في العلاقة الملتبسة بين القاضي والمحامي
عبدالعزيز البغدادي
لا بد من التأكيد على بديهية الأهمية القصوى للدور التكاملي بين عمل القاضي وعمل المحامي كأساس للوصول إلى الحقيقة بشأن أي نزاع مطروح أمام القاضي والنطق بها في الوقت المناسب قانوناً حسماً للنزاع وتحقيقاً للعدالة المنشودة، والمقصود هنا بالتأكيد (العدالة الشكلية) أي التي تعكس حرص القاضي على الالتزام بالإجراءات التي ألزمه بها القانون من حيث ولايته وحدودها والمبادئ التي ينبغي عليه التقيد بها تحقيقاً لمبدأ المساواة بين المتقاضين في حق الادعاء والدفاع وتطبيق مبدأ حُسن النية والحياد ، والمساواة بين الخصوم في مجلس قضائه وعدم الإشارة الى أحدهم وتلقينه حجة أو تلقين الشهود أو أن يستضيف أحد الخصوم أو أن يُضاف عند أحدهم، كما ينبغي على القاضي مراعاة الآداب والأخلاق الرفيعة التي يتوجب على رجال العدالة التحلي بها، ويؤكد القانون على أن مخالفة القاضي لهذه الآداب والسلوكيات تعرضه للمحاكمة جنائياً أو تأديبياً طبقاً لقانون السلطة القضائية والقوانين النافذة، أي أن هذه المسؤولية والسلوكيات متعلقة بالحق العام المراقب من الرأي العام كحق للمجتمع، ومن هنا نشأت أهمية كون الأصل في المرافعات -الشفاهية– وهو ما يؤكد أن شكلية العدالة أي قيامها على مبادئ وأسس قانونية على القاضي الالتزام بها وجوباً وليس اختياراً، والرقابة على القاضي تنصب على ما يقوم به من إجراءات وليس على نواياه فالنوايا يستحيل محاكمتها وإنما تُحاكم التصرفات والقرارات بل والأحكام أي أن الحكم ذاته قد يصبح محل محاكمة إذا تبين أنه قام على أخطاء جوهرية وعلى مخالفة صريحة للقانون سواء أمام الدرجات الأعلى أم أمام الرأي العام في حدود حفظ المكانة المحترمة للقضاء، ولذلك فالأحكام كلٌّ لا يتجزأ أي أن حيثياتها وأسبابها ومنطوقها جسد واحد صحة وبطلاناً.
والمحاماة وظيفة علمية هامة يستخدمها الفرد والمجتمع في الوصول إلى الحق وفي إثباته والادعاء به أو الدفاع عنه ووسيلة المحامي في ذلك هو القانون، ويجب على المحامي أن يلتزم بآداب وسلوكيات هذه المهنة العلمية الراقية ومن أهم ذلك عدم قبوله من موكله أدلة مزورة أو تلقين الشهود أو اللجوء الى وسائل غير مشروعة في الادعاء أو الدفاع سواء باصطناع الأكاذيب أو أن يكون وسيطاً في رشوة فهو بذلك شريك في الجريمة وفي ذلك حطٌ من مكانة أرقى مهنة، وينطبق على المحامي ما ينطبق على القاضي في خضوعه للمحاكمة الجنائية أو التأديبية لأي إخلال بآداب مهنته، ومثلما يكون للقاضي دور في إصلاح المحامي والإسهام في الارتقاء بمهنة المحاماة وإلزامه بآدابها من خلال اتخاذ الإجراءات القانونية بإشراك نقابة المحامين التي ينبغي أن تكون أكثر حرصاً على المهنة بنصرة الحق وأن تتجنب شأنها شأن نادي القضاة أي انحياز مهني لأن ذلك يحولهما إلى مؤسستين عصبويتين لا تختلفان عن أية انتماءات متخلفة، كذلك فإن للمحامي ونقابة المحامين دوراً لا ينبغي تجاهله في إصلاح حال القاضي والقضاء لأنهما أكثر الناس معرفة بأوضاعه طبعاً حين تكون معرفة المحامي وما يطرحه عن هذه الأحوال والأوضاع متجردة عن الأهواء والمطامع الشخصية وحين يكون المحامي معروفاً بحسن سلوكه المهني وحرصه على مكانته مهنته ودورها في تحقيق العدالة.
من هنا يتضح أنه إلى جانب أهمية السلوك الفردي للقاضي والمحامي وأهمية أن توجد آلية منضبطة على حسن اختيار القضاة ومن يستحق أن يمارس مهنة المحاماة هناك ثلاث مؤسسات ينبغي أن يكون دورها فاعلاً ونشطاً في تنقية ساحة العدالة من الشوائب والأمراض –مجلس القضاء– نادي القضاة– نقابة المحامين، طبعاً هذه المؤسسات تقع عليها مسؤوليات مباشرة في هذه المهمة، جوهر هذه المسؤوليات أن يكون القاسم المشترك بينها استيعاب أهمية وضرورة التكامل والتآزر بينها والجدية والتواضع لمحاولة فهم المشكلات وحجمها ونوعها والاعتراف بالأخطاء والخطايا وبوجود فساد واضح وقصور في الإمكانيات والقدرات، ودور كل الأطراف في كل ذلك واستيعاب أهمية التأثير والتأثر والاحترام المتبادل بين القاضي والمحامي والاستفادة المتقابلة، وتجنب المباراة في تصيد وتضخيم كل من القاضي والمحامي أخطاء الآخر ليرجمها بحجر العقوبة بدلاً من التوجه الجاد نحو تقويمها وإصلاحها، فالطرفان بحاجة إلى التشارك الواعي والهادئ لدراسة الأخطاء والبحث عن حلول مشتركة فهما في النهاية طرف واحد وليسا طرفين وإن اختلفت المسؤوليات.
فهل هذه المؤسسات والعنصر البشري من القضاة والمحامين بأوضاعها وأوضاعهم الحالية من حيث الإمكانات والاستعدادات المعرفية والأخلاقية والنظام المؤسسي مؤهلة لأداء هذا الدور الإصلاحي المُلح؟!
أعتقد أن الإجابة على هذا السؤال الكبير المتشعب والمباشر الواضح والمؤارَب بعض الشيء يحتاج إلى عقول وضمائر بحجمه!.
سوف نبقى نفتش عن أفقٍ رحب، عن حُلمٍ لا يغيب، وعن كلمات من الضوء، تجتاز كل المسافة بين الحقيقة وبين الخيال