بطولةٌ أكبر من أن تحتويها ذاكرةُ التاريخ
أمة الملك قوارة
من بين جزيئات تلك الدماء التي أشبعت من وفرتها الأرض، وارتوت منها جذور الحرية، وتنفست منها الكرامة الإنسانية لتغدو أشد قوة وصلابة من أن تزعزع أركانها طواغيت البشرية، أَو أن تستأصلها خطط الجبابرة وصناع الفتن في قلوب الشعوب، دماء زكية أريقت لتقدم نوع آخر لنموذج صُنع الإنسانية الحقيقية وبناء الحضارة البشرية الخالية من شوائب الوهن والضعف وقيود الهيمنة والاستعمار، ومن هنا بزغت ملامح شعبنا الجديدة المحفورة بالعزة والصمود والإباء الإنساني المهيب حين باع أُولئك الأبطال أرواحهم من الله ليبقى وطنهم معافى من دنس الظلم وهيمنة من باعوا القضية بل والعروبة! فقدموا أرواحهم رخيصة، ومُزقت أجسادهم، ليعلنوا بذلك صدق توجّـههم واكتمال معرفتهم بدار الفناء، ليأبوا إلا أن يعيشوا في تلك الدار بكرامة أَو أن يرتقوا إلى دار البقاء مُتوجين بشموخ عزتهم وإيمانهم.
مرّ أسبوع الشهيد وبقيت تلك البطولة الكبرى التي كانت وستظل أكبر من أن يمثلها أسبوع أَو أن تحتويها ذاكرة بشرية مؤقتة، وفي بحرِ الكلمات تعجز جميع المعاني على أن تصف نضال شهيد أَو أن نستطيع من خلالها أن نمثل مقدار معرفتنا بعمق القضية التي مثلها وقدم روحه في سبيلها، وإن لتلك الدماء الطاهرة التي أهداها الشهيد لنا إنما كان يقول للعالم من خلالها: “فليبق النبل البشري محفوف بالكرامة التي يريدها الله أن تتجسد في عمق المؤمنين، إنه النبل الذي يجب أن تعيش به الأُمَّــة عزيزة أَو أن تموت في سبيلة شامخة” ومنا إليكم عظماؤنا: “ستظلون في أعماق أحشائنا عائشون وسنظل على نهجكم سائرون ولدربكم مواصلون وبعزائمكم مُستمرّون وإن تحقّق النصر فالحقيقة أننا قد انتصرنا بأول قطرة من دمائكم أُريقت على وجه الأرض وعندما ارتفعت صرخاتُنا ملبيةً للكرامة التي اشرأبت أعناقُنا بها..
باع من الله نفسه وصدق في بيعته، وحين دخل الميدان رفع هامته وبقلبه شعلة نار تتوقد، ليجعل منها صفعة حارقة في وجه الظالمين وليحرق بها الأرض التي داسوا عليها وجعلوا منها أوكاراً لهم، وليرسم صفحات من البطولة خالدة في عمق التاريخ تخبر الأجيال القادمة أنه لا مكان للمستعمرين ولا للظالمين في شعوب عشقت معنى الحرية ولبست رداء الكرامة، وليرسم للأُمَّـة في صفحات بطولته المسار الحقيقي للحياة، وليثبت لها أن الحرية ليست نزعة بشرية تهفو إليها الأنفس بل وَأَيْـضاً هو دين ارتضاه الله لنا ودعانا إليه!
عاش الشهداء ومات الطواغيت وربحنا القضية، وضاعت هُــوِيَّةُ المتعربين، إنها المقارنات التي تثبتها الأيّام، وأما عن معادلة النصر فَـإنَّها تُرسم بدماء التضحية التي يقدمها شعبنا ومع استبانتها كُـلّ يوم يدخل المعتدون معها في هستيريا هي أشدّ من سابقتها، وفي خضم تلك الأحداث ينشغل التاريخ حباً وشموخاً واحتواء وتوثيقاً لعمق نضالنا؛ مِن أجلِ قضيتا وهو متباهٍ بنا بين بطولات صفحاته، ويذهب بتاريخ المعتدين الأسود إلى حضيض مهملاته، وإنما العاقبة للمتقين.