السيد عبدالملك الحوثي في المحاضرة الرمضانية الرابعة:
أُعُوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
الحَمْدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ المَـلِكُ الحَـقُّ المُبِيْن، وأشهَدُ أن سَيِّـدَنا مُحَمَّــدًا عَبْـدُه ورَسُــوْلُه خَاتَمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــدٍ وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــدٍ، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إِبْـرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ إِبْـرَاهِيْمَ إنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ.
وارضَ اللَّهُم برِضَاكَ عن أَصْحَابِهِ الأَخْيَارِ المُنْتَجَبين، وعَنْ سَائِرِ عِبَادِك الصَّالحِين وَالمُجَاهِدِيْنَ.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ والأخواتُ:
السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.
اللهم اهْدِنا، وتقبَّلْ منا، إنَّك أنتَ السميعُ العليم، وتُبْ علينا، إنك أنتَ التوَّابُ الرحيم.
من أَهَمِّ ما هو محسوبٌ في عِدادِ مواصفاتِ عِبادِ الله المُتَّقِين، هو: اليقينُ بالآخرة، وهو من أَهَمِّ الدوافع إلى التقوى، ومن أَهَـمِّ ما يساعد على التزام حالة التقوى، اليقين بالآخرة، قال اللهُ “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” عن عبادِه المتقين: {وَبِالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ}[البقرة: من الآية4]، فهم يوقنون بالآخرة، وهم مؤمنون إيمَـاناً صادقاً بوعد الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” ووعيده.
من المعلومِ أنَّ من أَهَـمِّ المهام للرسالة والرسول والقرآن، هو: التبشير والإنذار، فاللهُ يصفُ نبيَه “صلواتُ الله عليه وعلى آله” بأنه بشيرٌ ونذيرٌ، يصف القرآن -كذلك- بشيراً ونذيراً.
فيأتي الإنذارُ بالآخرة من المهام الرئيسية للأنبياء والرسل “صلواتُ الله عليهم”، ومن أهم ما تتضمَّنُه كُتُبُ الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، وختامها القرآن الكريم والرسول محمد “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”، حَيثُ كان لذلك مساحةٌ واسعةٌ في الحديث عن الآخرة، واليوم الآخر، وبشكلٍ تفصيلي، لم يبقَ مُجَـرّد عنوان عام بدون تفاصيل، مثلاً: نسمع عن يوم القيامة، ثم لا نسمع عن أي شيءٍ من التفاصيل سوى أنه يومٌ للحساب، وبعده الجزاء.
أتى الحديثُ التفصيلي عن يوم القيامة في مرحلته الأولى: النفخة الأولى، التي بها نهاية الحياة، ودمار الأرض والسماوات، وإعادة تكوينها من جديد، ثم في النفخة الثانية، في حالة البعث والقيام والحساب، وتفاصيل مقامات الحساب بشكلٍ دقيق، ثم ما بعد ذلك فيما يتعلق بالجزاء، الذي هو الجنة والنار، فالحديث التفصيلي لامس كُـلَّ جانب من الجوانب التي تتصل بحياتنا.
يأتي الحديثُ عن الجوانب النفسية للإنسان في تلك المقامات والمشاهد، في ساحة القيامة، وما بعد ذلك: في الجنة، أَو في النار، يأتي الحديث عن كُـلّ ما يتصل بشؤون حياتنا في كُـلّ جانبٍ من جوانبها، عن الطعام، عن الشراب، عن الملابس، عن ظروف وأجواء الحياة التي يعيشها الإنسان هناك، بنحوٍ تفصيليٍّ فيه العبرة الكبيرة لنا، فيه ما يدُلُّ على أهميّة ما نحن قادمون عليه.
ولذلك يأتي التأكيدُ على هذه الحقائق في القرآن الكريم، بالرغم من كُـلّ ذلك، أكثر الناس هم في حالة غفلة، بعد كُـلّ ذلك الإنذار المتكرّر والمؤكّـد، والذي تأتي فيه الكثير من التفاصيل، والتي تلامس كُـلّ جانب يهم الإنسان، يتعلق بحياته، على نحوٍ تفصيلي، مع ذلك الحالة السائدة لدى أكثر البشر، أكثر الناس، هي حالة الغفلة، كما قال الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” في القرآن الكريم: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ}[الأنبياء: الآية1]، فحالة الغفلة الشديدة لدى أكثر الناس، وحالة تصل بهم إلى درجة الإعراض، واللامبالاة، وعدم الانتباه إلى أعمالهم، أقوالهم، تصرفاتهم… وغير ذلك، البعض إلى درجة التكذيب، إلى درجة التكذيب بالآخرة، وبعالم الآخرة.
