـد طبيعة دورهم الوجودي التخريبي الهدام، وأبعاد كينونتهم العدائية تجاه الإنسانية عامة، وهذا ما كشفه ووضح معالمه، الشهيد القائد، بقوله:- “هناك مشاريع بملايين الدولارات الإنسان البسيط يجب أن يفهم وسيرى بأم عينيه حقيقة ما يقدمونه إنما هو عبارة عن طُعم لتدجين الناس وصرف أنظارهم عن الحذر واليقظة أمامهم؛ مِن أجلِ ماذا؟؛ مِن أجلِ يحتلونهم ويجتاحون بلدانهم وسيستعيد بالأضعاف المضاعفة من ثرواتك أنت من جيبك أنت بأكثر مما قدم لك، أما إذَا أنت تراه قدم مدارس مثلاً مدارس أليس هو يلحقها بالمنهج حقه؟ إذاً المدارس حق من في الأخير؟ حقه هو؟ المدرسة هي لصالح من هو متحكم في المنهج ويكون معناه في الأخير أننا نقدم لهم الشكر ونصفق لهم ونعتبرهم متجمِّلين فينا وَإذَا المدارس في الواقع فقط نقدم لهم ونعطيهم ولاءنا ونعطيهم أَيْـضاً أبناءَنا يعلمونهم كما يريدون. إذَا ما هذه تطلع في الأخير قضية وهمية؟ ممكن يعطون لنا مثلاً مستشفيات يعطون مراكز صحية يعطون مستوصفات لكن الله أعلم كم سيعملون من خلالها من أشياء تضر بالناس عمليًّا، إضافة إلى أنه من خلالها يصنعون نظرة إيجابية عند الناس بالنسبة لهم هذه النظرة الإيجابية هي تجعل الناس يغمضون أعينهم أمام ما يحيكونه من مؤامرات وما يسيرون؛ مِن أجلِ الوصول إليه وهو أن يهيمنوا عليهم، أليست هذه القضية أصبحت ملموسة الآن؟ هم لا يعملون شيئاً إلا وهم واثقون من حصولهم على ثمنه أضعافا مضاعفة يستلمونها هم. إذَا عندما يأتي مشروع مستشفى كم فيه مثلاً؟ عشرات الأسرة وخدمات عالية وأطباء مهتمين وممرضين مهتمين يدخل مريض من قرية يهتمون به بشكل كبير سيقول [هؤلاء ناس طيبين هؤلاء ناس ملائكة، الأمريكيين هؤلاء ناس طيبين باهرين…] سيرجع القرية وعندما تقول أنت هؤلاء ناس خطيرون هؤلاء ناس يجب أن نقف في مواجهتهم سيقول لك [ماذا؟ مواجهتهم! ولا أمك ستعمل لك مثل تلك الممرضة ولا أبوك سيعمل لك مثل ذلك الطبيب] قد يقول [رضي الله عنهم اسكتوا] وإلاّ قد يصلي عليهم. الخطورة هنا المكسب الكبير للأمريكيين عندما يقدمون المساعدات هي في هذه النظرة التي يخلقونها من خلال مساعداتهم هم لا يقدمون شيئاً بمشاعر إنسانية بشعور بحق عليهم كدول متقدمة أن يعطوا دولاً فقيرة ويساعدونها من منطلق إنساني. لا يوجد عندهم هذه على الإطلاق”.
(سلسلة دروس رمضان المبارك – الدرس السادس – سورة البقرة).