“حتمياتُ النصر” في خطاب قائد الثورة
المسيرة | خاص
في خطابه الأخير بذكرى استشهاد الإمام زيد بن علي عليهما السلام، رسم قائدُ الثورة، السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي، الخطوطَ العريضةَ الواضحةَ، وخارطة الطريق الرئيسية، لمسار اليمن المقاوم، ومستقبله، بناء على ثوابت محسومة وغير خاضعة لأية مساومات أَو مناقشة، وهو ما يحملُ رسائلَ مهمةً للأعداء؛ لأَنَّ تلك الثوابت تتضمن المضي نحو تحرير كامل أراضي الجمهورية اليمنية، والرفض القاطع والصريح لأي خيار ينطوي على وصاية جزئية أَو كلية من أي نوع على البلد، إلى جانب المضي في القيام بالدور الإقليمي الأوسع في مناهضة الهيمنة الأمريكية الإسرائيلية على المنطقة، وبالتالي فَـإنَّ أيةَ محاولة من قبل الأعداء للالتفاف على هذه الثوابت محكومةٌ بالفشل مسبقًا.
الخطابُ جاء “ثوريًّا” بامتيَاز، وبصورة ظهر فيها موقف الشعب اليمني وقيادته اليوم أمام تحالف العدوان وقوى الهيمنة الخارجية، كامتداد عملي لموقف الإمام زيد بن علي وأصحابه في وجه الطغيان الأموي، وهو موقفٌ استثنائي تميزه عدة أمور، أبزرُها الثباتُ الكاملُ على المبدأ التحرّري، بشكل لا تبقى معه أية مساحة للتراجع أَو المساومة أَو إعادة التفكير مرة أُخرى.
قائدُ الثورة عبّر عن ذلك الامتداد بوضوح، إذ أكّـد على “حسم الخيارات والقرارات” المتعلقة بالمواجهة، وركّز على نقاط أربع، كمحاورَ رئيسية لهذه الخيارات والقرارات، مقدماً إياها كحتميات.
النقطة الأولى كانت “تحرير كامل البلد واستعادة كُـلّ المناطق التي احتلها تحالف العدوان”، وهي رسالة شديدة الوضوح موجهة للعدو فيما يتعلق بمساعيه الواضحة والمعلنة للحفاظ على وجوده في المناطق المحتلّة، ومحاولاته لشرعنة ذلك الاحتلال وفرضه كأمر واقع.
ولا يخفى ارتباط هذه الرسالة بالمطالب الرئيسية التي كان قائد الثورة نفسه قد أعلنها سابقًا، بخصوص “السلام” الفعلي والحقيقي، والتي تتضمن ضرورة خروج كافة القوات الأجنبية من المناطق والجزر اليمنية المحتلّة، وبالتالي فَـإنَّ الرسالة الأخيرة تعلن بوضوح أن هذه المطلب غير قابل للمساومة أَو التجزئة، بل يكاد هذا الإعلان أن يبرز ملامح خطة عملية معدة لدى القيادة بشأن تحرير المحافظات المحتلّة، وقد حرص القائد على أن يحدّد بعض مناطق التواجد العسكري الأجنبي بالاسم، في إشارة إلى أن جميع تحَرّكات العدوّ تحت الرصد والمتابعة المُستمرّة، وهو ما يرتبط أَيْـضاً بما كان قد أعلنه سابقًا ناطق أنصار الله، محمد عبد السلام، بوضوح، حق القوات المسلحة في ضرب القوات البريطانية المتواجدة في المهرة.
وتتوجّـه هذه الرسالة أَيْـضاً إلى الداخل، كبشارة للشعب الذي بات يعرف جيِّدًا أن القيادة لا تطلق وعوداً فارغة، وكإنذار للمخدوعين الذين يعوّلون على التواجد الأجنبي، ويبنون عليه مواقفهم العدائية.
النقطة الثانية من الحتميات التي ركز عليها القائد في خطابه الثوري كانت “ضمان حرية واستقلال البلد وعدم خضوعه لأية وصاية أجنبية”، وهي مرتبطة أَيْـضاً بالنقطة الأولى، لكنها تشيرُ بشكل رئيسي إلى المستقبل السياسي لليمن، وحديثُ قائد الثورة هنا لا يأتي من منطق “التوقع” أَو إطلاق شعارات حماسية لحظية، ولكنه تأكيدٌ على أن امتلاك السيادة الكاملة والاستقلال التام هو أَيْـضاً أحد الثوابت الرئيسية التي لا يمكن تجاوزها أَو إزاحتها أَو الالتفاف عليها.
وهي رسالة أُخرى للعدو مفادُها أن أية محاولات للمساومة على السيادة والاستقلال، وأية “حلول” تنطوي على وصاية جزئية أَو كلية من أي نوع، محكومة بالفشل مسبقًا، وأن التحرّرَ الكامل غيرُ المنقوص، هدفٌ جوهري لمسار مواجهة العدوان لا تراجع عن تحقيقه، سواء على الطاولة، أَو بالقوة.
