حدائقُ الكرامة تزهر
إبراهيم العنسي
ما من كَرّةٍ أُخرى لتجدِّدوا فيها عهدَ الخيانة.. وما من عودة.. ثورتان سبتمبريتان تدعوان للكرامة.. هي مناسبةٌ أتت لتذكرنا بما كان على عهدكم في حاضر يتقاذفكم يمنةً ويسرةً.. ثم إلى أين ستأخذكم هواجس وأحلام يقظة العودة المستحيلة والأرض تغلي غضباً من صنيعكم!! ألا ترون أنكم محسوبون لفظاً على تحالف تقودُه نجمةُ داوود وأحلامُ اليهود مع مستعربي الجزيرة؟!.
قد صرتم بين حجرَي رحى ملك وشيخ.. أول أجاد العبثَ بكم وأنتم على مائدة فُتاته ثم وأنتم تتنازعون ما عزم على استرداده من أفواهكم.. هَـا هو ولي نعمتكم هناك على بعد خطوة لينسل وقد كشفت الصحف ليفارق من حوله وينكث عهده على صواب وخطاء يرمي بكم جميعاً في محرقة أحلامه الصبيانية.. وثانٍ ذي وجه حداثي غريب منذ زمن عن عروبة وإسلام.. هجين ينتهي به المطافُ على شاكلة المعتمد بن عبَّاد شهير ملوك طوائف الأندلس..
لقد كنتم في صنعاء ثلاثةً.. ثلاثتكم تُحكِمون قبضَ البلاد لكن لغيركم.. ثلاثة أركان كانت تتنازع أمر بلاد عاشت زمناً طويلاً منهكة ضعيفة على وقع ما نالها على يد أتراك وإنجليز ثم على يد انجليز ودولة وليدة لابن سعود ودولة أدارسة.. ثم على يد خوف وانغلاق وتقوقع على مجهول خشي الانفتاحَ حتى فجر ثورة سبتمبر1962.
جئتم بعد أن أكلت الثورةُ أولادَها فيما الطامعُ ينتظر على حدود البلاد فريسته وقد عزم أن ينكث عهده وما اتفق عليه قبلُ مع إمام اليمن لتكملوا آخر فصول التراجيديا مع جريح استحليتم أن تتكئوا على جرحه ولم يكن هذا الجرح إلَّا وطنكم الذي لم ترأفوا به.. كان هناك ثورة اسمها 26 سبتمبر حلم وحقيقة أجزم أنها ماتت على يدكم.. كنتم ثلاثة جمعكم الولاء لغريب بعيد كما جمعتكم السطوة والمال والسلطة وكان هناك شعب حمل تبعات ما حَـلّ بوطنه لقرن أَو يزيد.. ثلاثتكم شغلتكم أهواء السيطرة فصرتم تتنازعون البلاد كما تتنازع الضباع فريستها.. لم تعيروا هذا الشعب المكافح الحي اهتمامكم أَو تعطوه ما يستحق.. جردتموه من كُـلّ شيء ثم دفعتم به من الفقر إلى المهجر حتى تنعموا بدولاراته التي لم تأفل ولم تنقطع.. خيرات البلاد كانت حكراً على دوائركم المغلقة، الثقب الأسود كان يبتلع كُـلّ ما حوله ليحيل هذا الوطن إلى الضعف والفقر وهو أبعد ما يكون عن هكذا حال.. لم تعيروا التاريخ اهتماماً ولم تقفوا له احتراماً على ما كان لأجداد هذا الشعب من رصيد قوة ومنعه ذات يوم.. ولا لصبر هذه الأُمَّــة على المكاره..
يوم أن جئتم قُدتم زمام سيادة البلاد صوبَ الشمال، حَيثُ حاكم الدرعية أهدي الغنيمة من غير غُرم ولا مشقة.. مع ختام المشهد الأخير من حصار السبعين كانت البلاد قد سلم قرارها للرياض بكل هدوء وتلاشت أحلام عودة المستنجد بأعالي جبال صنعاء.. تبخرت أحلام ثورة 26 سبتمبر 1962 كما تبخرت أحلام عودة الملكية وقتها على رمال صحراء بادية ابن سعود هناك، حَيثُ الجد مانع المسيب، على بساطته ينام جعلتم سطوة حاكم الرياض نافذة فيكم وما كان لهم عليكم من سلطان وقد خاب حظهم في أن يسيطروا على بلادكم من قبلُ.. لقد سلّمتم لهم السيفَ والخنجرَ والبندقيةَ وجعلتم يمنَكم حديقةَ الرياض الخلفيةَ، وحقٌّ لهم أن يقولوا عنها ذلك على عهدكم.
