المحاضرة الرمضانية الـ11 للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1443هـ الموافق 12-04-2022م
أُعُوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
الحَمْدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ المَـلِكُ الحَـقُّ المُبِيْن، وأشهَدُ أن سَيِّـدَنا مُحَمَّــدًا عَبْـدُه ورَسُــوْلُه خَاتَمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــدٍ وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــدٍ، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إِبْـرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ إِبْـرَاهِيْمَ إنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ.
وارضَ اللَّهُم برِضَاكَ عن أَصْحَابِهِ الأَخْيَارِ المُنْتَجَبين، وعَنْ سَائِرِ عِبَادِك الصَّالحِين وَالمُجَاهِدِيْنَ.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ والأخواتُ:
السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.
اللهم اهْدِنا، وتقبَّلْ منا، إنَّك أنتَ السميعُ العليم، وتُبْ علينا، إنك أنتَ التوَّابُ الرحيم.
من أهمِّ ما يُسَاعِدُ على تقوى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، مما هو باعثٌ على التقوى، ومفيدٌ في الالتزام بها على نحوٍ مُستمرٍّ، هو: الصلاةُ، الصلواتُ الخمس هي الركنُ الثاني من أركانِ الإسلام، وهي فريضةٌ عظيمةٌ من فرائض الله “عزَّ وجلَّ”، ولها أهميتُها الكبيرةُ، من حَيثُ موقعها في الدين، ما يترتب عليها من النتائج التربوية العظيمة، الفضل والأجر الكبير عليها من جوانب متعددة.
والكُلُّ يعرفُ عن أهميّة الصلاة على نحوٍ إجمالي، وأنها ركنٌ عظيمٌ من أركان الإسلام، وأتى في القرآن الكريم من ضمن المواصفات الرئيسية، وفي كثيرٍ من المواقع في القرآن الكريم، في أول المواصفات الأَسَاسية للمتقين وللمؤمنين: العناية بالصلاة، تحت العنوان المعروف: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ}، وتكرّر هذا في القرآن الكريم؛ باعتبَاره من المواصفات الأَسَاسية اللازمة، التي عليها أهل التقوى والإيمَـان، لا تنفك عنهم، يستمرون على ذلك، {يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ}، تتكرّر {يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ}، {يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ}… في كثيرٍ من الآيات المباركة التي تحدثت عن مواصفاتهم، وعلاماتهم، واهتماماتهم العملية التي يواظبون عليها.
ونجد مثلاً في سورة البقرة في قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}[البقرة: 2-3]، فبعد قوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}، يأتي بقوله: {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ}، وهي تفيد الاستمرارية على ذلك، أنهم يواظبون على الصلاة القيِّمة، التي يؤدونها على نحوٍ تام.
وتكرّر كَثيراً في القرآن الكريم إلى جانب الحديث عن صلاتهم القيِّمة، التي يتميزون بها؛ لأَنَّ الكثير يصلون، لكن ما يميِّز صلاة المتقين: أنها صلاةٌ قيِّمة، وهذا ما سنتحدث عنه أثناء حديثنا في الموضوع.
يأتي أَيْـضاً مما وصفوا به: المحافظة على الصلاة، {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون: الآية9]، هكذا يقول الله عنهم، فهم يحافظون عليها باستمرار أَيْـضاً، ويستمرون عليها، {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ}[المعارج: الآية23]، ليسوا موسميين، فقط في شهر رمضان، أَو في يوم الجمعة، أَو في بعض الأوقات، أَو يهتم بالبعض من الصلوات على نحوٍ شكلي، ثم يترك البعض منها.
وأيضاً يصفهم بالخشوع في صلاتهم، صلاتهم صلاة مميزة، من حَيثُ حضور الذهن، من حَيثُ الخشوع لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ}[المؤمنون: الآية2].
لأهميّة الصلاة تكرّر الأمر لإقامتها في القرآن الكريم كَثيراً، فيأتي قول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}[البقرة: من الآية43]، وتكرّرت هذه الصيغة في القرآن الكريم: الأمر بإقامة الصلاة، {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ}، {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ}[النساء: الآية103]، في مواطن كثيرة من القرآن الكريم، في عدة سور، وفي عدة آيات، منها قوله تعالى: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ}، {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ}[إبراهيم: الآية31]، وعادةً ما يقترن مع الأمر بالصلاة الأمر بالإنفاق، والأمر بالزكاة، في كثيرٍ من الآيات القرآنية، وهو ما سنتحدث عنه لاحقاً إن شاء الله، عندما نتحدث عن الزكاة وعن الإنفاق.