ما يتميز به المتقون: أنهم في حالة انتباه، في حالة تذكر، مع يقينهم بالآخرة، مع إيمَـانهم بوعد الله ووعيده، هم في حالة انتباه، وتذكر، وجهوزية، واستعداد؛ ولذلك يَزِنون تصرفاتهم، أعمالهم، مواقفهم على هذا الأَسَاس، أنَّ هناك حسابًا، هناك جزاء، يتذكرون ذلك، وَإذَا حدثت لهم حالات غفلة، فهي حالات عارضة، وليست حالاتٍ مستحكمة، هي حالاتٌ عارضة، يخرجون منها، يُذَكَّرون فيتذكَّرون، يأتي ما ينبههم؛ فيخرجون من حالة غفلتهم، ويعودون إلى انتباههم، وهم يستشعرون دائماً قرب لقاء الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}[البقرة: الآية46]، فاستشعارهم المُستمرّ لقرب لقاء الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، يجعلهم في حالةٍ من الانتباه، واليقظة، والاستعداد، والإدراك أنَّ مواقفَهم محسوبة، وتصرفاتهم محسوبة، وأعمالهم محسوبة… إلى غير ذلك، ولهذا يقول الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” عنهم: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ}[الأعراف: الآية201]، فهم قد تعرض لهم حالة الغفلة، ثم سرعان ما ينتبهون، فينتبهون لتصرفاتهم، لأعمالهم، لمواقفهم، ويتحَرّكون على أَسَاس من إيمَـانهم.
أيضاً في علاقتهم بالله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”؛ لأَنَّ الإيمَـانَ بالآخرة هو جزءٌ من إيمَـاننا بالله، إيمَـاننا بوعده ووعيده “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، فاللهُ يقولُ عنهم: {الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَـانا}[الأنفال: من الآية2]؛ ولذلك يتأثرون، {إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ} فيتأثرون بذلك، يكون لذلك تأثيرٌ في أعماق قلوبهم {وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}، مشاعرهم حيَّة، وجدانهم حي، ضميرهم حي، يخشون من عذاب الله، يستحيون من الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”.
وحالةُ الاستشعار الدائم لذلك المستقبل الآتي حتماً، عبَّر عنها القرآن الكريم في إدراك أهميتها يوم القيامة، الإنسان الذي كان متذكراً هنا، منتبهاً، في حالةٍ من اليقظة، والاستعداد، والجهوزية، يوم القيامة يدرك قيمة أنه كان يستشعرُ أهميّةَ الحساب، ويحسب لنفسه ذلك قبل مجيء يوم القيامة، فيقول الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” عن هذه الحالة: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ}[الحاقة: الآية20]، هكذا هو الإنسانُ المؤمن المتقي يوم القيامة، بعد أن يأخُذَ كتابَه بيمينه، وفيه الصفحاتُ التي تبيِّض وجهه، تجعله يستبشر من أعماله الصالحة، من أعماله التي فيها مرضاة الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، فهو مستبشر، فيتذكر حينها أهميّة استشعاره في حياته هنا في الدنيا لمسألة الحساب، ومسألة القيامة والجزاء، فيقول: {إِنِّي ظَنَنْتُ}، يعني: كنت استشعر في حياتي في الدنيا، {أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ}، أنه لا بدَّ من الحساب، وأنني سألقى الحساب، ومن ثم الجزاء، فكان لهذا أهميّة في أن أستعد، أن أتوب إلى الله، أن إتلافى تقصيري، أن أتداركَ خطيئاتي، أن أتجهَ إلى الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” بالعمل الصالح فيما أمرني به، فكان لذلك الثمرة الطيِّبة.
حالةُ اليقظة، حالة الانتباه، حالة الاستعداد، حالة الاهتمام لدى المتقين، تصل إلى أن يكون لديهم انتباه واهتمام في مختلف الحالات والظروف، حتى في حالة النوم، قال الله عنهم: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا}[السجدة: من الآية16]، يأتي التذكر للآخرة، للحساب، للجزاء، لذلك المستقبل الأبدي، حتى وهو مضطجِعٌ على فراش نومه، فتثيره هذه الحالة، وتنشِّطُه للقيام من نومه إلى العمل الصالح، إلى ذكرِ اللهِ “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، إلى التحَرُّكِ لما فيه طاعةُ الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، إلى الاهتمامِ بمسؤولياته وواجباته، هذه الحالة الهامة من التذكر والانتباه تجعلهم يتداركون أنفسهم عند كُـلّ حالة تقصيرٍ، أَو عند كُـلّ هَفْوةٍ أَو ذنب، فيبادرون سريعاً بالتوبة والإنابة إلى الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، كما قال الله عنهم: {وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَو ظَلَمُوا أنفسهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[آل عمران: من الآية135]، هم يتجهون بمبادرة سريعة بالإنابة إلى الله، بتدارك خطيئاتهم، أَو معاصيهم، أَو ذنوبهم، أَو تقصيرهم، أَو تفريطهم، أَو تهاونهم، ولا يُصِرُّون أبداً، لا يستمرون في حالة العصيان لهذا الانتباه.
