حقائقُ وراءَ الحملة السعودية على لبنان
جلال الرويشان
أثارت تصريحاتُ وزير الإعلام اللبناني، والإعلامي اللامع، جورج قرداحي، التي قال فيها إن الحرب على اليمن عبثية، ويجب أن تتوقف.. جدلاً واسعاً في أروقة السياسة والدبلوماسية والإعلام والرأي العام.. وانقسم اللبنانيون، كما انقسم العرب.. بين مؤيد، ومعارض، ومن يمسك العصا من المنتصف.. واستخدمت دول العدوان (السعوديّة وتحالفها) كُـلّ ما تمتلكه من أدوات الضغط والترهيب والترغيب لكُلِّ مَن قال: إن قرداحي ربما يكون على حق.. وبرغم اعتذار رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي.. فقد تسلَّم سفراءُ لبنان في بعض دول الخليج مذكرات احتجاج، والمضحك المبكي أن سفير هادي في بيروت سلَّم أَيْـضاً مذكرةَ احتجاج للخارجية اللبنانية..
ضجة عارمة اجتاحت الأجواء الخليجية والعربية، تجاوزت ذلك الضجيج الذي خلَّفته جرائم وانتهاكات العدوان على اليمن، وقضية جمال خاشقجي.
ولو عدنا إلى الأرشيف العام للحالة اليمنية، لوجدنا الكثيرَ من السياسيين والدبلوماسيين وصُنَّاعِ القرار في العالم، قد قالوا في تصريحات مشابهة، فقد سبق للأمين العام للأمم المتحدة في 2017، أن قال: إن الحرب في اليمن عبثية.. وتكرّر هذا الخطاب، أَو معناه، في معظم إحاطات المبعوثين الأمميين أمام مجلس الأمن.. فلماذا تصريحات قرداحي فقط، هي التي أثارت حفيظة القصر الملكي في الرياض؟!
واحدةٌ من الحقائق التي لا يمكن إغفالها، هي أن الصراع اللبناني – اللبناني، والدور السعوديّ الذي يسعى دائماً إلى ربط المساعدات الاقتصادية بسلب القرار السياسي اللبناني، وإدارة المِلف اللبناني إدارة مباشرة.. حاضرٌ بقوة في المشهد المتعلق بتصريحات قرداحي وردود الأفعال الخليجية -والسعوديّة تحديداً- المُبالغ فيها.. فهي بالنسبة للسعوديّة مسارٌ لا يمكن التراجع عنه.. فإما استمرار السيطرة على القرار اللبناني الداخلي، وإما ضرب إسفين بين القوى اللبنانية، وإدارة لبنان بالأزمات المتتالية.. والوضع اللبناني أَسَاساً مُهيأ، للسيطرة على القرار، أَو للإدارة بالأزمات.. فالحكومة لم تتشكَّل إلا بعد مخاض عسير، والأزمة الاقتصادية مستفحلة، والمآسي تتوالى، من انفجار مرفأ بيروت، إلى أحداث الطيونة.. ولا يزال الحبل على الجرار..
وبالإضافة إلى ما سبق.. فَـإنَّ تيار المردة “الحزب السياسي اللبناني الذي يرأسه سليمان طوني فرنجية، ويشكل الموارنة أغلب أعضائه، ويعد من حلفاء حزب الله وسوريا.. هو التيار الذي يمثله الوزير جورج قرداحي.
والحقيقة الثالثة أن التحالف الذي تقوده السعوديّة في عدوانها على اليمن منذ سبع سنوات، لم يحقّق أهدافه.. ومع اقتراب سقوط مأرب واستمرار قصف العمق السعوديّ تتكشف هذه الحقيقة للرأي العام الإقليمي والدولي.. وكأن قرداحي أشار إلى ما لا ترغب دول التحالف في الإشارة إليه، برغم أنه ظاهر للعيان.. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: إذَا لم تكن الحرب على اليمن عبثية.. فما هو الذي أُنجز من أهداف العدوان (التحالف) المعلنة منذ العام 2015؟!
والحقيقة الرابعة هي أن واشنطن ولندن وبروكسل، وعواصمَ أُخرى، تمارس سياسة الإدارة المزدوجة بالأزمات لبيروت والرياض وعواصم شرق أوسطية أُخرى، في مواجهة محور المقاومة، في مواجهة محور التطبيع مع الكيان الصهيوني، الذي تتزعمه بعض دول الخليج.. وقد لوحظ هذا، من خلال ردود الأفعال المُبالغ فيها على تصريحات جورج قرداحي، التي قالها أَسَاساً قبل أن يتولى حقيبة وزارية في حكومة نجيب ميقاتي المهدّدة بالانهيار.
وخلاصةُ ما سبق أن الحكومة اللبنانية، والمكونات السياسية اللبنانية، والشعب اللبناني أمام اختبار حقيقي للتمسك بسيادة واستقلال القرار السياسي اللبناني، والحفاظ على تماسك البُنية السياسية الداخلية التي تمثلها المكونات اللبنانية بمختلف انتماءاتها وتوجّـهاتها الدينية والطائفية والمناطقية.. أَو التخلي عن القيم، والسقوط في براثن التبعية والصراعات الداخلية وخدمة الأجندات الخارجية التي لا، ولن تراعي مصالح الشعب والدولة اللبنانية.
والمجتمع الدولي -ودول الغرب تحديداً- كذلك أمام اختبار حقيقي للقضية الأخلاقية التي يدّعي الغرب بأنه يرعاها ويدافع عنها، والمتمثلة في الحريات العامة والخَاصَّة.. وإلا فما معنى أن يؤاخذ بلدٌ بنظامها السياسي ومكوناتها وشعبها، بمُجَـرّد رأي قاله أحد مواطنيها (التصريحات قبل تولي جورج قرداحي لمنصب وزير الإعلام)!؟..
إن ردودَ الأفعال غير المنطقية، وصمت المجتمع الدولي عن الإجراءات الظالمة التي أعقبت ذلك، تدل بوضوح على انهيار منظومة الحريات وحقوق الإنسان التي يتشدق بها المجتمع الدولي.
وهي أَيْـضاً محطةُ اختبار ومراجعة الذات، للسعوديّة ودول الخليج -التي وقفت معها هذا الموقف- بأن تعيد حساباتها ورسم سياساتها بعيدًا عن ازدراء الآخرين واحتقارهم، والاعتداد الكاذب بالمال والثروة، والتدخل السافر في الشؤون الداخلية للآخرين..، إذ إن التحولات التاريخية، والمتغيرات الدولية، تشير بوضوح، بأن ما كان ممكناً بالأمس، لا يمكن تطبيقُه غداً.. فالأيّام دُوَلٌ، والديَّان وحدَه الذي لا يتبدَّلُ ولا يتغيَّر..
(وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أكثر النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) صدق الله العظيم.