فالصلاة تأتي في رأس القائمة، في مقدِّمة المواصفات والأعمال الأَسَاسية، وكعنوانٍ رئيسي، حتى أنها تدل على ما بعدها من الاهتمامات والالتزامات العملية، {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ}.
ويقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}[الأنعام: الآية72]، فيأتي هنا الأمر بشكل رئيسي ومباشر في ما يخص الصلاة، {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ}: أدُّوا صلاتكم صلاةً قيِّمة، فهو أمرٌ بالصلاة نفسها، وأن تؤدَّى قيِّمةً.
أيضاً يأتي قول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في المحافظة عليها: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}[البقرة: الآية238]، {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} في كُـلّ الحالات، في كُـلّ الحالات المختلفة، والله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” قد شرع كيفيةً متناسبةً مع مختلف الظروف التي يواجهها الإنسان، مثلاً: في حالة المرض، الذي يتعذر فيه أداء الصلاة كاملةً، من قيام، وقعود، وفق هيئاتها، شرع الله صلاة المريض بحسب استطاعته من قعود، إذَا لم يستطع من قعود، فهو مضطجع، وكذلك مثلاً في حالة السفر (السفر بعيداً) هناك أَيْـضاً صلاة السفر، وفي ما يتعلق أَيْـضاً بظروف القتال المُستمرّ، الذي يتعذر معه -مثلاً- أداء الصلاة وفق هيئاتها وأركانها المعروفة في حالة الأمن والاطمئنان، فهناك ما يتناسب مع تلك الظروف.
{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى}، (الصَّلَاةِ الْوُسْطَى) يختلف المسلمون ما هي من بين الصلوات، وروي عن أمير المؤمنين علي “عليه السلام” أنها صلاة الجمعة، وفي بقية الأيّام الظهر، صلاة الجمعة، في يوم الجمعة.
{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}، قوموا في صلاتكم وقفوا -لأنها وقفة بين يدي الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”- لله بإخلاص، بإخلاص لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ مِن أجلِ الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، مع الحذر من الرياء والدوافع غير الإيمَـانية، {قَانِتِينَ}: خاضعين لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ لأَنَّ وقفة الصلاة هي وقفة تعبُّد لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وتعبير عن العبودية لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وذكر لله “جلَّ شأنه”.
{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَو رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}[البقرة: الآية239]، في ظروف الخوف لها اعتبارها، ظروف الخوف التي قد يفوت وقت الصلاة بكله قبل أدائها، فتؤدَّى كما ذكر الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {فَرِجَالًا أَو رُكْبَانًا}، بحسب الحالة.
أيضاً يقول “جلَّ شأنُه”: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ}[النساء: من الآية103]، هناك: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}، يعني: فأدوا صلاتكم كاملةً مع الذكر لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، والإكثار من ذكره، {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا}[النساء: من الآية103]، فيأتي للظروف: الظروف القتالية، ظروف الخوف، حالاتها التي لا تفريط فيها بالصلاة، وفي نفس الوقت تتلاءم مع تلك الظروف والحالات.
الأمر بإقامتها في القرآن الكريم هو متكرّر، كما أشرنا في بداية المحاضرة، وما تعنيه إقامتها، هو: أداؤها خالصةً لله، كاملةً شروطها وفروضها، الإتيان بها وفق ما شرعها الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وهذا أمرٌ مهمٌ جِـدًّا؛ لأَنَّ البعض ممن يؤدِّي صلاته بشكلٍ اعتياديٍّ روتينيٍّ، لا يعي أهميتها، وفضلها، وعظيم شأنها، قد يؤدِّيها بشكلٍ عاديٍّ جِـدًّا، من دون إتقانٍ لهيئاتها وأركانها، أَو مع تفريطٍ وتقصيرٍ في شيءٍ من شروطها وأركانها، فيكون لذلك تأثير سيئ على أدائه، لا يؤديها كاملة، لا يؤديها متقنة وفق ما شرعها الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.
البعض ممن يؤدِّيها -كما قلنا- بشكل اعتيادي روتيني، وقد يؤدِّيها وهو مستعجلٌ جِـدًّا لأمرٍ من أمور الدنيا، لشأنٍ من شؤون نفسه وأغراض حياته، فعادةً يترك عجلته عليها هي، مع أنه قد يكون متأنياً في بقية الأمور، إنما يستعجل جِـدًّا فيها؛ فيفرِّط في شيءٍ منها.