هذه الحالةُ الإيمَـانية التي عليها أنبياء الله وأولياء الله، الله يقول عن الرسول “صلوات الله عليه وعلى آله”: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}، وهو في مقام الرسالة والنبوة والمنزلة العظيمة العالية عند الله، لكن هكذا هو الإيمَـان، يستذكر اليوم العظيم والعذاب العظيم.
يقولُ اللهُ “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” عن أوليائه: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يوماً عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا}[الإنسان: الآية10]، فيما رُوِيَ في قصة الإمام عليٍّ “عليه السلام”، وفاطمة الزهراء: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يوماً عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا}، في الحالة الذهنية، في الحالة النفسية حالة تذكر واهتمام، والتفاتة إلى ذلك اليوم الآتي.
الآخرون الذين هم في حالة غفلةٍ، وحالة نسيان، ينتج عن ذلك استهتار من جانبهم، وتهاون في أعمالهم، في أقوالهم، في تصرفاتهم، تعرض عليهم الأعمال العظيمة، الأعمال المقربة إلى الله، الأعمال التي هي جزءٌ أَسَاسيٌّ من التزاماتهم الإيمَـانية والدينية، التي لا بدَّ منها في نجاتهم، في فوزهم، في الخير لهم في الدنيا والآخرة، فلا يبالون، ولا يستجيبون، تغلب عليهم حالة الإعراض، يحذرون من المعاصي، من الذنوب، سواءً ما هو منها انتهاك لحدود الله، والمحرمات التي حرمها الله، أَو إخلالٌ بواجباتهم ومسؤولياتهم التي عليهم القيام بها؛ لأَنَّ اللهَ أمرهم بها، ودعاهم إليها، وهي جزءٌ من الالتزامات الإيمَـانية والدينية، فلا يبالون، لا يستجيبون، لا يهتمون، لا يتفاعلون، قلوبهم قاسية، ذهنياتهم متبلدة، حالة الغفلة والإعراض هي المسيطرة عليهم، حالة الانصراف الكلي نحو أهوائهم ورغبات حياتهم، التي هي متاعٌ قليل، ومتاعٌ زائل، هي المستحكمة عليهم، استحكام حالة الغفلة التي عبَّر عنها القرآن الكريم: {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ}[الأنبياء: من الآية1]، فتأتي معها حالة الإعراض.
من الحقائق المعروفة لدينا جميعاً، لدى كُـلّ البشرية جمعاء: أن حياتَنا هنا في هذه الدنيا هي حياةٌ مؤقَّتة، مهما كان إعراض الإنسان وغفلته، واتّجاهه في اهتماماته بشكلٍ كلي نحو شؤون هذه الحياة فحسب، مع غفلة عن أن اهتمامه بالحياة الأُخرى هو لمصلحته في هذه الحياة، وفي تلك الحياة، يعني: لا يحتاج صلاح حياتك هنا في الدنيا إلى أن تتجاهل أمرَ الآخرة، هناك ترابُطٌ ما بين الحياة الدنيا والآخرة، تذكُّرُك للآخرة تستقيمُ به حياتك هنا في الدنيا، والخلل الكبير، والتجاوز، والانتهاك للمحرمات، والإعراض عن الله، وعن منهجه، وعن هديه، عواقبه سيئةٌ لك في الدنيا، وعواقبه خطيرةٌ جِـدًّا عليك في الآخرة.
نحن في هذه الحياة في حياةٍ مؤقتة، نعيش فيها بأجل، وهذه مسألة نعرفها جميعاً، وهي حياة مسؤوليةٍ واختبار، تأتي الحياة التي هي جزاء، إما جزاء خيرٍ خالصٍ دائمٍ على أرقى مستوى، أَو حالة عذابٍ شديدٍ دائمٍ أبديٍّ على أشد مستوى، التي خيرها خالص وشرها خالص الحياة الآخرة، أما هذه الحياة فهي ميدان مسؤولية، وميدان اختبار وميدان عمل.