لم تتأملوا الطامع بعد أن أبرم اتّفاقَ الطائف، إذ سرعان ما شمَّر عن ساعديه.. كانت أحلامُ ابن سعود تتوقُ لتطويَ رمالَ صحراء الجوف وَمأرب وحضرموت وشبوة والمهرة تحت قدمَيه، حَيثُ حدسه قد أصاب أنها منجم ثروة اليمن.. لم تفلح يومها فصاحة مستشاره البريطاني ولا بريق ذهب جنيهات وزير خزانته السليمان من أن تذهب بعقول أسياد صحراء العربية السعيدة.. كان الفخر بانتمائهم لها يفوق الذهب وكل ما هو نفيس على عكسكم تماماً!! أليس كذلك؟
لقد رحل ذلك الجيل الذي أبى المساومة على هُــوِيَّته وكرامته في أن يكون تحت طوع ابن سعود وبقي الأثر والموقف الأصيل ونفح ذكراهم الذي لا ينتهي يذكرنا جيلاً بعد جيل.. فماذا عنكم!!؟ ألم تكفكم ملايين ملايين ريالات وهبات وإكراميات آل سعود ولجنتهم الخَاصَّة ولجانهم الحاضرة حتى اليوم!!
أَمَا شبعتم أيها الإخوة الجاحدون لفضل هذه الأرض عليكم!! ثم أكان لزاماً أن تريقوا دمَ إخوانكم على مذبح الشيطان والشيطان لكم عدو!! إني لأتعجب كيف يستوي الأمر هكذا وأنتم تدركون الأمر على حقيقته كما سمعتها منكم قبل!! لعلها الغنيمة اعتادت عليها ذواتكم على غير صلاح أن تسلبكم العقل والحكمة وَقد ذهب الله بها فما عدتم ترون غير ما تشتهي أنفسكم؟؟ أية غنيمة وأية ثروة بيدكم اليوم!! وعلى يد من؟؟ وما كان الثمن؟؟ أين أنتم اليوم في جملة من خطط ودبر!! ألستم في هامش هامش أولوياته!!؟ ساترك لكم الجواب!.
لقد نهبت أموال اليمن بما يفوق المِئة مليار دولار، حَيثُ ملاذاتكم الآمنة وما خفي أعظم ثم باسم الشعب والجوع توسلتم العالم أن يتصدق علينا!!..
قد قلتم أن النفط المعتق سينضب ويجف الضرع!!! فماذا عن حقول النفط التي أخفيتم أثرها وألغيتم خبرها وهي شاهد حي عليكم!؟
لما قال لكم الإنجليز والأمريكان كما قالت الرياض لكم من قبلُ: إن محافظات إقليم الصحراء بامتدادها خطٌّ أحمرُ محظورٌ عليكم، حَيثُ الرمال الدافئة وآبار النفط تبشّر بالخير الذي بدا أنكم له ولشعبكم كارهون.. لقد آثرتم بقاءَكم في المهانة طيلة عقود حكمكم على يد من لا يقدر أن يحمي نفسه.. ثم كنتم الخنجر ورصاصة الغدر تنفذ بظهر رئيسكم الفتي “الحمدي” يوم أن حمل مشروع نهضتكم وتحريركم من عبودية حديثة العهد..
للحق إنكم كنتم أوهنَ من أن تواجهوا خصمَكم وقد أسبغ عليكم نعمتَه.. ولم يكن هناك من سبيل إلَّا أن يزولَ الأثرُ كسُنَّةٍ من سنن الله ليأتيَ الله بقوم غيركم يرون في عزة هذا البلد مقصداً وبذل الروح غايةً لا تساوم بمنصب ولا سلطة ولا خلافة.. ها هي شمسُ كرامة تشرق من جديد على هذا الوطن، إذ لم يعد حديقةً خلفيةً ولا رقماً عشرياً إنما قائدٌ ورأسُ حربة مواجهة تجاوزت الدفاع عن وطن إلى ما هو أكبرُ وَأبعدُ دفاعاً عن مقدَّسات وشرف أُمَّـة بأسرها.