لأهميّة الصلاة، وعظيم شأنها، كانت في رأس القائمة ضمن الأولويات العبادية، والأعمال العظيمة، والفرائض المؤكّـدة في كُـلّ رسالات الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ولدى كُـلّ أنبيائه “صلوات الله عليهم”، ويتضح لنا في القرآن الكريم كيف كانت أهميتها في عهد الأنبياء “عليهم الصلاة والسلام”، وكيف كانت عنايتهم بها، مما يدل على عظيم شأنها، وعلى منزلتها وموقعها المهم في دين الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وفي القربة إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وفي آثارها المهمة التي نحتاج إليها نحن كبشرٍ في كُـلّ زمانٍ ومكان.
في القرآن الكريم على نحوٍ إجمالي، في حديثه عن الأنبياء “صلوات الله وسلامه عليهم”، يقول الله “جلَّ شأنه”: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}[الأنبياء: من الآية73]، فالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أوحى إلى الأنبياء {فِعْلَ الْخَيْرَاتِ}، عنوان واسع يشمل كُـلّ الأعمال الصالحة التي فيها الخير، {وَإِقَامَ الصَّلَاةِ}، فنلاحظ كيف كانت أَسَاسيةً، وخصَّت بالذكر؛ لأهميتها وموقعها، وأثرها الكبير على المستوى التربوي والعبادي، {وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ}، وكَثيراً ما تقترن الزكاة بالصلاة، ويقترن الإنفاق بالصلاة، {وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}.
من ضمن ما يذكره الله أَيْـضاً عن نبيه وخليله إبراهيم “عليه السلام”، في اهتمامه الكبير بأمر الصلاة، وهو الذي بنى الكعبة، أعاد بناءها، وأحياها من جديد، فأحيا دورها الكبير كقبلةٍ للصلاة، وكذلك في دورها فيما يتعلق بالحج، فإبراهيم “عليه السلام” كان من ضمن أدعيته: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ}[إبراهيم: الآية40]، فمع اهتمامه بأمر الصلاة، وورد الكثير في القرآن الكريم فيما يتعلق بذلك في سورة البقرة، وفي سورة إبراهيم… وفي سورٍ أُخرى أَيْـضاً، كان من الملاحظ لاهتمامه الكبير بالموضوع، أنَّ من ضمن أدعيته هذا الدعاء: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ}، وهذا مما ينبغي أن يأخذه الإنسان المؤمن بعين الاعتبار، أن يدعو الله أن يوفِّقه لأداء الصلاة، أن يعينه على أداء الصلاة القيِّمة؛ لأَنَّ المطلوب هو أن تكون صلاةً قيِّمة، ما أكثر المصلين! وما أقل الذين يقيمون الصلاة! وهذا الدعاء بنفسه دعاءٌ عظيم، دعاءٌ مهم، يمكن للإنسان أن يعتمده ضمن أدعيته التي يدعو الله بها: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي}، يدعو الإنسان لنفسه بذلك، ويدعو لذريته، {رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ}.
كذلك في القرآن الكريم عن نبي الله إسماعيل “عليه السلام” يقول الله عنه: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ}[مريم: من الآية55]، من ضمن أوصافه العظيمة، من ضمن ما يتحدث به القرآن عنه؛ باعتبَاره شيئاً مهماً، وشيئاً عظيماً، ومواصفة مهمة، من مميزاته “عليه السلام” أنه كان هكذا: يهتم بأمر الصلاة، ويأمر أهله بها بشكلٍ متكرّر، فهي ضمن الاهتمامات التربوية التي يحرص عليها الإنسان مع أهله، ضمن المسؤوليات والالتزامات الأخلاقية والتربوية تجاه الأهل: أن يأمرهم الإنسان بالصلاة، أن يحثهم على الصلاة، أن ينبههم على الصلاة… وهكذا شيءٌ مُستمرٌّ، {يَأْمُرُ} كحالة مُستمرّة، {يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ}، تقترن، قرينة الصلاة هي الزكاة، {وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا}، هذا يدل على اهتمامه العظيم بأمرهما، بأمر الصلاة والزكاة، ويدل على موقعهما العظيم في دين الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وأنهما عنوانان رئيسيان بارزان، يعبِّران عن غيرهما، عن بقية المواصفات الإيمَـانية.