ونخضعُ في حياتنا هذه لرقابةٍ دائمةٍ من الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” وملائكته، فلا يغفلُ عنا اللهُ ولا للحظةٍ واحدة، ولا يغفل عنا ملائكته الذين من مهامهم الأَسَاسية: الرقابة المُستمرّة علينا، وتوثيق كُـلّ أعمالنا وتصرفاتنا وأقوالنا، كما قال الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” في القرآن الكريم: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)، إذ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}[ق: 16-18]، رقابة دائمة في ليلنا ونهارنا، في كُـلّ أحوالنا، في خلواتنا واجتماعاتنا، أينما كنا، أينما ذهبنا، أينما انتقلنا، في رقابة مُستمرّة، توثق فيها كُـلّ أعمالنا، كُـلّ تصرفاتنا؛ لأَنَّ هذه الحياة هي ميدان مسؤولية، الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” قال: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}[الملك: من الآية2].
ثم تنتهي هذه الحياة، نهاية هذه الحياة بالموت، الموتُ هو نهايةٌ لهذه الحياة، وهو إقفالٌ لملف العمل، لملف عملك، إقفالٌ له على ما فيه من عملٍ صالحٍ تفوز به، أَو عملٍ سيءٍ وتقصيرٍ وتفريطٍ يسبب لك الخسران والهلاك، والموتُ أَيْـضاً هو نهايةٌ حتميةٌ للفُرصة، لا فرصة بعده أبداً، الفرصة الوحيدة التي أتاحها الله لك هي هذه الأيّام التي أنت تعيش فيها، هي هذه الحياة المؤقتة، التي لها أجلها، وستنتهي، وأنت لا تعلم متى هي النهاية، متى يأتيك الموت، متى ترحل من هذه الحياة، لا تعرف ذلك، ليس هناك وقتٌ محدّد بالنسبة لك، تعرف أن حياتك ستنتهي عنده، كُـلّ يومٍ يمكن أن يكون هو اليوم الأخير من حياتك، وكل ليلةٍ من الممكن أن تكون هي الليلة الأخيرة من حياتك، ولذلك من المهم أن يكون الإنسان في جهوزيةٍ مُستمرَّة، في استعداد مُستمرٍّ، فإذا رحل في أي يومٍ من الأيّام، في أية ليلةٍ من الليالي، كان جاهزاً، أما إذَا كان الإنسان في حالة غفلة، فهي الحالة الخطيرة.
ويؤكّـدُ اللهُ لنا ويذكرنا بهذه الحقيقة التي نراها في واقع حياتنا، ونرى في كُـلّ يوم كم أن هناك القوافل من البشر الذين يرحلون من هذه الحياة، فيقول الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}، كُـلّ نفس، لا أحد يستطيع أن يرد ذلك، أن يدفع ذلك، أن يمنع عن نفسه ذلك، أن يستثني نفسه من ذلك، أن يُحَصِّن نفسه من ذلك، أياً كان الإنسان، لا ملك، ولا زعيم، ولا… مهما كانت إمْكَاناته، قدراته، ذكاؤه، مهما كان يمتلك من العلاقات، من التأثيرات، لا شيء يمكن أن يدفع عنه ذلك.
ولذلك يقول الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”: {فَلَوْلَا إذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[الواقعة: 83-87]، ولا يستطيع الناس هم أن يدفعوا عن أحد ذلك، مهما كان عزيزاً لديهم، أَو مهماً لديهم، لا يستطيعون أن يمنعوا عنه ذلك.
فالإنسان يجهل موعد رحيله من هذه الحيلة، موعد موته، موعد نهاية هذه الحياة، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}[لقمان: من الآية34]، لكن الخطر الكبير عندما تستحكم حالة الغفلة لدى الإنسان، فلا ينتبه من غفلته تلك إلا حين يأتيه الموت، كان في حالة غفلةٍ وإعراض، ولا مبالاة، ولا اهتمام، فتفاجأ عندما أتى موعد الرحيل وهو في حالة غفلةٍ مستحكمة تامة، لم تنفع فيه في هذه الحياة حالة الأحداث والتقلبات والمتغيرات التي فيها العظة والعبرة، لم ينفع فيه أنه يشاهد ويعلم عن الكثير ممن يرحلون، قد يكون بينهم من أقاربه، من أحبائه، من أهل بلاده ممن يعرفهم، فلم يتذكر بذلك، ولم ينتفع بذلك، ولم يلتفت إلى ذلك، لم تنفع فيه المواعظ، لم ينفع فيه التذكير بهدى الله، بآيات الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، لم ينفع فيه ما كان يمر به أحياناً، الإنسان أحياناً يمر بحالات مَرضية مثلاً، أَو حوادث، يكون فيها تذكيرٌ له، يوشك فيها على الرحيل من هذه الحياة، يحسُّ فيها أحياناً بخطر الموت، بخطر الوفاة، بتهديدٍ مباشرٍ على حياته، فيعود إلى غفلته التامة، وعدم اهتمامه نهائيًّا، ثم عندما أتاه الموت بشكلٍ حقيقي، بشكلٍ نهائي، أصبحت المسألة مسألة جدية ولا مناصَ من ذلك، ينتبهُ حينئذٍ، ولكن بعد فوات الأوان، حالة خطيرة على الإنسان ألَّا ينبهه في البداية إلا أمر الموت، ألَّا ينتبه إلا بعد فوات الأوان نهائيًّا، هذه حالة تحصل للكثير من الناس، تحصل للكثير من الناس، حينها تكون بدايةً للتحسر، بدايةً للعذاب النفسي، انتباهاً إلى حجم الفرصة التي فوتت، وحجم الخسارة التي حدثت، فالله يذكرنا بذلك، فيذكر ذوي الغفلة: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا}، عندما جاءت سكرة الموت، {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ}[ق: الآية19]، هذه الحالة: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}[ق: الآية22]، ينتبه الإنسان، يتذكر في تلك اللحظة الحرجة جِـدًّا، يصل إلى أعلى مستوى من التذكر والانتباه والاهتمام، ويدرك أهميّة المسألة، ولكن بعد فوات الأوان.
