عواقبُ سوء الأخلاق

 

فارس محمد السخي

إن تربيةَ الناس وتعليمَهم لَمن أعظم الأعمال صلاحاً، وأكثرها تقوى، وأجلها قداسة، يوجبُ على القائمين به أداءَ حق الانتماء إليه، إخلاصًا في العمل لله، وصدقاً مع النفس والناس، وعطاءً مُستمرّا لنشر العلم والخير، والقضاء على الجهل والشر. فالمعلم صاحب رسالة، يستشعر عظمتها، ويؤمن بأهميتها، ولا يظن على أدائها بغالٍ ولا رخيص، ويستصغر كُـلّ عقبة دون بلوغ غايته من تأديتها.

أساتذتنا الأكارم، ومعلمينا الأفاضل، مربي الأجيال، وصانعي بناة الأوطان، إن مسؤولية كُـلّ معلم ومثقف، وواجب كُـلّ خبير ومستبصر، أن يحرص على تعليم الناس وتوجيههم إلى كُـلّ ما يستفاد منه وينتفع به بما يقتضيه الحال والزمان، فَـإنَّ خير العلم ما نفع، ولا خير في علم لا ينفع، ولا ينتفع بعلم لا يحق تعلمه، وما مات علم إلا بموت حامله، وما للناس من دنياهم إلا ما أصلحوا به مثواهم. فأمتنا تحتضر، وديننا هجر، وتاريخنا زور، فتردت أخلاقنا، وجردت قيمنا وأعرافنا، وصرنا أُمَّـة عارية لا يغطي سوءتها نبي ولا أذان.

أيصح أن يقاسَ الله بالكاهن، والدين بالصلاة، والخير بالفقه! إن الله أكبر من أن يقاس بالفقهاء، والدين أكبر من أن يقاس بالمصلين، وأما الخير فليس محصور بحدود، إلا ما شرد منه إلى ضلال وشرور. يتفقه الناس في الدين، ويدرسون تاريخ أوطانهم، فيتعلمون كيف يخان الوطن ويباع الدين. أوَليسوا اليوم قد خانوا الوطن بالدين والدين بالمصلحة! غدا الناس همجاً رعاعاً، يتبعون كُـلّ ناعق ويميلون مع كُـلّ ريح، فمن ادعى العلمَ وتسمى عالما، ولا نصيبَ له من ذلك العلم في شيء، إنما هو خزان الجهل والضلال والعوج، ينزع الإيمان من قلوب الناس، ويفسد دينهم وإنسانيتهم، ويهدم قيمهم وأخلاقهم، فوالله إني لأخشى على الناس من ضَلال فقهائهم، أكثر مما أخشى عليهم من كيد أعدائهم، فَـإنَّ أعرافَ جاهليتهم الأولى ما زالت متجذرةً في نزعات وجدانهم أكثر من رسوخ الإيمان فيها.

ولقد ورد في هذا الشأن كلام بليغ للإمام علي بن ابي طالب عليه السلام:

(وآخرُ قد تسمّى عالماً وليس به، فاقتبس جهائلَ من جُهّال، وأضاليلَ من ضُلاّل، ونصب للناس أشراكاً من حبائل غرور، وقول زور، قد حمل الكتاب على آرائه، وعطف الحقّ على أهوائه، يؤمِّن الناس من العظائم، ويهوِّن كبير الجرائم، يقول: أقِفُ عند الشبهات، وفيها وقع، ويقول: أعتزل البدع، وبينها اضطجع، فالصورة صورة إنسان، والقلب قلب حيوان، لا يعرف باب الهدى فيتّبعه، ولا باب العمى فيصدّ عنه، وذلك ميّت الأحياء).

وخلاصة القول، نحن اليوم نعاني من أزمة أخلاقية قبل أي شيء آخر. وأزمتنا الكبرى تكمن في استمرار اعتقادنا بأن مشاكلنا سياسية واقتصادية واجتماعية فقط، بينما كُـلّ الدلائل والشواهد والتجارب التي مررنا بها تؤكّـد أن مشكلتنا الأعظم مشكلة أخلاقية، يعاني منها الأفراد والمؤسّسات، الحكام والمحكومون، الصغار والكبار، مع الذات ومع الغير، في الأسرة والشارع، والكرسي والمنبر، والمدرسة والجامعة، وفي كُـلّ مكان.

لذا، فاسمحوا لي أن أقترح عليكم تدريسَ الطلاب، سواءً في المرحلة الثانوية أَو في الجامعات، علم الأخلاق، الأخلاق المحمدية والإنسانية، لا أخلاق الإسلام التاريخي المنحرف، فهي سبب كُـلّ خطيئة، ومبعث كُـلّ رزية عصفت بأمتنا. بل جل ما أقصده هو تعليم الطلاب تلك الأخلاق المحمدية العظيمة بعظمة صاحبها، وتلك الأخلاق الإنسانية المشتركة بين أبناء البشرية جمعاء -بكل دياناتها ومعتقداتها وأشكالها وألوانها ولغاتها وثقاقاتها- وَأَيْـضاً تلك الأخلاق والصفات الإلهية التي ينبغي علينا تعلمها والتخلق بها، فقد أوصانا رسول الله صلى الله عليه وآله: (تخلّقوا بأخلاق الله). لذا، فمن لا يتخلق بأخلاق الله، فليس جديراً بحمل رسالته، ومن لا يتخلق بأخلاق القرآنِ فليس جديرًا بحمل ثقافته. على أن الصعوبة في ذلك تكمن في أن يتحلى المعلم بالأخلاق قبل تدريسها، ليكون أجدر بالاتباع وأحرى بالاقتدَاء.

ما أحوجنا في واقعنا اليوم أن نتعلم القيم النبيلة ومكارم الخصال ومحامد الأخلاق ومحاسنها بحلتها المحمدية الأصيلة، فالله تعالى يقول في كتابه واصفا نبيه ورسوله محمد: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}.

ويقول أيضا: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخر وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}، وقال رسول الله (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، وقال الإمام علي بن أبي طالب: (إن الله جعل مكارم الأخلاق ومحاسنها وصلاً بيننا وبينه). فكم من وضيع رفعه حسن خلقه، وكم من رفيع وضعه سوء خلقه. فالأخلاق ملكة وجدانية، وقوة ذاتية، تدفعك للقيام بالأعمال الحسنة، وتنهاك عن فعل الأعمال السيئة، ترغبك في العدل، وتمنعك من الظلم، تحبب إليك الخير والإصلاح والمعروف، وتكره إليك الشر والإفساد والمنكر، تجذبك للحق، وتنفرك من الباطل. وما الدين إلا ذاك.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com