علاقة المحتلّ السعوديّ الإماراتي باليمن.. اتساعُ فجوة التباينات
المسيرة – إبراهيم العنسي
منذ بداية العدوان الأمريكي السعوديّ، كانت الإمارات تتطلَّعُ لإيجاد نفوذ قوي لها في اليمن، بحيث لا يمكن لشريكتها الرياض أن تزعزعَه، خَاصَّةً أنها -أي أبو ظبي- تدرك أن هناك خلافاتٍ تاريخيةً مؤجَّلةً مع شريكتها تَخُصُّ الحدودَ والسيادة، وأنه لا بُـدَّ من فرض أمر واقع لصالحها، خَاصَّة أن المجتمع في المحافظات المحتلّة لا يتعاطى، أَو أنه يشعر بحساسية مفرطة من التواجد والتدخل السعوديّ بحكم الإرث التاريخي السلبي في سلوك الأخيرة تجاه اليمن، وبهذا كان التوجّـه الإماراتي صوب إنشاء مناطق نفوذ لها بدأتها بعدنَ وَما حولها ثم توسيع دائرة السيطرة والنفوذ لتشملَ المزيدَ من المحافظات الجنوبية ومناطق الساحل الغربي لليمن، معتمدة على أساليبَ متنوعة لتحقيق ذلك كافتعالها للصدام مع الفارّ هادي والتصعيد ضد حكومته التي تقيم في فنادق الرياض، وتوظيف ورقة “انفصال الجنوب” عبر تشكيلها مليشيا المجلس الانتقالي الجنوبي، وتكوين قوات تابعة للخائن طارق عفاش، ونشرها في بعض مناطق الساحل الغربي، إلى جانب تنفيذها إنزالاً لقوات وآليات عسكرية في جزيرة سقطرى أثناء وجود حكومة الفارّ هادي في الجزيرة بداية العام 2018م.
وعلى الصعيد السياسي، تمكّنت الإمارات فعلياً من إنهاء الدور القَطري في ما يسمى “تحالف دعم “الشرعية” بزعم تعامل الدوحة مع “القاعدة”، وبذلك أضعفت احتمالات إعاقة توسعها من قبل قوى محلية مقربة من قطر كجناح “الإخوان”.
ومثَّلت هذه المرحلة ذروةَ النشاط الإماراتي؛ مِن أجلِ توسيع النفوذ وتدعيمه بأدوات محلية موالية، وأسفر نشاطُها عن سيطرة إماراتية مباشرة أَو شبه مباشرة على موانئ وجزر يمنية عدة، ونتج عنه أَيْـضاً سيطرة الموالين لها في المجلس الانتقالي على أربع محافظات جنوبية هي (عدنُ ولحج وأبين وسقطرى)، وأجزاء من حضرموت وشبوة مع تقويض كامل لسلطة حكومة فنادق الرياض، وإضعاف مركزها السياسي على المستويين المحلي والدولي.
تقاسُمُ النفوذ
إن الإدارة المشتركة السعوديّة الإماراتية للخلافات بينهما كَثيراً ما تتقاطع بصورة مباشرة مع تصوراتهما لمستقبل تقاسم النفوذ في اليمن، إضافة لقدرتهما على تنسيق مصالحهما واحتواء التباينات في سياساتهما على المستوى الإقليمي والتي تظهر تناقضات أعمق شيئاً فشيئاً وإن كان التوافق على الأهداف يميل لترحيل خلافاتهما ولو مؤقتاً.
مؤشراتٌ توحي بتضاؤل قدرة البلدين على إدارة خلافاتهما وتنسيق مصالحهما بصورة غير تنافسية، ما يضع حداً أمام الدور الإماراتي تحديداً على ضوء قدرة شريكه ومنافسه السعوديّ في المستقبل، ولعل أهم تلك المؤشرات تتمثل في الفشل المتكرّر في تنفيذ ما يسمى “اتّفاق الرياض” الموقَّع بين حكومة الفارّ هادي والمجلس الانتقالي الجنوبي، وهو فشل يمكن تفسيره في الحقيقة بعجز السعوديّة والإمارات عن إنجاز تفاهمات نهائية لتقاسم ما تحلم به من النفوذ في المحافظات الجنوبية المحتلّة، حَيثُ تضغط الإمارات؛ مِن أجلِ سحب قوات هادي وجماعة “الإخوان” تحديداً من المحافظات الجنوبية، وفق نظرة ليست بالجديدة لأبو ظبي كهدف استراتيجي يسعى لإيجاد محافظات جنوبية بلا “إسلاميين” شرطاً لتأمين النفوذ الإماراتي وضمان استمراره في المستقبل.