كما يقولُ الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” في آيةٍ أُخرى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ}، أنفقوا؛ لأَنَّ هذا لمصلحتكم، أنتم تقدمون لأنفسكم، {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إلى أجل قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ}[المنافقون: الآية10]، يطلب التأخير ولو لمُهلةٍ قريبة، ولو لم تكن طويلة، البعض قد ربما يتمنى من الله أياماً، أياماً يصلح فيها بعض أموره، أَو فترةً وجيزة، ولكن لا يمكن أبداً أن يحصل على أي تأخير إضافي.
{لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إلى أجل قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ}؛ لأَنَّه يدرك حينها قيمة ما ينفق ويقدم ويتصدق به في نجاته، في مستقبله الأبدي.
{وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ}: أصلح نفسي، وأصلح أعمالي، وأكن في زمرة الصالحين، لكن هل يفيده هذا الطلب؟ مهما كان ملحاً، مهما كان من أعماق قلبه، {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[المنافقون: الآية11]، ولذلك الموت هو نهايةٌ للفرصة الوحيدة التي لا تعوض، مهما طالب الإنسان؛ لأَنَّ الإنسان يطالب بهذه الفرصة، وبإضافة فرصة جديدة، في تلك اللحظات عند الموت، يطلب في يوم القيامة، يطلب حتى في نار جهنم، {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ}[فاطر: من الآية37]، يطالبون بإلحاح، باستغاثة، بتضرع، فيرد الله عليهم: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا}[فاطر: من الآية37]، الفُرصةُ هي هذه الحياةُ التي أنت فيها، هي هذه الساعات التي تهدرها، هي هذا الوقت الذي تضيعه، هذه هي فرصتك، وهذه الأعمال التي تعرض عليك ومنها أعمالٌ عظيمة في ميزان الحسنات، في أسباب النجاة، في عوامل القرب من الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، ثم لا تتفاعل معها، الإنسان بحاجة إلى أن يدرك أهميّة هذه الحقيقة؛ ليتلافى نفسه، وليستعد مبكراً.
محطاتُ التذكر التي تأتي متأخرةً: عند الموت، عند البعث في يوم القيامة، لا تجدي الإنسان شيئاً، لا تجديه شيئاً، تصبح جزءاً من عذاباته النفسية الشديدة، وندمه العميق الشديد؛ لأَنَّه أدرك أنه كان بإمْكَانه أن يغتنم الفرصة، أنَّ الله أعطاه الفرصة فلم يغتنمها.
{كَلَّا إذَا دُكَّتِ الأرض دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإنسان وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}[الفجر: 21-24]، في الدنيا كانت تأتيك المواعظ، يأتيك التذكير، كانت تأتيك الفرص، يأتيك شهر رمضان، تأتيك الأعمال التي تعرض عليك، أعمالٌ عظيمة، جهادٌ في سبيل الله، إنفاقٌ في سبيل الله، أعمالٌ صالحة تعرض عليك، فيها فوزك، فيها نجاتك، فيها فلاحك، وعد الله عليها بجناته، يقولُ لهم: {جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}[آل عمران: من الآية15]، وعد عليها بالسلامة من عذابه، فكنت أنت ذلك المعرض، المستهتر، اللامبالي، والبعض النافر حتى، الذي ينفر من ذلك، ويستاء من ذلك، وكأن الإنسان أساء إليه، عندما يعرض عليه عملاً عظيماً، فيه فوزه، فلاحه، نجاته، صلاح حياته في الدنيا والآخرة، الخير له عند الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، فتستحكم حالة الغفلة لدى البعض، فلا يكترث، لا يتذكر أنَّ حياته الأبدية المهمّة آتية، وأنها هي الجديرة بأن يستعد لها؛ لأَنَّها هي التي خيرها خالص، أَو شرها خالصٌ وأبديٌّ.
