كيف امتدت “أسابيعُ قليلة” إلى سبع سنوات؟: اليمن الذي “خرج عن السيطرة”
المسيرة | ضرار الطيب
“أسابيعُ قليلة” كانت السقفَ الزمني الذي وضعَه تحالُفُ العدوان الأمريكي السعوديّ لحسم حربه على اليمن، بعد وضعِ كافةِ الحسابات الدقيقة في واشنطن. كان ذلك قبل سبع سنوات من الآن، ولا يعني مرورُ هذه المدة أن “التحالف” الذي يمتلكُ الإمْكَاناتِ المتطورةَ والدعمَ الغربي اللامحدود أساء فقط تقديرَ الوقت اللازم، بل إنه أخطأ وبشكل فاضح في حساب وفهم كُـلّ شيء، بما في ذلك التأريخ والجغرافيا والمجتمع والمنطق وحتى حسابات القوة نفسها.
يجب ألا ننسى أَيْـضاً أن تلك “الأسابيعَ القليلة” (على امتداد 40 يوماً بالتحديد) قد مرت بدون أن يكون هناك أيُّ رد يمني على الهجمة الشرسة التي شنها تحالُفُ العدوان والتي ادّعى أنه دمّـر في أيامها الأولى كُـلَّ إمْكَانات المقاومة لدى اليمنيين، وهو ما يعني أن المسألةَ كانت أكثر خزيًا من مُجَـرَّدِ خطأ في التقديرات، لقد كان التحالُفُ يسيطرُ على الأجواء بشكل كامل ويشن أعداداً مهولة من الغارات الجوية ويحشُدُ المرتزِقةُ من كُـلّ مكان وكل ذلك بدون أي رد، لكنه لم يحقّقْ أي شيء.
بحسبِ “بروس ريدل” من معهد بروكينغز، فقد تساءل مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية السابق، جون برينان، في مذكراته عن “ما الذي كان يدخنه محمد بن سلمان؟”.
عندما ظن بأنه سيحسم الحرب في غضون أسابيع قليلة، وهذا ليس مُجَـرّد تعليق ساخر خارج السياق، فالسياق نفسه كان غير منطقي، والتعليق يخبرنا بوضوح على الأقل أن السعوديّة دخلت هذه الحرب بأوهام لم تكن حتى الولايات المتحدة مقتنعة بها، وهو ما يعني أن الحسابات الوحيدة التي كانت دقيقة لهذا العدوان هي حسابات توريط الرياض وإغراقها في اليمن.. هذا ما يقوله الواقع على أية حال.
كانت تلك “الأسابيع القليلة”، وقتًا كافيًا لإدراكِ حتميةِ هزيمةِ تحالف العدوان، فقد كانت المواجهةُ بين إمْكَانات هائلة ودعم غربي غير محدود من جهة، وجيش مفكَّك وقدرات تسليحية عند مستوى الصفر من جهة أُخرى، ومع ذلك لم تكن الرياض تحقّق “انتصارًا”، الأمر الذي يعني أن معادلةَ الاستقواء لم تكن تعمل، وبالنظر إلى أن القوة هي كُـلُّ ما يراهن عليه تحالف العدوان فَـإنَّ المسألة كانت محسومةً ضده بوضوح.
على الجهة المقابلة، وفي اليوم الأول من العدوان، ألقى قائد الثورة السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي خطابًا، تضمَّنَ قراءةً دقيقةً لهشاشة وخطأ جميع حسابات تحالف العدوان، بما في ذلك حسابُ “الأسابيع القليلة”.
وصف القائدُ النظامَ السعوديَّ بأنه “أحمقُ” لمراهنته على الولايات المتحدة و”بعض الأنظمة التي اشترى منها مواقفَها بشيء من المال”، وتساءل أَيْـضاً عما إذَا كانت أوهامُ السيطرة على اليمن ناتجة عن “الزهايمر أم الهستيريا أم أنه التجبُّر والطغيان والاحتقار للشعب اليمني؛ لأَنَّه فقير”!
لقد اتضحت ملامحُ المعركة ومعادلاتُها بالنسبة للقيادة اليمنية منذ اليوم الأول، قبل أن يتساءل أحد ما في الولايات المتحدة عما يتعاطاه ولي العهد السعوديّ، وقبل أن تمتدَّ الأسابيعُ القليلة إلى سبع سنوات ويمتد معها فشلُ وعجز تحالف العدوان، وهذه المقارنة بين انطلاقة العدوان والتحَرّك المناهض له، من حَيثُ تماسك ووضوح الرؤية وواقعيتها تؤكّـد أن كفةَ المعركة كانت ومنذ الغارة الأولى تميل لصالح صنعاء والجيش واللجان الشعبيّة.
كانت المسألة مسألةَ وقت فقط. السعوديّة قدّرتها بـ “أسابيع قليلة” وأخفقت إلى الأبد، لكن القيادة اليمنية قدرتها بـ”نفَس طويل” ولم يفاجئها أي شيء بعد ذلك.