كذلك في القرآن الكريم في سورة طه، في الحديث عن نبي الله موسى “عليه السلام”، عندما أوحى الله إليه، قال الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” وهو يخاطبه: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}[طه: الآية14]، فلعظيم شأن الصلاة، أفردت أَيْـضاً بالذكر مع أنها من العبادة، تدخل ضمن قوله تعالى: {فَاعْبُدْنِي}، فيأتي أَيْـضاً الإفراد لها بالذكر، والتخصيص لها بالذكر؛ لأهميتها الكبيرة جِـدًّا، {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}، فمن الأدوار الأَسَاسية للصلاة، هي: أنها ذكرٌ لله، أنت في صلاتك تذكر الله، وتتذكر الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وتخرج من حالة الغفلة عن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، إذَا أدَّيت صلاتك كما ينبغي بإقبالٍ ذهنيٍّ ونفسيٍّ، وتوجّـه بالقلب والمشاعر، وبالوجدان واللسان نحوَ الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.
كذلك فيما أوحى الله به إلى نبيه موسى ونبيه هارون “عليهما السلام”، يقول الله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إلى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}[يونس: الآية87]، {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ}، فإقامة الصلاة تأتي ضمن الأوامر الإلهية المؤكّـدة والمتكرّرة؛ لِمَا للمسألة من أهميّة كبيرة جِـدًّا لنا نحن، للبشرية أنفسهم.
أيضاً في سورة مريم، فيما ذكره الله عن نبيه عيسى “عليه السلام”، عندما أنطقه الله وهو في المهد، فقال “عليه السلام” ضمن ما قال: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أين مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا}[مريم: الآية31]، {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أين مَا كُنْتُ}، ما شاء الله، سبحانَ الله العظيم، كان نبي الله عيسى مباركاً أينما كان، فيقول: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا}، يعني: بالاستمرار على ذلك، بالاستمرار على ذلك، {مَا دُمْتُ حَيًّا}: طول الحياة، طول العمر.
فكم في القرآن الكريم من الحديث عن الصلاة، من الأمر بها، من التأكيد عليها كعنوانٍ رئيسيٍّ إيمَـانيٍّ يساعد على التقوى، والصلاة لها -كما أشرنا في سياق الحديث- أهميتها من جوانبَ متعددة:
أول ما في الصلاة: أنها ذكرٌ لله تعالى، كما قرأنا في قوله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” مخاطباً لنبيه موسى “عليه السلام”: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}، الإنسان بحاجة إلى الذكر لله، ومن أخطر ما يمكن أن يتعرض له الإنسان في التأثير السلبي على نفسه، واهتماماته، وأعماله، وتصرفاته، ومواقفه، هو: الغفلة عن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، هي الحالة الخطيرة التي يصطادك فيها الشيطان، يوقع بك الشيطان، تسقط فيها في حبائل الشيطان ومصائد الشيطان، حالة الغفلة عن الله، حالة النسيان لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، فأتت الصلوات الخمس، التي هي الركن الثاني من أركان الإسلام، والفرض العظيم من فرائض الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، في أوقات موزَّعة على اليوم والليلة؛ حتى لا تنسى لفترة طويلة مع انشغال الإنسان في ظروف حياته، ظروف معيشته.
البعض قد ينهمك ذهنياً نفسياً عمليًّا في مشاغله المعيشية مثلاً، في بيعه، في شرائه، في شغله، في زراعته… في أي أعمالٍ من أعماله، على نحوٍ ينسى فيه تذكُّر الله، والذكرى لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، فلو لم تكن هذه الصلوات الخمس الموزعة على اليوم والليلة؛ لبقي لفترة طويلة، قد يمر يومه بكله غافلاً عن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، لا يذكر الله، ناسياً لله، وهي حالةٌ خطيرةٌ جِـدًّا، لها تأثيراتها السلبية على مشاعر الإنسان، وعلى واقع الإنسان العملي بالتالي، على التزامه الإيمَـاني، على اهتمامه، فعندما يمر بعضٌ من الوقت، مثلاً ما بين الفجر والظهر، وقت متسع، لكن يأتي الظهر كذلك، ثم فريضة العصر، ثم كذلك المغرب، يأتي المغرب، وهكذا العشاء، فهكذا تأتي هذه الفواصل الزمنية، والتي هي أَيْـضاً في حركة الزمن، في حركة الليل والنهار، في حركة الشمس، أشبه ما تكون بفواصل زمنية، لها علاقة بواقع الإنسان، لها علاقة بنظم حياته وأعماله وتحَرّكاته، كذلك مثلاً عندما نستيقظ من نومنا، فيكون أول الفرائض التي نؤديها هي فريضة الفجر، هذا في غير شهر رمضان طبعاً، مع سهر الليل في شهر رمضان وقيامه.