فحينئذٍ بعد كُـلّ هذه الأحداث، {دُكَّتِ الأرض دَكًّا دَكًّا}: تغيرت معالمها بشكلٍ تام، أصبحت ساحةً للحساب والجزاء، أتى أمر الله، أتى حسابه، وأتت ملائكته، وقامت عملية الحساب على قدمٍ وساق، حساب مكثّـف لكل الخلائق، في تلك المتغيرات التي تأتي فيها جهنم، {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ}، رأى جهنم، رأى عذاب الله الأكبر، رأى المصير الأبدي المظلم، المصير السيئ، المصير الذي هو كله عذابٌ رهيبٌ شديدٌ أليم، وحينها تذكر، حالةٌ خطيرةٌ ألَّا يتذكرَ الإنسانُ إلَّا عندما يرى جهنم، غفلة خطيرة على الإنسان، حينها لا ينفعه التذكر، التذكر ينفعك هنا، عندما تذكر بآيات الله فلا تعرض عنها، لا تكن من أُولئك الذين إذَا ذكروا بها أعرضوا عنها، لا تكن من أُولئك الذين قال الله عنهم: {وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ}[الصافات: الآية13]، لا يكن حالك كمثل من قال الله عنهم: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا}[الكهف: من الآية57]، هنا عندما تتذكر بآيات الله، فتتجه وأنت في فرصة هذه الحياة للأعمال التي فيها نجاتك، فلاحك، الخير لك في الدنيا والآخرة، تعيش من خلالها الشعور بقيمة هذه الحياة، وأنت على صلةٍ بالله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، في الأعمال الصالحة، في الأعمال العظيمة التي تسمو بها، تشرف بها، تعتز بها، تتحقّق لك بها كرامتك الإنسانية، وفي الآخرة: الجنة، السلامة من عذاب الله، النعيم العظيم، الفوز العظيم، هنا الفرصة لك أن تتذكر.
أمَّا إذَا استحكمت غفلتُك، واستمر اعراضُك، فحينها تتذكر عندما يُجَاء بجهنم، ما الذي يفيدُك تذكُّرُك حينئذٍ؟! {وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}، حينئذٍ لم يعد وقت التذكير، ولا وقت المحاضرات، ولا المواعظ، ولا النصائح، انتهى كُـلّ شيء، لم يبق إلَّا الجزاء، {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أحد (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ}[الفجر: 24-26].
ولاحظوا من الإشكاليات لدى الكثير من الناس، عندما يأتي الحديث عن الآخرة، عندما يأتي التذكير والإنذار بالآخرة، بالحساب، بالجزاء، التذكير بوعد الله ووعيده، البعض كأن ذلك لا يعنيهم هم، كأنهم ليسوا معنيين، فليسوا ممن سيموتون، ولا ممن سيبعثون، ولا ممن سيحاسبون، ولا هم مجزيون، كأنهم خارج هذه الأمور بكلها، هذه حماقة من البعض، اعراضٌ وغفلةٌ وحماقةٌ لا تجديهم شيئاً، لا تنفهم شيئاً، لا تدفع عنهم شيئاً، يوم القيامة الحضور إجباري، إجباري على الجميع، ليس هناك من مناص.
أيضاً البعضُ يعيشون هذه الحالة من الإعراض ومن الغفلة، وكأنك عندما تتحدث عن الآخرة تتحدث عن شيءٍ بعيد جِـدًّا، شيء لم يحن الوقت بعد للاهتمام به، للالتفاتة إليه، للتركيز عليه، للانتباه له، سيأتي فيما بعد… هكذا ينظرون باستبعاد كبير، يرون المسألة بعيدة جِـدًّا، ولم يحن الوقت بعد، ونحن مشغولون الآن بأمور أُخرى، مع أنَّ الأمور الأُخرى مهما كانت لا تعيق الإنسان عن أن يحسب حسابه ليوم القيامة.
اللهُ “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” يقول: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ}، المسألة قريبة، لا تنظر للمسألة وكأنها بعيدة، متى ستأتي القيامة ويوم القيامة، والحساب والجزاء والنار، شيءٌ هناك بعيد جِـدًّا، لم يحن الوقت أن أشغل نفسي به، {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ}، {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ}[القمر: من الآية1]، نحن هذه الأُمَّــة (أمة محمد) آخر الأمم، نحن في هذا الزمن في الحقبة التاريخية الأخيرة من الحياة البشرية ولهذا كان رسول الله محمدٌ “صَلَّى اللهُ عَـلَيْـهِ وَعَـلَى آلِـــهِ وَسَلَّـمَ” خاتم النبيين وتمام عِدَّةِ المرسلين لاقتراب القيامة، لاقتراب الساعة، هو من أشراطها، قد جاء أشراطها، هو من علاماتها، من علامات قربها؛ لأَنَّه آخر الأنبياء والرسل، فالمسألة قريبة، والقيامة ستأتي فجأةً وبغتةً وفي وقتٍ غير متوقع، يتفاجأ بها الناس، يتفاجأ بها البشر، لا تأتي في وقتٍ محدَّدٍ معلوم، لا يعلمها إلا هو، يختص الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” وحده بعلمها، {ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرض لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً}[الأعراف: من الآية187]، فهي تباغت الناس، والكثير من الناس -إن لم يكن كلهم عندما تأتي- تأتي وهم في وضعٍ من الغفلة وعدم التوقع نهائيًّا أن قد أزف وقتها، هذا ينهبنا على أهميّة الاستعداد والجهوزية المُستمرّة.
كذلك الموت، الموتُ هو الفاصلُ الذي يفصل الناس عن قيام الساعة، مَن لا يدركونها مباشرةً فبينهم وبينها فاصل الموت، الموت فاصلٌ قصيرٌ جِـدًّا، الإنسان الذي كان يتوقع أن المسألة بعيدةٌ جِـدًّا، سيكون متفاجئاً باستشعاره لقربها جِـدًّا، الغافلون سيلحظون كم أن الوقت مرَّ بسرعةٍ عجيبة وأتى عالم الآخرة، فالحالة التي تفصلك عنها من خلال الموت هي أشبه ما تكون بنوم ليلةٍ، أَو ببعضٍ من ليلةٍ، بعضٍ من، يوم فتشعر بكل مشاعرك، بكل مشاعرك وكامل إحساسك وكأنه لم يكن بينك وبين القيامة إلا مدة وجيزة قصيرة جِـدًّا، وأنها سرعان ما أتت، حتى أنهم يتفاجؤون بذلك، والله أكّـد لنا هذه الحقيقة يوم القيامة في مشاعرهم، في إحساسهم، في حساباتهم، {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ}[الروم: من الآية55]، يعني: تصور حالة الاستشعار لديهم إلى درجة وكأنهم كانوا متأكّـدين تماماً أن الوقت الذي مرَّ من لحظة مماتهم إلى لحظة بعضهم كان لساعةٍ واحدة، ويقسمون على ذلك، هذا هو شعورك عن الفترة التي مررت بها ما بين موتك وبين بعثك.
والبعضُ إذَا زاد الوقتُ لديهم، كما قال اللهُ عنهم في القرآن الكريم: {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ}، يتحدثون فيما بينهم بصوتٍ هادئ، الكل في حالة هدوء، {وَخَشَعَتِ الْأصوات لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا}[طه: من الآية108]، فلذلك لا يرفعون أصواتهم؛ إنما يتحدثون بأصوات منخفضة جِـدًّا وهم يتعجبون من سرعة مجيء القيامة، كيف أتى عالم الآخرة بكل هذه السرعة! فيختلفون على الحساب، تختلف تقديراتهم لحساب الزمن الذي مر من لحظة مماتهم إلى لحظة المبعث.
{يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا}[طه: الآية103]، هذه أكبر تقدير لدى بعضهم، يعني: الذي قد طوَّل المدة الزمنية جِـدًّا بحسب تقديراته، فيقول عشراً، مقدار عشر ليالي تأخر الوقت، لاحظ مقدار العشر الليالي عندك في هذه الحياة، في سفر، أَو في عمل، أَو في مرحلة زمنية يقترن بها عمل معين، يعني: وقت وجيز، وقت وجيز، وكأنه لم يكن هناك… ولكن هذه تقديرات البعض منهم فقط الذين تصوروا أن قد قدروا أطول مدة، أطول مدة.
{نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ، إذ يَقُولُ أمثلهُمْ طَرِيقَةً}، الأذكياء فيهم، الذين لديهم دقة في الحسابات والتقديرات، أكثرهم دقة في الموضوع، {إِذْ يَقُولُ أمثلهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا}[طه: الآية104]، من لديه اعتماد على اعتبارات ومستندات في حساباته فهو يقدر المسألة بأقل من ذلك، ليس عشراً، يوماً، {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا}.
هكذا هي تقديراتُ الإنسان يوم القيامة، يراها أتت بسرعة، وكأنه لم يكن الفارق الزمني عنها سوى، يوم أَو ساعة، أَو عشيةً، أَو ضُحاها، بحسب الاختلافات في التقديرات لديهم، والذين أكثروا وبالغوا في نظرهم وتقديراتهم قالوا عشرا، عشرة ليالي مثلاً مرت، فهي سريعة، والإنسان سيراها سريعة وقريبة، يراها قريبةً جِـدًّا عندما تأتي.
في ذلك اليوم، في يوم القيامة، يوم الحساب، هو ليس يوماً لمهرجانٍ يجتمع فيه البشر لأمور عادية، هو يوم الفصل، يوم الحساب، والكل سيحضر غصباً عنه، رغماً عنه، لا يمكنك الامتناع عن الحضور، أَو التخفي، أَو التهرب، أَو التملص، كم أنت في الدنيا تتملص، تتهرب من أعمال عظيمة، من أمور مهمّة، أَو أحياناً تتعقد من بعض الأمور، فتجلس حبيس المنزل ممتنعاً عن كُـلّ عملٍ يرضي الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، يوم القيامة ستحضر رغماً عنك، راضياً، ساخطاً، بأي حالٍ أنت، {وَإِنْ كُـلّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ}[يس: الآية32]، الكل يحضَّر، ويحضَّرُ للحساب ورغماً عنه، {إِنْ كُـلّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرض إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}[مريم: الآية93]، الكل بلا استثناء، {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا}[مريم: الآية94]، ليس هناك نسيان لأحد، أَو غفلة عن أحد، أَو خرج من الكشوفات والحسابات فنسي، {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا}[مريم: 94-95]، فالمجيء للكل.
ولذلك حسرةُ الغافلين والناسين والمعرضين حسرةٌ رهيبة يوم القيامة؛ لأَنَّهم نسوا ذلك اليوم؛ لأَنَّهم لم يستعدوا له؛ لأَنَّهم لم يدركوا قيمة الفرص التي أتاحها الله لهم في هذه الحياة، أتاهم النذير، أتاهم التحذير، أتاهم التذكير فأعرضوا، أتتهم الفرص، لاحظوا كم يمنحنا الله من فرص، يأتي شهر رمضان أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيّام، لياليه أفضل الليالي، ساعاته أفضل الساعات، الأعمال فيه مضاعفةٌ جِـدًّا، وفيه ليلة القدر، تأتي أَيْـضاً الأعمال العظيمة التي تعرض على الناس، مثل الجهاد في سبيل الله، الإنفاق في سبيل الله، الأعمال الصالحة التي تثقل موازينهم يوم القيامة، التي وعدهم الله عليها بالأمن يوم الفزع الأكبر، بالاطمئنان يوم اضطراب القلوب يوم القيامة، تكاد القلوب أن تخرج من الصدور، من رقابهم، عندما تنشب في حلوقهم من شدة الفزع، يعد الله بالأمن، بالطمأنينة، بالجنة، بذلك النعيم العظيم الذي وصفه في الجنة، فلا يلتفت البعض، ولا يهتمون، ويعرضون، ويغفلون، هناك سيتحسرون ويندمون، ويقولُ اللهُ لهم: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا}[السجدة: من الآية14]، نسيان، غفلة، عدم اهتمام، عواقبه الندم الشديد.
نكتفي بهذا المقدارِ..
نَسْأَلُ اللهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَنْ يتقبَّلَ مِنَّا وَمِنْكُمُ الصِّيَاْمَ وَالقِيَاْمَ وَصَالِحِ الأَعْمَالِ، وأَنْ يرحَمَ شهداءَنا الأبرارَ، وَأَنْ يشفيَ جرحانا، وَأَنْ يفرِّجَ عن أسرانا، وَأَنْ ينصُرَنا بنصره، إِنَّهُ سَمِيْعُ الدُّعَاءِ.
وَنَسْأَلُ اللهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَنْ يوفِّقَنا وإيِّاكم لما يُرْضِيه عنا، وأَنْ يرحَمَ شهداءَنا الأبرارَ، وَأَنْ يشفيَ جرحانا، وَأَنْ يفرِّجَ عن أسرانا، وَأَنْ ينصُرَنا بنصره، إِنَّهُ سَمِيْعُ الدُّعَاءِ، وَنَسْأَلُهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَنْ يتقبَّلَ مِنَّا وَمِنْكُمُ الصِّيَاْمَ وَالقِيَاْمَ وَصَالِحِ الأَعْمَالِ، إِنَّهُ سَمِيْعُ الدُّعَاءِ.
وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه.