مستغرِقون في الاستشهاد.. طلباً للحياة
عفاف البعداني
مقولةٌ عظيمة، واستراتيجيةٌ متناقلة بين الشعوب الحرة وأسلافنا القُدامى الذين سطّروا بدمائهم أراضٍ طاهرة، وصنعوا بعذاباتهم أجيالاً حرة لا تخضع لأي استعباد متفرعن، لكن الحال أبدًا لا يدوم وقد بينها لنا الله -عز وجل- في كتابه العزيز عندما قال: (وَتِلْكَ الأيّام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ، وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)، فالحياة متحَرّكة أَو بمعنى أدق متضاربة، ولا تكتفي بانتصار جيل واحد، أَو بأرواح عصورٍ معينة، بل هي متجددة وتبحث عن التضحية وروح الحياة الحقة في كُـلّ مكان وَزمان، فها هي مساوئ البشر تعود من جديد لتنشأ معها حرباً جديدة، بضراوة وبشراسة غير مسبقة، بعدما امتدت في فلسطين وانتقلت لسوريا ولبنان والعراق ومِصر، استقرت في أرض اليمن لأكثر من ست سنوات، ربما أنها وجدت فيها ما يستحق البقاء، فهناك أبطال لا تعنيهم الحياة بقدر ما تعنيه لهم الحرية والشهادة، هناك قبائل سخية، ونفوس مطمئنة، وقيادات حكيمة تهيئُ النفوسَ للجهاد في شتى مراحلها النفسية والروحية بدرجة متفاوتة ومدروسة حسب الحاجة.
هكذا وجدت هذه المقولة مكانها هنا.!! في سهولنا وشعوبنا وجبالنا، ليس لدينا وقت للراحة، للحياة، للرخاء الاقتصادي، بل إن ما نقاسيه من ظروف جعلتنا نؤمن أن الشهادة ليست موتاً بل هي حياة خالدة، وهي خلاصٌ لنا من كُـلّ أخطاء العالم، لكن الكثير من الشعوب العربية الحالية أفلست تماماً من ترسيخ مفهوم الشهادة والجهاد حباً في الدنيا، وخوفاً من مواجهة الموت، همَّ الكثير بعدم استعراضها والحديث عنها سواء في المدراس أَو الجامعات أَو المنابر الإعلامية، طلباً للسلام الأسود، وخوفاً من النهاية الحتمية، وبالمقابل حينما غُيبت تماماً من بقاع العالم بخطة ممنهجة، فحتى الجهاد في سبيل تحرير القدس وغيرها من المقدسات يُعد قرارًا مهزوزًا ويجب مراجعته وربما عدم مزاولته نهائيًّا لأسباب يندى لها الجبين، هكذا تأسست الكثير من الشعوب، وفكرت أمريكا أنها سوف تعمق مشروعها في اليمن، وستنتهي المعركة بأيام قلائل، فمفهوم المقاومة والجهاد قد تم تنويمه عالميًّا حَــدّ ظنهم، واتضحت الأمور جلية لهم بطريقة مفزعة ومربكة، فعندما قرّر العدوان أن يشن حربه الظالمة علينا، كان الجهاد والشهادة قد ترسخت في أذهان الشعب اليمني، وجدت الشهادة نفسها حيةً هناك!! بين أوساطنا ومديرياتنا وقرانا.
اندلعت الحربُ فانطلق جموعُ الناس وأفاضلُ القوم طلباً للشهادة، المأخوذة من واقع متسلق إلى العالم العلوي، ومتجه دائماً نحو زرقة السماء الفاتحة، وصفاء السحب النقية، وليست مائلة لأهواء الدنيا ومفاتنها الداكنة، هي حياة ناتجة عن تصور عامر بالخير ومضحٍ بالروح ومتمسك بالوطن حَــدّ العقيدة والولاء، وهذه ببساطة كانت مقاصد الثوار، مزايا الشهداء، ابتدأت بأهداف محدّدة تتلمس حاجات الشعب المقهور، وانتهت بقصص متنامية ومحفوظة في بواطن الشعب، وفي روضات الشهداء، نظل نذكرهم في كُـلّ سنة ونحن أصلاً لم نكن لننساهم، نحتفي بهم حَــدّ الاعتزاز والفخر، وتظل سيرتهم وبطولتهم مخضرمة وعطرة، مع كُـلّ جيل وتاريخ وعصر، ومهما تهاون بعض الشعب في تحقيق الأهداف، تظل جهود الشهداء حية ومختزلة معنا في الصحف والإذاعات والمدارس شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، فحياة الصماد وقصة استشهاده، عطاؤه، إيمانه ستكون ممتدة معنا وإلى الأبد، وليست لها علاقة بمدة الثلاث السنين التي قد حكم فيها.
إذًا نستنتج كلنا أن هذه المقولة هي الحل لكل ما نواجهُه خُصُوصاً في وضعنا الراهن، فلم يكن الوضع ميسوراً للفئة الشابة في يمننا قبل ست سنين حتى تأتي الحرب، لتكمل ما تبقى لنا، لكنها مشيئة القدر وإرادَة السماء، أن يموت نصفنا وتموت معه أحلامه، أن تدمّـر بيوتنا، وحقولنا، وأنعامنا.
وإنني أرى الطموح يكبر كُـلّ يوم بعذاباتنا، يترعرع بمعاناتنا تزامناً مع كُـلّ قذيفة، ورصاصة، وموت، نحن طموحين جِـدًّا، لدرجة أننا مكابرون، في داخل كلٍّ منّا بطولة لم يتم الكشف عنها، في داخلنا اختراع مبتور، وكتاب نائم، ومصباح فطري، بحر ميت، وربيع مجهول، مع هذا لم نجد المجال الكافي لنكون مخترعين وأطباء ومهندسين، لكننا استطعنا أن نعيش بكرامة، نعيش رغم كُـلّ تبعات الحرب المؤلمة، استطعنا أن نعيش مرابطين وشهداء ومعلمين بلا رواتب، وفلاحين بلا أرض، ومرضى بلا دواء، وكتاب بلا مكاتب ولا وقت للكتابة.
وجدنا أنفسنا مصرين على الحياة ومجدين دائماً، نستيقظ كُـلّ صباح لتوفير لقمة العيش، وشراء الدواء، نسينا طموحنا نعم، تعثرت أمنياتنا أكيد.
لكننا سُعداء وراضين بما كتب الله لنا، ما زالت أحلامنا مخبأة وتنتظر أول فرصة، إلى أن يحين وتهدأ الحروب، متوكلين على الله في كُـلّ لحظة، رغم كُـلّ الشقاء مصرين على الحياة رغم كُـلّ شيء، وَلو تابعنا حالات الانتحار في الدول الغربية لوجدناها تزداد بشكل مكثّـف رغم وضعهم الاقتصادي المستقر، لكنّا رغم تضعضع أوضاعنا لم نكن إلا شُهداء في أرض المعارك، يقينُنا بالله يخبرنا أن الغدَ يخبئ لنا أشياءَ كثيرةً، وإن لم نرَها سيأتي أجيالنا ويرونها بعدَنا.