وهكذا يأتي الذكرُ لله والتذكُّرُ لله الذي له أهميته الكبيرة في أن تبقى متجهاً نحو الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، خائفاً من العصيان لله، متنبهاً ومستحياً من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ومنتبهاً إلى أعمالك، إلى تصرفاتك، كيف لا تعصي الله، كيف لا تسبب لنفسك سخط الله، كيف تعمل ما يرضي الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، كيف تتقي الله “جلَّ شأنه”، فهذا الجانب جانبٌ مهم.
فالصلاة هي ذكرٌ لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وهي أَيْـضاً حافلةٌ بالأذكار العظيمة، بالتكبير لله “جلَّ شأنه”، وبالتسبيح لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ومع التسبيح التهليل والتحميد، وَأَيْـضاً مع ذلك قراءة القرآن، وقراءة سورة الفاتحة التي لا بدَّ منه في كُـلّ صلاة، فللأذكار نفسها، ولقراءة القرآن نفسه الأثر العظيم في الذكر لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وفي ترسيخ ما تعنيه تلك الأذكار.
في التكبير لله، الذي يعني: ترسيخ الشعور بعظمة الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وأنه أكبر من كُـلّ شيء، بكل ما لهذا من أهميّة كبيرة بالتالي في مواقف الإنسان، في أعمال الإنسان، في طاعته لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، في نهوضه بمسؤولياته، في مواجهته لأعداء الله، في تصديه للأخطار والتحديات مهما كانت.
ما يتعلق بالتسبيح كذلك، ما يتعلق بقراءة القرآن كذلك… وهكذا، أذكار الصلاة أذكار عظيمة، وليست عشوائية، هي شرعت، وأتت عن رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، شرعها الله لعباده، شرع لنا ما نذكره به في صلاتنا، فهي أذكار محدّدة ومشروعة للصلاة، حافلةٌ بالأذكار العظيمة المهمة، التي ترسِّخ في نفس الإنسان ووجدانه المعاني العظيمة، التي تشده نحو الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وهذا المجال يطول الحديث عنه، لسنا في سياق الحديث عنه تفصيلياً؛ إنما الحديثُ عنه على نحو الإجمال.
من أهم ما في الصلاة: أنها تساهم في ترسيخ معنى العبودية لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وهي في أذكارها، وأركانها من: ركوعٍ، وسجود، وقيامٍ، وقعود، هي تعبِّر عن عبوديتك لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، أنت تقف في صلاتك في موقف الصلاة، وفي مقام الصلاة، تتوجّـه، لا تتلفت إلى شيءٍ آخر، تبقى ملتزماً وفق هيئة الصلاة، وفق أذكارها، أركانها، شروطها، فروضها، لا تنشغل بشيءٍ آخر، لا تلتفت إلى شيءٍ آخر، لا تمارس أي أعمال أُخرى، بوقفة الإجلال والخشوع والخضوع لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ركوعك وسجودك كله، وإقبالك ذلك الذي يمنع فيه أي حديثٍ آخر غير أذكار الصلاة، ويمنع فيه أَيْـضاً أي أعمال أُخرى غير أعمال الصلاة، أي تلفت بوجهك، برأسك، إلى أي جهةٍ أُخرى، كُـلّ ذلك ممنوع، تُقبِل بشكلٍ كليٍّ، ولا تؤدي في الصلاة إلا أذكارها وأعمالها، وتترك أي شيءٍ آخر، هذا الإقبال بخشوع وخضوع، وحالة من القنوت لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، والخشوع لله “جلَّ شأنه”، والإقبال إلى الله، هي تعبيرٌ عن عبوديتك لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وفي أذكارها كذلك، في أذكار الصلاة كذلك تعبير عن العبودية لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.
والمهم في ذلك هو: استحضار الذهن، التركيز الذهني على ما تقول وما تفعل، هذا أمرٌ مهمٌّ جِـدًّا، التركيز الذهني والحضور الذهني على ما تقول وما تفعل، هذا يساعدك على أن تستشعر هذه الحالة من العبودية لله، من التعبير عن أنك عبدٌ لله، تقف بين يديه، تتوجّـه إليه، تذكره، تكبره، تسبحه، تقرأ من كتابه، تتلو آياته… إلى غير ذلك مما في أذكار الصلاة، وهذا جانبٌ مهمٌّ، وترسيخه في وجدان الإنسان، وفي مشاعره له أهميته الكبيرة فيما يتعلق بطاعتك لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، بإقبالك إلى الله، بتسليمك لله، وتقبلك لهدي الله، وتقبلك لتعليمات الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.