وتنتهج الرياض نفس نهج أبو ظبي في تجفيف تواجد “الإخوان” مع السعي الحثيث لتعجيل الخطى لإكمال مخطّط إنهاء حضور التيارات الدينية، خَاصَّة “الإخوان”؛ بهَدفٍ يسعى لصبغ الخليج برمته وجواره بصبغة تميل إلى التغريب كهدف بعيد المدى.
لقد عمدت الإمارات في السابق إلى التسليم بحق السعوديّة في التعامل بالطريقة التي تراها مناسبة مع “الإخوان” ولكن في حدود شمال اليمن الذي كان يمثل ساحة نفوذ سعوديّة تقليدية إلى حَــدٍّ كبير، مع العلم أن تلك النظرة قد تغيرت مع توجّـهات الرياض الجديدة -كما أشرنا-، أما في جنوب اليمن الذي يضم مناطق النفوذ الإماراتي “المكتسبة” فاتبعت الإمارات سياسة استئصالية لا هوادة فيها مع “الإخوان”، إذ أوعزت للمجلس الانتقالي إعلان “الإخوان” تنظيمًا إرهابيًّا، وحظر أنشطته في محافظات الجنوبية في يوليو 2017م، كما أدارت مخطّط اغتيالات واسعة لتصفية قيادات هذا التيار وملأت السجون والمعتقلات السرية بالكثير من أنصاره، ثم ضغطت لتضمين اتّفاق الرياض بنوداً خَاصَّةً بسحب جميع القوات المحسوبة على “الإخوان” من المحافظات الجنوبية المحتلّة، وهي اليومَ تسيرُ في استكمال هذا الدور بعد أن أزاحت هذا التيارَ من محافظة شبوة إحدى محافظات المثلث الأسود وتغيير محافظها “بن عديو” بأحد الموالين لها “ابن الوزير العولقي” اعتماداً على سياسة التفاهمات مع الرياض، بعد أن كان منتظراً مغادرتها لميناء بلحاف بوعود سعوديّة.
وتظل السعوديّة منزعجة من ذلك التحَرّك لهذه الدولة الخليجية الصغيرة، والذي يعني إخلاء الجنوب من قوة أتباع الفارّ هادي وَمليشيا “الإخوان” المواجه للانتقالي وتسليم مقاليد الجنوب للإمارات، وهذا غير وارد حصوله، إذ لن يسمح للإمارات بذلك في ظل وجود سخط شعبي يتسع أكثر فأكثر مع إصرار على تجويع الشعب اليمني في المحافظات المحتلّة، وهكذا فَـإنَّ تحديد مستقبل الجنوب وترسيم دوائر النفوذ فيه لن يكون قراراً إماراتياً وإن كان ظاهراً هكذا في ظل تقاسم الحضور والنفوذ مع الرياض والذي يترجمه منع الأخيرة كما أسلفنا لأية تحَرّكات لا ترغب فيها السعوديّة من قبل أتباع الإمارات، كما لن يكون قراراً سعوديّاً، مع تعالي الأصوات لثورة جياع قادمة.
وفي حال تجرأت الإمارات وشجعت حلفاءها في المجلس الانتقالي على إعلان الانفصال، فسيعني ذلك المخاطرة بالدور الإماراتي برمته، إذ أنها أول الأمر ستصطدم برغبات شريكتها الرياض التي لا تميل إلى التعامل مع المكونات الجنوبية كحلفاء لها تاريخيًّا، كما لا تميل تلك المكونات للتعاطي الحقيقي مع النظام السعوديّ.
لقد حمل الانسحابُ الإماراتي الشكلي من الحرب منتصف العام 2019م، وترك السعوديّين لوحدهم نوعاً من الرفض الإماراتي للرغبات السعوديّة التي تسعى دوماً لجعل الإمارات شريكاً تابعاً والمطالبة الضمنية للسعوديّة بتثبيت صيغة لتقاسم ما تراه نفوذاً متحصلاً من عدوانها على المحافظات المحتلّة والمياه الإقليمية اليمنية، فالإمارات ترى أن من حقها توزيعاً عادلاً وواضحًا للمكاسب أَو هكذا يجب.