ترتبط النقطتان السابقتان بشكل واضح بمساعي دول العدوان ورعاتها المتواصلة للالتفاف على مطالب السلام الحقيقي، ومحاولة التحكم بمستقبل اليمن عن طريق فرض خطوط حمراء وضغوط من شأنها الإبقاء على التواجد الأجنبي والوصاية الخارجية، ضمن “حلولٍ” مزيَّفة، غرضُها تقييدُ خيارات صنعاء التحرّرية، إلا أن حديث قائد الثورة هنا يتجاوز بوضوح كُـلّ هذه المساعي ويؤكّـد على أن حسابات العدوّ ما زالت متأخرة للغاية، وستكلفه الكثير.
النقطة/ الحتمية الثالثة والتي عبّر عنها القائد بقوله: “شعبُنا سيكون حُــرًّا عزيزًا وليس متسولًا عند آل سعود أَو آل نهيان”، هي بدورها مبنيةٌ على النقطتين السابقتين، وهي تقدم صورة مباشرة وواضحة عن انتهاء زمن تسلط الرياض وأبو ظبي على اليمن سياسيًّا واقتصاديًّا، وهذه الصورة تحمل رسائل مهمة بالنظر إلى أن الرياض وأبو ظبي، لا زالتا بالفعل تتصرفان وِفْـقاً على اعتقادهما بأنهما تستطيعان التحكم بمستقبل اليمن والإبقاء على نفوذهما فيه، حتى مع خسارة الحرب، سواء من خلال محاولات إعداد “طرف ثالث” يتبعهما، أَو من خلال تفريخ عدة أطراف جديدة من العملاء لتكون حاضرة في المستقبل السياسي؛ مِن أجلِ الإبقاء على النفوذ السعوديّ الإماراتي في البلد، ورهن مصالح اليمنيين وأمنهم بإرادَة وإملاءات الرياض وأبو ظبي.
إن الصورةَ المستقبلية الحتمية التي يقدمها قائد الثورة في هذه الجزئية، تتجاوزُ مساعيَ الرياض وأبو ظبي السياسية والاقتصادية ومخطّطاتهما البديلة، وتؤكّـد على أن الصورةَ القديمةَ لليمن الخاضع لنفوذ النظامين السعوديّ والإماراتي، لم يعد لها مكان، وأن محاولةَ الإبقاء على هذا النفوذ تحت أي عنوان مسألةٌ مرفوضةٌ بشكل قاطع، كما تؤكّـد على أن اليمن يمتلك اليوم مسارًا معدًّا وواضحًا للوصول إلى الهدف المستقبلي المنشود، ولن يخضع لأية ضغوط في هذا المسار.
وتأتي النقطة الرابعة متسقة تماماً مع الحتميات السابقة، فاليمن المحرّر والمستقل الذي يمتلك سيادته التامة ولا يخضع سياسيًّا أَو اقتصاديًّا لنفوذ أنظمة الخليج “سيكون حاضرًا للتكامل مع أحرار الأُمَّــة في كُـلّ القضايا الكبرى”، وفي مقدمتها بالطبع القضية الفلسطينية، ومسار التحرّر من الهيمنة الغربية الصهيونية على بقية بلدان المنطقة، وهذا تأكيدٌ أَيْـضاً على أن تعزيزَ الدور الإقليمي لليمن هو أَيْـضاً أحد الأهداف الجوهرية لمسار مواجهة العدوان، وهو أَيْـضاً خيار غير خاضع للمساومة.
هكذا، وبإيجازٍ شديدٍ رسم قائد الثورة خارطةَ الطريق، والأهدافَ والثوابتَ الرئيسيةَ للمشروع التحرّري الذي يأتي مسار مواجهة العدوان في إطاره، ويلتزم بأدبياتِه في كُـلِّ المجالات، فالنقاطُ المذكورة ليست وعودًا فارغة، بل محدّداتٌ وموجِّهاتٌ تحكُمُ السلوكَ العملي في السياسة وفي الاقتصاد وفي الحرب على الواقع الراهن، وتدخُلُ بوضوح في كُـلِّ المِلفات التي يسعى العدوّ اليوم للتحكم بها ورهنها بإرادته ورغباته، بدءاً من مِلف محافظة مأرب، وُصُـولاً إلى مِلف علاقة اليمن المستقبلية بدول محور المقاومة.
ويمكن إجمالُ كُـلِّ ما سبق في نقطة واحدة وهي أن اليمنَ اليوم هو مَن يفرِضُ الشروطَ، وأن الشعبَ اليمني ماضٍ في المسار التحرّري الشامل، ولن تعيقه أية ضغوط أَو مناورات عن تحقيق أهداف هذا المسار.