من أهم ما في الصلاة، هو: عطاؤها التربوي، وأثرها الكبير في تزكية النفس، وتطهير نفسية الإنسان، وهذا جانبٌ مهمٌّ جِـدًّا، يحتاج إليه الإنسان، ولأن هذا الموضوع موضوعٌ مهمٌّ جِـدًّا، والإنسان في ظروف حياته، وشواغله، واحتكاكه بواقع هذه الحياة وما فيه، قد تتلوث نفسية الإنسان بالكثير مما يواجهه في ظروف هذه الحياة، وتتأثر سلباً، ولكن ما بين الصلاة إلى الصلاة، تأتي الصلاة الأُخرى، فتمثل أَيْـضاً عملية تطهير للنفس، وكأن الإنسان يتجه إلى، حَيثُ يطهر نفسيته من جديد، وهذا يعودُ إلى إقبالِ الإنسان إلى الصلاة بوعي، وأدائها بوعيٍ واستحضار لقيمتها، وأهميتها، وفوائدها.
تزكيةُ النفس جانبٌ مهمُّ، يقولُ اللهُ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ فَصَلَّى}[الأعلى: 14-15]، فالصلاة تساعد على تزكية النفس، وتسهم في ذلك إسهاماً مهماً.
يقول الله “جلَّ شأنه” أَيْـضاً عن هذا الجانب: عن أهميّة الصلاة في تطهير نفسية الإنسان، في تزكية نفسه، في ترسيخ حالة التزام التقوى لدى الإنسان، والانضباط الأخلاقي والإيمَـاني، في تنمية الروح الخيِّرة والمشاعر الطيِّبة في نفسية الإنسان، التي تبعده عن الفحشاء، عن المنكر، عن المعاصي: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}[العنكبوت: من الآية45]؛ لأَنَّها ترسِّخُ الحالةَ الإيمَـانية، تشُدُّك إلى الله، تنمِّي في نفسك التذكر لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، والحياء من الله، والخشية من الله، والحب لله، والشعور بالقرب من الله، والشعور بالقرب من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وتطهر نفسيتك، وتنمِّي فيك المشاعر الطيبة، المشاعر الإيجابية، الطاقة الإيجابية، التي تساعدك على الاستقامة إلى درجة أن تمقت الفحشاء، أن تكره الأعمال السيئة، أن تنفر منها، أن تستوحش منها، وهذا أثرٌ عظيمٌ ومهمٌّ جِـدًّا، يحصل عندما يؤدِّي الإنسان صلاته كما ينبغي، ضمن استقامته العملية، وحرصه على الاستقامة العملية.
يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أيضاً: {إِنَّ الْإنسان خُلِقَ هَلُوعًا (19) إذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ}[المعارج: من 19-20]، وَأَيْـضاً يذكر مواصفات أُخرى مع الصلاة، لكن الصلاة كانت على رأس القائمة، في مقدمة ما يفيد في معالجة حالة الهلع لدى الإنسان، ما هي حالة الهلع؟ هي هذه: {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا}، يجزع من الشر، ليس عنده تحمل وطاقة، يحتاج إلى تربية تؤهله لذلك، وَإذَا مسه الخير منوعاً، يمنع، يبخل، يشح.
فهذه الحالة الإيجابية على المستوى التربوي للصلاة، الإنسان بحاجةٍ إليها، كُـلّ إنسان بحاجةٍ إليها، وينبغي أن تكون من الأشياء التي نحرص عليها، ونسعى لها، ونعي أهميتها الكبيرة لنا.
من أهم أَيْـضاً ما في الصلاة: أنها وسيلةٌ مساعدةٌ وعونٌ على أداء العمل الصالح، وعلى النهوض بالمسؤولية، فالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” قال في القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[البقرة: الآية153]، فالصلاة هي وسيلةٌ مهمةٌ جِـدًّا، تساعد الإنسان على تقوى الله، على اهتمامه بالأعمال الصالحة الأُخرى؛ لأَنَّ لها الأثر الإيجابي الذي يساعدك على الاندفاع للأعمال الصالحة، ولتحمل المسؤولية التي عليك أن تتحَرّك للنهوض بها، في الجهاد في سبيل الله تعالى، في الأمر بالمعروف، في النهي عن المنكر، في مواجهة الطاغوت، في مواجهة التحديات… إلى غير ذلك مما يدخل في إطار المسؤولية، فلابدَّ من الاستفادة من الصلاة في ذلك، هي وسيلة لها أثرها الكبير، الذي يكسبك في وجدانك الاطمئنان، الشعور بالقرب من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، الدافع الذي يمثل دافعاً مهماً جِـدًّا للتحَرّك، للاهتمام، للعمل، للالتزام، وهذه مسألة مهمة جِـدًّا، مرتبطةٌ بالصلاة، لها أثرها الإيمَـاني الكبير في ذلك.