مع انهيارِ سقف الآمال السعوديّة تم الانتقالُ إلى ما بدا أنه “الخطة ب” (يبدو الآن أن تسميةُ “إعادة الأمل” كان غرضها مواساة الرياض ورفع معنوياتها أكثر من أي شيء آخر)، غير أن ذلك لم يفلح في تصحيح البداية العدوانية الحمقاء، فاليمنيون كانوا قد استعدوا بالفعل لمشوارِ مقاومة طويل، ولم يكن تبديل الخطط العدوانية أَو رفع سقفها الزمني يكفي لإحداث التأثير المطلوب.
لم تكن “أسابيعُ قليلةٌ” هي سقف التحَرّك الذي حدّد قائد الثورة في خطاب اليوم الأول من العدوان ملامحه وقواعده، بل سنوات طويلة، فقد وزع المهام ضمن جبهتين: جبهة داخلية لها خمسة مسارات، وعسكرية طويلة النفَس، وتحدث عن “خيارات عملية” و”ملفات يمكن أن تفتح”.
خارطةُ العمل تلك ما زالت حتى اليوم ساريةَ المفعول ومُستمرّةَ التطور، لم تفشل ولم يتم استبدالُها بخطط أُخرى، بل تراكمت فيها الإنجازاتُ على قاعدة صلبة وثابتة منذ اليوم الأول، وعلى الرغم من أن تلك الإنجازات كانت “إعجازيةً” بالنظر إلى الظروف المستحيلة التي فرضها العدوان والحصار، وتلك التي خلفتها الأنظمة السابقة، إلا أن ذلك الانكسار/ الفشل التاريخي المبكر الذي منيت به كُـلّ حسابات ومعادلات “الاستقواء” التقليدية لتحالف العدوان، كان يؤكّـد أن ما يحدث هو نشوء معادلات وحسابات عسكرية وسياسية وأمنية واستراتيجية جديدة كليًّا قد تكون “المعجزات” جزءًا طبيعيًّا منها.
وبالفعل، لم تكن المعركةُ العسكرية لمقاومة العدوان معركةً تقليدية أَو محكومةً بحسابات ونظريات “مألوفة”، وهو ما يشهد به أرشيف الإعلام الحربي، وإحصائيات خسائر تحالف العدوان خلال سبع سنوات، وتحولات ميدانية كبرى باتت تأثيراتها تتجاوز جغرافيا الصراع وتؤسس لتغيير شكل المنطقة بكلها، كما يشيرُ مسؤولٌ سعوديّ تحدث مؤخّراً لصحيفة “وول ستريت جورنال” عن تداعيات الهزيمة السعوديّة في مأربَ فقط، وكُلُّ ذلك حدث في ظل وجود فارق هائل في الإمْكَانات القتالية، ما يعني أن النظرياتِ العسكريةَ التقليدية ليس بوسعها تقديمَ الكثير من التفسيرات.
ولم تكن المواجهات في المجالات الأُخرى أقلَّ إدهاشًا أَو ملحميةً، فالفرقُ الهائلُ في الإمْكَانات المادية في ميدان القتال، إزاءه أَيْـضاً فروقٌ كبيرة للغاية في حجم الاصطفاف السياسي والمساندة الدولية والأممية والإمْكَانات الإعلامية.. ثم هناك المال أَيْـضاً.
الطرفُ الآخرُ على طاولات التفاوض والمناقشة لم يكن السعوديّة أَو الإمارات، بل النفوذُ الأمريكي البريطاني وهيمنته على القرار السياسي والاقتصادي الدولي، حتى أن “الوساطة” الأممية نفسها كانت وما زالت أدَاةً واضحةً تُستخدم ضد صنعاء، أما في الإعلام فلا توجد مقارنة أصلًا مع إمْكَانيات وانتشار وأدوات امبراطورية التضليل المساندة للعدوان.
قد تكونُ كيفيةُ تفوق صنعاء في هذا النزال وقدرتها على الاستمرار فيه لسبع سنوات “معجزة”، لكنها لم تحدث هكذا بدون منطق، فخطابُ القائد في أول يوم من العدوان حدّد بوضوحِ مسارَ المواجهة على كُـلّ الجبهات، غير أنها لم تكن مسارات محدودة زمنيًّا بل طويلة المدى وتصاعدية، وهو الأمر الذي يشكل اليوم جوهرَ هزيمة تحالف العدوان، من زاوية نظرية.. لم تكن مسألة خطأ في تقدير الوقت، أَو الإمْكَانات، لقد كانت مسألة جهل تام بفاعلية التغيير الذي حدث في اليمن وبعدم إمْكَانية إيقافه أَو التخلص منه، وبالتالي لا يهم ماذا يمتلكُ تحالفُ العدوان ورعاتُه من أوراق وإمْكَانات؛ لأَنَّ الحديث عن الأوراق والإمْكَانات في مواجهة هذا التغيير يبدو كتغريدٍ خارج السرب.