أما السعوديّةُ فيبدو أنها تعارضُ هذا التوجُّـهَ الإماراتي وترى أنه سابقٌ لأوانه، خَاصَّةً وأن نهاية العمليات العسكرية الكبرى لا تعني بالنسبة إليها نهايةَ الحرب التي تفترض أن تنتهي بتسوية سياسية تعكس رؤية المملكة الأمنية وتعيد علاقتها بكيان الدولة اليمنية الجديد إلى ما كانت عليه قبل الحرب والثورة في اليمن، وهذا ما لن يحدث.
ومع إحساس الرياض بالاستقطاب الذي قادته الإمارات في محافظات الجنوب ووجود الإمارات بقوة كدولة محتلّة في الجزر والموانئ اليمنية فَـإنَّ الوضعَ الاقتصادي المستقر لن يكون في صالحها وأن نظرةَ المجتمع في المحافظات المحتلّة تجاه أبوظبي يجب أن تكون سلبيةً، بعد أن كانت اليافطاتُ الكبيرة تروِّجُ لشعبيّةٍ حاول مرتزِقة الانتقالي تسويقَها لأربابهم الإماراتيين على أنها حقيقية، فالسخطُ العام من ترَدِّي المعيشة والاضطهاد الأمني لانتقالي الإمارات وسجون الإمارات الخَاصَّة يجب أن تَصُبَّ في قلقلة أي تواجد لأبو ظبي في المحافظات المحتلّة على ألَّا يسمح للإمارات بفرض واقع تسيطر فيه على هذه المنطقة الاستراتيجية.
حبلٌ مشدودٌ بين جبلين
وأمام هذا المساعي فَـإنَّ من المهم إدراكَ فشل الإمارات في كُـلّ الجبهات والتدخلات التي كان لها يد فيها ما يجعل هذه الدولة كما تم تشبيهها بالذي يمشي على حبل مشدود بين جبلين، ويخشى أن يسقط ذلك السقوط الذريع في ظل تغيرات لم تكن محسوبة بتطور قدرات صنعاء العسكرية وقوتها الجوية واقتراب تحرير الجيش واللجان الشعبيّة لمدينة مأرب وإعلان عودة هذه المحافظة الاستراتيجية لصنعاء، فيما يبدو تراجُعاً لحظوظ المتنافسين بمحافظات الجنوب المحتلّة وخوف دولة الحافة والساحل من سقوط ذريع ربما أبرز مؤشر له تهديدات صنعاء لها باستهداف مدنها العاجية في لحظة خاطفة لتترك بعدها الرياض بآخر المطاف تكمل غرقها في المستنقع اليمني.
صحيفة الاندبندنت” البريطانية نشرت تقريراً لمراسلها الدولي، بورزو داراغي، أكّـد فيه على تراكم الخلافات الجيوسياسية الرئيسية بين الرياض وأبو ظبي منذ سنوات، حَيثُ ينبع جزء كبير من تلك الخلافات من تصميم دولة الإمارات على رسم مسار مستقل في القضايا الإقليمية والدولية، وكشف الفجوات بين قادة هاتين القوتين العربيتين”.
وقال الكاتب: “بينما قدمت أبو ظبي دعمها القوي لهذه المجموعة التي تسعى إلى إقامة دولة مستقلة في عدن ومناطق أُخرى في جنوب اليمن، تواصل الرياض دعم حكومة الفارّ هادي الضعيفة للغاية، وكذلك دعم مفهوم اليمن الموحَّد”.
وَأَضَـافَ: إن استمرار تدهور العلاقات السعوديّة الإماراتية أمر لا مفر منه، ونعتقد أنه سيكون هناك المزيد من الإجراءات، لافتاً إلى أن التوترات بدأت مع حرب اليمن كما أنها مُستمرّة وهي في طريقها للتوسع أكثر فأكثر، الاشتباك الأول بين الرياض وأبو ظبي حدث مع أطماع الطرفين في اليمن، فبينما يسيطر الطرف الآخر الإماراتي على بعض المناطق الحدودية، ويحتل فعلياً بعض الأراضي مثل سقطرى وباب المندب، لم تعد الرياض تسيطر على اليمن، ولا حتى واحد بالمِئة.
ويرى الكاتب أن السعوديّين ما زالوا في اليمن لحماية كرامتهم؛ لأَنَّهم لا يستطيعون المغادَرَةَ فقط في المقابل تتحكم الإمارات في كُـلِّ مدخل إلى البحر الأحمر في الوقت الراهن.