فمن خلال هذا الدور المهم للصلاة، والأهميّة الكبيرة لها، يجب أن نعي أَيْـضاً خطورة التهاون بالصلاة، والتفريط بالصلاة، والبعض -للأسف الشديد- قد يكون سبب تهاونه بأمر الصلاة، أَو عن بعض الصلوات، هو الغرق في شهوات النفس، الاسترسال في هوى النفس، الضياع للوقت والجهد في أشياء تافهة، أَو أشياء عبثية، وهذه مسألة خطيرة جِـدًّا.
على كُـلّ حال لا ينبغي أن يكون هناك أي شيءٍ من الشواغل المعيشية، أَو مما يدخل -كما قلنا- ضمن الأمور العبثية، أَو أهواء النفس، مما يسبب لدى الإنسان أن يتهاون بصلاته، وأن يفرط في صلاته، فالتفريط فيها والتهاون بها ذنبٌ عظيم، وجرمٌ كبير، الإنسان إذَا تجرأ على ذلك، فهو يورط نفسه، هو يسبب لنفسه ورطةً كبيرةً جِـدًّا، يجني على نفسه جنايةً كبيرة، يفتح للشيطان المجال على نفسه، ويتحمل وزراً عظيماً، يدنس نفسيته.
الله “جلَّ شأنه” يقول في القرآن الكريم، وهو يحكي عن واقع أهل النار في النار، وهم يتحدثون عن الأسباب الرئيسية التي أوصلتهم إلى نار جهنم، كان في مقدمتها: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ}[المدثر: الآية43]، كان في مقدمة الأسباب لهلاكهم، لأن يكونوا من أهل النار والعياذ بالله: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ}، على رأس القائمة.
أيضاً يأتي الوعيد في القرآن الكريم في قول الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ}[الماعون: 4-5]، حالة الاستهتار بالصلاة، والغفلة عنها، والتهاون بأمرها، وقد يفوت لدى البعض من المتهاونين وقتها في أكثر الأحيان، وبالذات بعض الصلوات، البعض مثلاً يعتادون ويدمنون على التفريط في صلاة الفجر، فلا ينهض إلا في وسط النهار، أَو بعد طلوع الشمس، وتصبح لدى البعض حالة يستمر عليها، فهو أصبح معتاداً لتضييع فريضة صلاة الفجر، ومدمناً على ذلك، هذا أمر خطير للغاية، معناه: أنك في مثل هذا الحال لم تعد من المؤمنين، ولا في عداد المتقين، وأنك ترتكب جرماً عظيماً، وتتحمل وزراً فظيعاً ثقيلاً، أمر خطير للغاية على الإنسان، في الحديث عن الرسول “صلوات الله عليه وعلى آله”: ((لا يزال الشيطان هائباً مذعوراً من المؤمن ما حافظ على الصلوات الخمس، فإذا ضيّعهن، تجرّأ عليه، فألقاه في العظائم))، الشيطان يتجرأ على الإنسان إذَا فرَّط وضيَّع في صلواته، أصبح لا يهتم ببعضها، أصبح يؤديها على نحوٍ يتخلص منها، كأنها مشكلة، فيؤديها [مغضى] على حسب تعبيرنا المحلي، هكذا بطريقة ليتخلص منها، وكأنها أصبحت مشكلةً بالنسبة له.
من خلال الوعي الإيمَـاني يجب أن ندرك عظمة الصلاة، قيمتها، أهميتها، ويبدأ الإنسان على المستوى النفسي والذهني في رسم صورةٍ إيجابيةٍ عن الصلاة، وفي حمل مشاعر إيجابية نحوها، يعني: أن تدرك أنت أنها قربةٌ عظيمةٌ إلى الله، أنها نعمة، أنها مفيدةٌ لك أنت، أنك بحاجةٍ أنت إليها حتى على المستوى النفسي، حتى لعلاج الحالات النفسية، التي هي مؤثرة سلباً عليك في مشاعرك، في اهتماماتك، في أعمالك، وتحمل المشاعر الإيجابية نحو الصلاة، في أهميتها، في دورها، في عظمتها، فيما تكتسبه منها أنت، على المستوى النفسي: من الشعور بالاطمئنان، والسكينة، والراحة، والقرب من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ((أرحنا يا بلال))، يقال أنَّ النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” كان إذَا أتى وقت الصلاة في بعض الأحيان يقول لبلال عندما يأمره بالأذان للصلاة: ((أرحنا يا بلال))، راحة، راحة، واطمئنان، وسكينة، ومشاعر إيجابية يعيشها الإنسان، هذه هي الصلاة بشأنها العظيم.
يتفاوَتُ الناسُ في مستوى الاستفادة من هذا المورد التربوي الإيمَـاني العظيم، بحسب إيمَـانهم، بحسب إقبالهم إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وهي ميسَّرة، ميسَّرة، ليست على نحوٍ ثقيل، على نحوٍ صعب، ليست أعدادُها كبيرةً جِـدًّا، الله جعلها ميسَّرةً جِـدًّا، ليس هناك ما يبرّر أن يستثقلها الإنسان، أَو أن ينفر منها الإنسان، أَو أن يعتبرها أمراً صعباً ومعقداً يتهرب منه، هي من أيسر الأعمال، من أيسر الأعمال الصلاة، أمر يسير، وسهل، وغير معقد، وله آثار إيجابية، وَإذَا استمر الإنسان عليه بإقبال، أصبح من الأعمال الشيقة جِـدًّا، التي يشتاق إليها، يتطلع إليها، يحس من خلالها بالراحة النفسية العظيمة، يحسُّ بآثارها وبركاتها الكبيرة، بنتائجها العظيمة.
ومع ذلك، مع الصلوات الخمس، هناك صلاة المناسبات، الصلوات المتعلقة بالمناسبات، منها مثلاً: صلاة العيدين، منها صلاة الجنازة، هي فرضٌ على الكفاية طبعاً بالنسبة لصلاة الجنازة، هناك صلاة الكسوفين، كسوف الشمس والقمر، وهكذا صلوات تتعلق بمناسبات معينة، وهناك صلاة النافلة، من أهمها صلاة الليل، في آخر الليل، أَو من بعد منتصف الليل هي نافلة، ليست فريضة، لكن فضلها عظيم، أثرها النفسي التربوي كبيرٌ جِـدًّا، والإنسان يتزود بحسب ظروفه العملية، وبحسب اهتماماته في مسيرته في هذه الحياة.
وعلى كُـلّ حال تأتي الصلاة كوسيلة عظيمة جِـدًّا، بأثرها الكبير جِـدًّا، وارتباطها ببقية الأعمال، ليست بديلةً عن بقية الأعمال، ولا متعارضةً مع بقية الأعمال، بل لها صلتها الوثيقة؛ لأَنَّها تؤدي هذا الدور في التذكر لله، في الإقبال إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، الدور المساعد على التقوى، فتصبح هي وسيلةً معينة، {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ}[البقرة: من الآية45]، كما الصبر يساعدك على أداء مسؤولياتك، كذلك هي الصلاة.
فلا معنى أبداً لتقديمها وكأنها مثلاً بديلٌ عن الجهاد في سبيل الله، أَو عن الأعمال المهمة الأُخرى، في السعي لإقامة دين الله، لإقامة الحق، لإقامة العدل، لا مبرّر أبداً يبرّر التعامل معها وكأنها شيءٌ يغني عن بقية الدين، وهي تربطك ببقية الدين، تربطك بالاستجابة لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” تجاه ما أمرك الله به.
من آخر ما نوصي به في حديثنا هذا الموجز عن الصلاة؛ لأَنَّ الحديث عنها يمكن أن يتسع جِـدًّا، هو: الحث للذين لم يتعلموا الصلاة جيِّدًا أن يتعلموها، وألَّا يستحيوا من ذلك، ألَّا يتحرَّج الإنسان من تعلمها، أَو التأكّـد من أنه يتقنها في أذكارها، وأركانها، وشروطها، وفروضها، وأن يكون هذا من ضمن الأشياء التي يتعلمها، بالذات المناطق التي تنتشر فيها الأمية، وليست فيها حركة جيدة للتعليم، أن يكون هناك اهتمام بهذا الأمر.
نَسْأَلُ اللهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَنْ يوفِّقَنا وإيِّاكم لما يُرْضِيه عنا، وأَنْ يرحَمَ شهداءَنا الأبرارَ، وَأَنْ يشفيَ جرحانا، وَأَنْ يفرِّجَ عن أسرانا، وَأَنْ ينصُرَنا بنصره، إِنَّهُ سَمِيْعُ الدُّعَاءِ، وَنَسْأَلُهُ أَنْ يتقبَّلَ مِنَّا وَمِنْكُمُ الصِّيَاْمَ وَالقِيَاْمَ وَصَالِحَ الأَعْمَالِ.
وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه.