المحاضرة الرمضانية الـ14 للسيد عبدالملك بدر الدين الحوثي 1443هـ الموافق 15-04-2022م
أُعُوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
الحَمْدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ المَـلِكُ الحَـقُّ المُبِيْن، وأشهَدُ أن سَيِّـدَنا مُحَمَّــدًا عَبْـدُه ورَسُــوْلُه خَاتَمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــدٍ وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــدٍ، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إِبْـرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ إِبْـرَاهِيْمَ إنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ.
وارضَ اللَّهُم برِضَاكَ عن أَصْحَابِهِ الأَخْيَارِ المُنْتَجَبين، وعَنْ سَائِرِ عِبَادِك الصَّالحِين وَالمُجَاهِدِيْنَ.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ والأخواتُ:
السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.
اللهم اهْدِنا، وتقبَّلْ منا، إنَّك أنتَ السميعُ العليم، وتُبْ علينا، إنك أنتَ التوَّابُ الرحيم.
الاستقامةُ في مسيرةِ هذه الحَياةِ على أَسَاسِ العبودية لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” (رَبُّنَا اللَّهُ)، ووفقَ هديه وأمرِه، {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ}[هود: من الآية112]، هي ما ينبغي السعيُ لتحقيقه والحرصُ عليه، وهي خِيارُ المؤمنين الفائزين، المعبِّرُ عن الانتماء الإيماني الواعي والصادق، وهي نعمةٌ عظيمةٌ، إذَا وفِّق الإنسان لذلك، فهو توفيقٌ كبير، ونعمةٌ عظيمةٌ أنعم الله بها عليه؛ لأَنَّها يترتب عليها الخير، والعزة، والشرف في الدنيا، والفوز العظيم في الآخرة.
كما أشرنا بالأمس: هي الطريقُ التي يحقّق للإنسان كرامته الإنسانية، فيعيش متحرّراً، كريماً، عزيزاً، ليس عبداً للشيطان، ليس عبداً للطاغوت، ليس عبداً لأولياء الشيطان، ليس عبداً لهوى النفس، الذي يُعَبِّدُ الإنسان للشيطان، ينطلق الإنسان في طريق الاستقامة وهو عبدٌ لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ووفق هدي الله الرحيم، العظيم، الكريم، يحظى بصلةٍ إيمانيةٍ مع الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، يحبه الله، ويحيطه برعايته الواسعة، وتوفيقاته الكبيرة.
واللهُ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” هو أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين، وذو الفضل الواسع العظيم، يريد لكل عباده الخير، يبتدئهم بالنعمة، وَيَمُنُّ عليهم بالإرشاد إلى ما فيه الخير لهم في الدنيا والآخرة، إلى ما فيه نجاتهم، وفلاحهم، وصلاحهم، واستقامة حياتهم في الدنيا والآخرة، يعد الذين يستجيبون له بالحياة الطيِّبة، والفوز العظيم، وبرضوانه، وجنته، والسَّلامة من عذابه.
وهو “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” كما يبتدئ عبادَه بالخير، والرحمة، والنعمة، والفضل، ويقدِّم لهم ما فيه الإرشاد لهم إلى نجاتهم، عندما يستجيبون له، هو يزيدهم هدايةً، يزيدهم نوراً، {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا}[الأنفال: من الآية29]، {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى}[محمد: من الآية17].
وهو “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” يزّكي أنفسَهم عندما يستجيبون له، فيَمُنُّ عليهم برعايته الواسعة، التي جزءٌ كبيرٌ منها يتعلق بزيادة الصلاح، والتقوى، والنور، والهداية، والسمو، والارتقاء الإيماني والإنساني والأخلاقي.
وهو “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” يختبر عباده في هذه الحياة، لكنه يريد لهم الفوز، يريد لهم السعادة، يريد لهم أن تتحقّق لهم النتائج العظيمة؛ لأَنَّه غنيٌّ عنهم، وغنيٌّ عن أعمالهم، وعن عبادتهم، فهو “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” لا يجعل اختباره وسيلةً؛ مِن أجلِ إبعادهم وإقصائهم عن النتائج العظيمة لاستقامتهم، أَو أنه يسعى لعرقلتهم؛ حتى لا يواصلوا المسير الذي يوصلهم إلى رضوانه، إلى جنته.
الاختبار يأتي في هذه الحياة كجزءٍ أَسَاسيٍّ من تكليف الإنسان، ومسؤولياته، وظروف حياته، والإنسان المستقيم يحظى بمعونةٍ من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ويستفيد من ارتقائه الإيماني والأخلاقي في مواجهة الاختبارات، فتكون النتيجة بالنسبة له نتيجةً إيجابية، يزداد نوراً، يزداد توفيقاً، يحظى برعايةٍ أكبر من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.
أمَّا إذَا كان مُعْوَجاً، ويتعاظم الخبث في نفسه، وهو يحتفظ به، لا ينطلق انطلاقة الاستقامة الصحيحة، السليمة، المبنية على الاستجابة، المبنية على الإنابة إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، على مراجعة النفس، على تصحيح الخطأ، بل يستمر في حالةٍ من الاعوجاج، والاحتفاظ بما يسبب له خبث النفس، بما له تأثير سيئٌ عليه؛ فهو عند الاختبار يسقط، عند الاختبار يعوج، ويزيغ عن خط الاستقامة، وينحرف، وهذا هو ما يحصل للبعض من الناس، كما قلنا بالأمس: هو حالةٌ واقعيةٍ.
البعض حتى في صدر الإسلام، كانوا بعد إسلامهم على يد رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، فيما بعد يرتدون عن الإسلام، البعض يرتدوا إلى الكفر، والبعض أَيْـضاً لا يرتدون إلى الكفر، لكنهم يرتدون إلى النفاق، والبعض ينحرفون على المستوى السلوكي، والأخلاقي، والعملي، وهذه حالة معروفٌ تحدَّث عنها القرآن الكريم كَثيراً، وهو يفرز المجتمع المسلم آنذاك، ويُبَيِّن الحالات المختلفة، وَيُبَيِّن الاختبار الذي يكشف الحالة القائمة، الحالة الواقعية، كما قال الله تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}[آل عمران: من الآية179].
فإذا كان الإنسان معرَّضاً لحالة الاعوجاج، للانحراف عن خط الاستقامة، فهو بحاجةٍ إلى أن يكون:
متنبهاً لهذه المسألة.
حريصاً على الأخذ بأسباب التوفيق.
حريصاً على الالتجَاء إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” ليثبِّته.
والأخذ بالأسباب، التي تساعده على الثبات، على الاستمرارية، على أن يصل ما أمر الله به أن يوصل، على أن يستقيم، يستقيم على المنطلق الإيماني العظيم، القائم على قول: (رَبُّنَا اللَّهُ).
فهذه المسألة إذَا كانت محط اهتمام لدى الإنسان، فهي مسألةٌ مهمةٌ جِـدًّا، هذا من أول المتطلبات اللازمة التي تساعد على الاستقامة: إدراك الإنسان لأهميّة المسألة، ومحاذرته للانحراف، للزيغ، للاعوجاج عن خط الاستقامة.
طريق الاستقامة -كما قلنا- طريقٌ عظيم، فيه خير الدنيا والآخرة، فيه الشرف والكرامة، ولذلك يقول الله عنه في القرآن الكريم: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ}[المائدة: من الآية54]، عندما يقدِّم المواصفات الإيمانية الراقية، التي يجب أن نتحلى بها، أن نلتزم بها، أن نسير في مسيرة حياتنا على أَسَاسها، يقول في نهاية المطاف: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ}[المائدة: من الآية54]، فضلٌ عظيم، شرفٌ كبير، {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}[الفاتحة: من الآية7]، فهي نعمةٌ كبيرة، وهي شرفٌ كبير، ويحتاج الإنسان إلى أن يستشعر هذه المسألة؛ ليدرك قيمة أن يكون في طريق الحق، في موقف الحق، أن يكون منطلقاً وفق أمر الله، وفق هدي الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ومستقيماً على أَسَاس ذلك.
مثلما يمنح الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” الهداية، والرعاية، والتوفيق، والسداد، ففي طريق الحق ما يساعد الإنسان على الاستقامة، من حَيثُ الأثر التربوي، والعطاء التربوي، الذي يزيد الإنسان زكاءً، وطهراً، وصلاحاً، ورغبةً في طريق الحق، ومحبةً، وعشقاً لموقف الحق، ولصالح الأعمال، ولحميد الصفات، وهذه مسألةٌ مهمةٌ جِـدًّا، تساعد الإنسان على مواصلة السير، ومواجهة التحديات، والتحمل أَيْـضاً والثبات تجاه المؤثرات، التي عادةً ما تكون مؤثراتٍ سلبية.
الله يقول: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}[البقرة: من الآية143]، الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” يريد لكم الفوز، ولا يريد أن يضيع إيمانكم، أن يضيع جهادكم، أن يضيع عملكم الصالح، بل هو “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” من يقدِّم لكم ما يحافظ على عملكم، على إيمانكم، عليكم في حالة الاستقامة والاستمرارية، وهو القائل: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى}؛ إنما هذا يتطلب منا أن ننطلق الانطلاقة السليمة، وأن نرجع إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” على الدوام.
في حالة الانحراف، وحالة الزيغ، وحالة الاعوجاج، لها أشكالٌ متعددة:
تبدأ –في الأعم الأغلب- بشكل اعوجاج عملي، اعوجاج في العمل، إمَّا على المستوى السلوكي، أَو على مستوى الموقف، تصرفات الإنسان التي يخالف بها أوامر الله، توجيهات الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”:
إمَّا في إطار المعاصي المباشرة:
يعصي الله من المعاصي التي نهى عنها، من المعاصي والذنوب والجرائم، ويستمر على ذلك، لا يتوب إلى الله، لا ينيب إلى الله، لا يرجع إلى الله، يتحول ذلك إلى سلوكٍ يستمر عليه، تمثل هذه الحالة أثراً سيئاً على الإنسان، على نفسيته، على مشاعره، وتبعده عن التوفيق الإلهي، ويكون لها الآثار السيئة، التي تصل به -في نهاية المطاف- إلى الاعوجاج بشكل كامل، أَو إلى الانحراف بشكلٍ كامل، قد يواجه حالة اختبارٍ كبير.
أو ما يتعلق بأداء الإنسان لمسؤولياته، إذَا لم يؤدِّها وفقَ هدي الله، وفق توجيهات الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”:
وكان يشوبُ أداءَه العملي الكثيرُ من التصرفات المزاجية، والتي تخالف توجيهات الله، وتعليمات الله، فيدخل في العمل نفسه التصرفات السيئة، الإساءَات، ما قد يكون ظلماً، ما قد يكون خطأً، ما قد يكون تفريطاً، تفريطاً في أداء المسؤولية… أشياء كثيرة يمكن أن تمثل تأثيراً سيئاً على عمله، وعلى قبول عمله، مبعثها مزاجه الشخصي، هوى نفسه، عدم اهتمامه وعدم حرصه على أن يؤدِّي عمله بشكلٍ صحيح، وبشكلٍ سليم.
أيضاً من حالات الاعوجاج: الاعوجاج العملي الذي يتطور فيما بعد إلى فكري:
الإنسانُ -مثلاً- قد ينحرف في إدائه العملي، قد يخطئُ في أدائه العملي، ثم يتعمد الاستمرار على ذلك، وقد تأتي منه التصرفات السيئة في واقعه العملي، المخالفة لأمر الله، لهدي الله، التي لا تتطابق مع هدي الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” وأمره، ثم يأتي فيما بعد ذلك إلى التبرير، إلى تبرير انحرافاته، إلى تبرير مخالفاته، وإلى التنظير لها فيما بعد؛ ليجعل لها إطارها ومستندها الفكري، ولكنه على أَسَاس التحريف، على أَسَاس ضلالٍ يقدِّمه، ليس على أَسَاس حقٍ يدعم موقفه؛ إنما يستند في موقفه الباطل إلى باطل، في تصرفه الخاطئ يستند إلى تزييف للحقائق.
وهذا يحصل من الكثير من الناس، بالذات من يكونون مثقفين وينحرفون، ثم يريدون أن يبرّروا انحرافاتهم، يأتي ليلفق لها تلفيقاً ثقافيًّا، وتنظيراً ثقافيًّا، فيراكم من سلبياته، يراكم من حالة الانحراف التي يجعلها حالةً عمليةً، وحالةً فكريةً يُنَظِّرُ لها، يبرّر لها، وقد يصل إلى درجة الافتراء على الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وهذه حالةٌ خطيرةٌ جِـدًّا.
من حالات أَيْـضاً الاعوجاج والانحراف: الانحراف العملي الذي يتطور إلى مواقف سلبية:
الإنسان قد يخالف، قد يعاند، قد تصدر منه تصرفات سيئة في الواقع العملي، فيما يتعلق إمَّا -كما قلنا- بإدائه وطريقة أدائه لمسؤولياته، لا يؤديها وفق هدي الله، في أُسلُـوبه، في سلوكه، في القيم التي وجَّه الله إليها في القرآن الكريم، التي يكون العمل بها صالحاً، ويحقّق ثمرته المرجوَّة، وثمرته المطلوبة، أَو غير ذلك، يترافق مع ذلك أعمال سيئة من الأعمال السيئة الواضحة المنحرفة.
ثم بعد ذلك، بعد أن يكون قد انحرف، أصرَّ على ذلك، سُلِبَ التوفيق، يتحول من حالة الاعوجاج عن خط الاستقامة، عن الطريق الصحيح، عن العمل الصحيح، عن الموقف الصحيح، إلى اتِّخاذ المواقف السلبية، فيتحَرّك في الساحة يصد عن سبيل الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، يتبنى المواقف السلبية من الحق بكله، من طريق الحق بكله، يتحول دوره إلى دور صاد عن سبيل الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، دور يخدم أعداء الحق، يخدم أعداء الإيمان، وأعداء التقوى، أعداء المنهج الحق، يسير فيما يسايرهم فيه، فيما يؤيِّد البعض من مواقفهم، أَو كُـلّ مواقفهم.
وهذه حالة تحصل للكثير من الناس، ينطلق، ولكنه في انطلاقته هناك الكثير من الشوائب، والسلبيات، والتصرفات السيئة، ثم في الأخير قد ينحرف، وبعد انحرافه واعوجاجه يتبنى المواقف السلبية، المواقف الصادة، المواقف المثبِّطة، المواقف المسيئة، المواقف المخذِّلة، فهو ذلك يترك اتّجاهه في طريق الحق أصلاً، ثم يتجهُ الاتّجاه السلبي، الاتّجاه السيئة، الاتّجاه المناوئ، إما في طريق النفاق مباشرةً، أَو في طريق الذين في قلوبهم مرض، كما يسميهم القرآن الكريم، وهذا يحصل للكثير من الناس.
البعض تبقى الحالة لديه حالة انحراف، لكنها حالة خطيرة، تسلبه التوفيق، يبتعد بها عن الاتّجاه العملي الصحيح، يعبِّد نفسه لهوى النفس، وفي الأخير يخسر، يخسر اتّجاهه العملي الصحيح.
هذه بعضٌ من أشكال الاعوجاج والانحراف والزيغ، التي تحصل بعد أن يكون الإنسان قد انطلق أَسَاساً، وتحَرّك أَسَاساً في طريق الحق.
أمَّا فيما يتعلق بعوامل الانحراف، وعوامل الاعوجاج والزيغ، ففي أولها: هوى النفس:
هوى النفس عنوان يشمل الكثير من التفاصيل، وهو عنوانٌ مُهِمٌّ جِـدًّا، القرآن ركَّز على هذا الموضوع، تحدث عن هوى النفس كَثيراً، عن مخاطره، عن آثاره السيئة، والله “جلَّ شأنه” قال لنبيه داوود عليه السلام؛ ليكون ذلك ذكرى لكل إنسان مؤمن: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}[ص: من الآية26]، الإنسان إذَا اتَّبع هوى نفسه، مال به عن سبيل الله، عن طريق الحق، عن منهج الحق، وزاغ به عن ذلك، مسألةٌ خطيرةٌ جِـدًّا.
من التفاصيل التي تندرج في إطار هوى النفس، هي: الأطماع المعنوية:
هذا يأتي عند التمكين، عند التمكين، عند النصر تتحَرّك الأطماع المعنوية لدى البعض، فيصبح طامعاً في أن يحصل على المناصب الكبيرة، وأن يكون له سمعته الكبيرة، وأن يكون له نفوذه الكبير، وتأثيره الكبير، ومقامه الكبير في أوساط الناس، فيكون له صفة معينة، ومنصب معين، فيكون له أَيْـضاً موقع مهم جِـدًّا، ونفوذ، وتأثير، وتصبح هذه المسألة بالنسبة له مسألةً أَسَاسية، إلى درجة أنه لو لم يحصل عليها؛ فسيترك طريق الحق بكله، تدخل هي فتكون هي هدفه الرئيسي.
قد يكون انطلق في البداية بنيةٍ خالصةٍ؛ مِن أجلِ الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، يبتغي مرضاة الله، عاشقاً لموقف الحق، لطريق الحق، ولكن يحصل الانحراف في داخل نفسه، على مستوى الهدف، على مستوى مبتغاه، وعلى مستوى وجهته التي يتحَرّك؛ مِن أجلِها، فبدلاً من أن يبقى الهدف هو: مرضاة الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، والمنزلة العالية عند الله “جلَّ شأنه”، والمقام الكبير عند الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، يتحول الموقع، والمنصب، والسمعة، والهالة، هي المسألة المهمة، وحتى اللقب، وحتى الصفة، تتحول هي المسألة المهمة، التي يبني عليها توجّـهه، موقفه، رضاه، إذَا لم يحصل عليها، سيتحول إلى إنسان ساخط، حاقد، متذمر، معقد، يتخذ موقفه من الحق وأهل الحق، يقعد، يقعد، ويتخاذل، ويتنصَّل عن المسؤولية؛ لأَنَّ الموضوع المهم الذي أصبح بالنسبة له هو الأَسَاس في أن يواصل مسيره، في أن يتحَرّك، في أن ينطلق، هو ذلك المبتغى، هو ذلك الموقع، هو ذلك المنصب، هي تلك السمعة والهالة، هو ذلك اللقب حتى.
البعض على مستوى الرتبة، إذَا كان لا يحصل على رتبة معينة، أَو موقع معين، فهو سيتراجع عن طريق الحق، وسيتغير، ويغيِّر موقفه بشكلٍ تام، ويتنصَّل عن مسؤولياته، ثم لا يرغب في طريق الحق أصلاً، اختزل كُـلّ آماله، كُـلّ اهتماماته في ذلك، وانفصل في آماله عن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وعمَّا عند الله، {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى}[القصص: من الآية60].
أيضاً في حالات التمكين تبرز الأطماع المادية:
البعض قد تبرز لديه الأطماع بكلها: المعنوية، والمادية، يريد المنصب، يريد السمعة، يريد اللقب، يريد الموقع، يريد النفوذ، يريد المال، فإذا اجتمعت، اجتمعت الآفات معها، الآفات النفسية، وابتعد كَثيراً عن روحيته الإيمانية، عن إخلاصه لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، عن توجّـهه الصادق، وبات المحرِّك له، المؤثِّر حتى على أدائه، على أعماله، على اهتماماته، هو تلك الأطماع، وتلك الأهواء، وتلك الرغبات.
وهذه حالةٌ خطيرةٌ جِـدًّا، وتحصل للكثير من الناس، ينطلق في بداية الأمر انطلاقةً نظيفة، صافية، حتى البعض ينطلق في ظروف صعبة جِـدًّا، ظروف الغالب فيها المخاوف أكثر من الأطماع، لا وجود فيها -أصلاً- للأطماع، في بعض المراحل ليس هناك ما تطمع فيه، هناك ما يخاف الكثير منه، هناك المخاوف، هناك الأخطار، هناك التحديات، وقد يتجاوز البعض هذه الحالة، وتلك المراحل، يتجاوزها بنجاح، ولكنه عندما يصل إلى مرحلة التمكين، فتأتي السمعة، تأتي المناصب، تأتي المواقع، يأتي النفوذ، تأتي الألقاب، يسقط أمام هذا الامتحان، ولا يتحمل، ولا يتماسك، تتغير نفسيته، وأهدافه، وتوجّـهاته، واهتماماته، لتتحول بكلها نحو ذلك؛ فيصبح صنمه الكبير هو المنصب، هو السمعة، هو الموقع، هو النفوذ، هو اللقب، هو الصفة تلك، الصفة التي يوصف بها في موقعه ومنصبه، هذه حالة خطيرة جِـدًّا، على الإنسان أن يتنبَّه منها.
الأطماعُ المادية خطيرةٌ على الإنسان، إذَا أصبح الإنسان يحمل التوجّـه المادي، منشداً إلى الإمْكَانات المادية، يريد الكثير من الأموال، يريد الحياة المرفهة بأي ثمن، بأي ثمن، فهو سيندفع من وراء ذلك ليجعل كُـلّ اهتمامه، كُـلّ آماله، كُـلّ انطلاقته مبنيةً على الحصول على ذلك، فإذا حصل على ذلك؛ كان راضياً، ومتفاعلاً، وإيجابياً، ومنطلقاً، وَإذَا لم يحصل على ذلك؛ تغيَّرت نفسيته، إلى إنسان متذمر، وحاقد، وساخط، وغاضب، ومنفعل، ومستاء جِـدًّا، ثم يتبنَّى المواقف السلبية، ثم يبحث عن كُـلّ العناوين التي يجعل منها ذريعةً للإساءة، ذريعةً لإطلاق المواقف السلبية، للصد عن سبيل الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، للتخريب، للتثبيط، لخلخلة الصف من الداخل، والموضوع الرئيسي هو في واقع الحال، مهما كثرة العناوين التي يطلقها، والكلمات، والأشياء التي يجعلُ منها ذريعةً لإساءَاته، ومواقفه الساخطة، يكون الموضوعُ في أَسَاسه هو الدافع المادي، هو الطمع، هو الهوى.
كما يدفعُ البعضُ أَيْـضاً للخيانة، للخيانة في المال، في الحق العام، في المال الذي ليس خاصاً به، يتعلق بمسؤولياته، أَو إلى الظلم في أن يحصل على أموال محرَّمة عن طريقٍ فيها ظلمٌ لعباد الله، فيها أخذ للحرام، لحقوق الناس، فتمثل حالة اعوجاج خطيرٍ جِـدًّا عن خط الاستقامة، يسبب للإنسان سخط الله، وغضب الله، وعذاب الله، ويحبط الإنسان كُـلّ ما قد سبق منه من الأعمال الصالحة، ثم لا يوفق فيما بقي، والذي سيخسره هو الكثير؛ لأَنَّ الإنسان لو حاز الدنيا بحذافيرها، لو ملك الأرض بكل ما فيها، أَو كان له ما يعادل الأرض ذهباً لافتدى به يوم القيامة من سوء العذاب، من عذاب الله الشديد، لو أن لهم ما في الأرض ومثله معه لافتدوا به.
الذي ستحصل عليه وأنت ستعوج عن طريق الحق، وأنت ستخالف قيمك، ومبادئك، واتّجاهك الصحيح، شيءٌ تافه، شيءٌ لا يساوي شيئاً أبداً في مقابل ما خسرته، خسرت الجنة، خسرت السعادة الأبدية خسرت سمو نفسك، كرامة نفسك، قيم إيمانك، شرفك في موقف الحق؛ لأَنَّ الطمعَ دناءة، الطمع انحطاط، هو يحط من مرتبة الإنسان، من كرامته، خطيرٌ على النفس، وهو خطيرٌ جِـدًّا على شرف الإنسان، وعلى كرامته.
فالحالة حالة الأطماع المادية هي من ضمن هوى النفس، والإنسان عندما ينطلق فيها ينطلق أحياناً بنظرة الاستحقاق، يعتبر نفسه مستحقاً لأن تُلَبِّى كُـلّ طلباته المادية، وأن تتوفر له كُـلّ رغباته المادية؛ لأَنَّه قد وقف موقف الحق، فيريد ثمنه من الناس، أَو من حقوق الناس، أَو من الحق العام، فتفتتح شهية الطمع والجشع إلى أقصى حَــدّ، ويحمل معها هذه النظرة (نظرة الاستحقاق)، أنه أصبح يحق له أن يحصل على كذا وكذا وكذا، وأصبح يتمنن، يتمنن بموقفه، {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إسلامكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ}[الحجرات: من الآية17]، يصبح الإنسان كثير التمنن: [أنا وقفت في موقف كذا، وأنا فعلت كذا، فلماذا لا تعطوني كذا؟!]، يصبح أمامه هناك قائمة طويلة من المطالب الشخصية، والرغبات الشخصية، التي يرى لزاماً على الآخرين أن يوفِّروها له، وأن يؤدوها إليه وفق ما يرغب به، وبأسرع وقت، وألَّا يتأخروا عن ذلك، حالة خطيرة جِـدًّا حالة الطمع.
من العوامل المؤثرة جِـدًّا بشكلٍ سلبيٍّ فظيع على توجّـه الإنسان وعلى استقامته، هي: حالة الغرور، والعجب، والتمحور حول الذات:
البعضُ مثلاً ينطلق، وقد يكونُ حتى في مراحل السبق، ينطلق من مراحل مبكرة، هذا بتوفيق الله عليه، ونعمةٌ كبيرةٌ من الله عليه، ويُقّدِّم الأعمال، ويتحَرّك، سيحظى من خلال ذلك بتوفيقٍ من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وبشرف التوجّـه في طريق الحق، الإنسان يحصل على ذلك عادةً.
في مراحل معينة تأتيه حالة الغرور؛ نتيجة الغفلة عن الله، لم يعد يحسب ما يوفَّق له أنه مِنَّةٌ من الله، يعتبره توفيقاً من الله، ونعمةً من الله، أصبح يعتبر ذلك عائداً إلى عبقريته الشخصية، إلى أنه -في نظر نفسه- إنسان مُهِمٌّ جِـدًّا، موهوبٌ وعبقريٌّ، وأنَّ كُـلّ نجاح يحقّقه يعود إلى ذاته، إلى عبقريته الشخصية، وينسى الله، وينسى الفضل لله، وينسى المنَّة لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ فتعظم نفسه عنده، تعظم شيئاً فشيئاً فشيئاً، حتى يرى نفسه عظيماً جِـدًّا، ويرى نفسه إنساناً عبقرياً، بعيدًا عن التقصير، بعيدًا عن القصور، ويرى لنفسه منزلةً عاليةً جِـدًّا، وشأناً عظيماً، يفترض من خلاله من الناس أن يتعاملوا معه وفق ذلك: أن يُعَظِّموه دائماً، أن يُقَدِّسوه دائماً، أن يخضعوا له في كُـلّ ما يشاء ويريد ويبتغي، أن يلبوا له كُـلّ طلب، أن يتعاملوا معه بخضوع وخشوع، يتناسب مع المقام الذي افترضه لنفسه.
ويصحب ذلك -عادةً- سوء تعامل من جانبه مع الناس، يفقد التواضع، لم يعد يتعامل مع الناس بتواضع، تكثر جرأته في الإساءة إلى الناس؛ لأَنَّه يرى نفسه شيئاً عظيماً، ويرى الناس لا شيء من حوله، فهو جريءٌ بالإساءة إليهم، وفي نفس الوقت يفترض منهم غاية الاحترام له، منتهى الاحترام له، ويفترض من جانبه أن ليس عليه أن يعاملهم أصلاً بأي احترام، ولا بأي تقدير.
فتنعكس حالة الغرور في معاملته مع الناس، في أُسلُـوبه في التعامل، وفي أدائه للمسؤولية، لم يعد يؤدي المسؤولية بأخلاقها، بقيمها، بتواضع، باهتمام، بحرص، بإخلاص، بصدق، بجد، ينطلق من منطلقٍ شخصيٍّ في كُـلّ الأمور، بمعنى: المحور عنده هو ذاته، المعيار عنده هو نفسه وشخصه، يتعامل مع الناس بناءً على ذلك، كيف هم تجاهه، حتى في أدائه للمسؤولية، هو يؤدِّي المسؤولية مثلاً الأعمال التي قد يتصور أنها ذات شهرة يعمل على أَسَاسها، الأعمال التي قد لا تكون ذات شهرة مهما كانت مهمة لا يرغب فيها، الناس الذين يتملقون له، ويبالغون في الثناء عليه؛ يحبهم جِـدًّا، يرتاح لهم جِـدًّا، يعتبرهم الناس الجيدين، ويكره الآخرين حتى بمُجَـرّد أن ينصحوه، إذَا نُصِحَ من جانبهم بنصيحة، أَو نبهوه على جوانب قصور، أَو خطأ، ولو كان بشكلٍ أخويٍّ، وبشكلٍ مؤدب، وبشكلٍ محترم، فالنصيحة تستفزه غاية الاستفزاز، يتعقد من ذلك جِـدًّا.
ثم التمحور حول الذات يجعل الإنسان يشخصن كُـلّ شيء، يشخصن كُـلّ ما يأتي من الناس إليه، يعتبر الموضوع موضوعاً شخصيًّا، موقفاً شخصيًّا، عقدةً شخصية، وينظر إلى الأمور في الواقع العملي من هذا المنظور، وهذه حالةٌ خطيرة؛ لأَنَّها تبعد الإنسان عن الله، تجعله يتنكر لنعم الله عليه، وفي نهاية المطاف لها آثارها السيئة، التي تجعل الإنسان يخسر العمل الصالح، يخسر حتى ما يمكن أن يعطيه الله من مودةٍ في قلوب المؤمنين، من منزلةٍ في قلوب عباد الله، ولا يصل إلى آماله؛ إنما يُعَذِّب نفسه بالعقد النفسية التي تتراكم، ويتعبه كُـلّ شيء، كُـلّ شيء يمثل إشكاليةً معه، كلمة نصح، تقوم القيامة؛ بسَببِها، ملاحظة، يقوم ولا يقعد تجاهها، إشكاليات في الواقع العملي، يشخصن كُـلّ شيء ويفسر كُـلّ شيء بتفسير شخصي، ويبقى دائماً منشغلاً بذاته، بشخصه، يخوض المعارك الكثيرة على المستوى الكلامي وعلى المستوى العملي على هذا الأَسَاس، وهذه حالة خطيرة جِـدًّا، والتربية الإيمانية هي تجعل الإنسان بعيدًا عن ذلك، وسنأتي إلى التنبيه عن هذه المسألة.
من عوامل الانحراف التي هي تابعةٌ لهوى النفس، متفرعةٌ عن هوى النفس: الطغيان:
الطغيان وتأتي في مرحلة التمكين، البعض مثلاً في المراحل الصعبة، في الظروف والتحديات الكبيرة، كان يتحَرّك في سبيل الله وفي طريق الحق، لكن عندما تأتي مرحلة التمكين يطغى، يطغى، يتجاوز الحد، يظلم، يتكبر على عباد الله، لا يبقى ملتزماً وفق هدي الله، وفق أمر الله، {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا}[هود: من الآية112]، قد يظلم إذَا غضب، إذَا انفعل، إذَا ساءه شيء، يتعامل مع ما يسوؤه، أَو مع ما يغضبه، بطريقة فيها تجاوز للحق، تجاوز للعدل، وهذه حالةٌ خطيرةٌ جِـدًّا على الإنسان، وهي -كما قلنا- تأتي في حالة التمكين، البعض يطغى إذَا تمكّن، ولهذا عندما قال الله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا}؛ لأَنَّ الطغيان حالةٌ خطيرة، حالةٌ خطيرة.
عندما يصبح الإنسان متمكّناً، وبمُجَـرّد أن يغضب من شيء، أَو يسوؤه شيء، أَو ينفعل من شيء، تأتي ردة الفعل منه وهي زائدةٌ، يتجاوز بها الحق، يتجاوز بها العدل، هي ليست وفق الحق، ولا وفق العدل؛ وإنما هي وفق ما يلبي رغبته، ما يرضي نفسه، ما يُبَرِّد به غضبه، ما ينسجم مع مستوى انفعاله، يقيس الأمور بمستوى غضبه، بمستوى انفعاله.
ومن أخطر من يتعرضوا لهذه المسألة من هم في موقع المسؤولية، عندما تكون مسؤول في أيِّ موقع من مواقع المسؤولية، مسؤول أمني، مسؤول لك نفوذ، لك تأثير، أَو لك وجاهة، أَو لديك إمْكَانية، في أي مستوى من المستويات، من مستوى تأثير على مستوى مجموعة، إلى مستوى مسؤول أمني، أَو مسؤول عسكري، أَو مسؤول في أي موقع من مواقع المسؤولية، بأية صفة من صفات المسؤولية، عندما يكون الإنسان في موقع المسؤولية، في موقع نفوذ، في موقع تمكّن، عليه أن يحذر من أن يتعامل مع الأمور من منطلق غضبه، من مستوى انفعاله، بمستوى مشاعره الساخطة، الغاضبة، المنفعلة، المستاءة، إذَا قاس الأمور بمستوى استيائه، بمستوى غضبه، بمستوى انفعاله؛ يطغى، يظلم، يسيء، يكون سلوكه سلوك المتكبرين، وقد يصل إلى أن يظلم ظلماً خطيراً جِـدًّا، سواءً الظلم بالكلام، أَو الظلم بالمواقف، أَو الظلم بالإجراءات، سواءً في محيطك العملي، أَو خارج محيطك العملي، وهذه حالة تُخرِج الإنسان عن خط الاستقامة، وتسبب له سخط الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.
والحالة خطيرة جِـدًّا عند الغضب، عند الانفعال، البعض إذَا غضب، إذَا انفعل وهو في موقع مسؤولية، بسرعة تصبح عباراته عبارات المتكبرين، سلوكه سلوك المتكبرين، أُسلُـوبه أُسلُـوب المتكبرين؛ لأَنَّه ينظر إلى الأمور من موقع صفته وموقعه، والمكانة الوهمية التي ينظر إلى نفسه من خلالها، ولا يتعامل مع الأمور وفق العدل، وفق الحق، كما هي، ويحرص على ذلك، ويتحرى ذلك، هذه مسألة خطيرة جِـدًّا.
{وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إلى الَّذِينَ ظَلَمُوا}[هود: 112-113]، لا تميلوا إليهم ولو الميل اليسير؛ لأَنَّ ذلك أَيْـضاً يطغيكم، البعض يتعلم من الذين ظلموا، يتعلم منهم أُسلُـوب إدارة الدولة، أُسلُـوب التعامل مع الناس، بدلاً من أن يعود إلى منهج الله الحق، ليلتزم به، يقول لك: [أحنا دولة، هكذا يجب أن نتعامل، أن نقول، أن نفعل]، فيطغى، هذه حالة خطيرة جِـدًّا.
مما يتفرع عن هوى النفس، من عوامل الانحراف والاعوجاج عن خط الاستقامة والزيغ عنه: الفساد الأخلاقي، والفساد المالي:
الفساد الأخلاقي هو: رذيلة، وهو -في نفس الوقت- جريمة، ومعصية، وهو من أخطر الأشياء آثاراً سيئةً على نفسية الإنسان، تخبث به النفس، الفساد الأخلاقي تخبث به النفس بكل أشكاله، الفساد الأخلاقي بكل أشكاله تخبث به النفس، تنحط به النفس؛ وبالتالي تتغير نفسية الإنسان، فتتحول إلى نفسية خبيثة، لم تعد تنسجم مع القيم الإيمانية، مع الاتّجاه الحق، مع العمل الصالح كما كانت سابقًا، وتصبح ميالةً إلى الأشياء السيئة؛ فيخبث الإنسان، ويخبث كلامه، يخبث لسانه، تخبث تعبيراته، يخبث ويسوء سلوكه، وتتغير اهتماماته، ويفرِّط في مسؤولياته، فهي مسألة خطيرة جِـدًّا على الإنسان ويجب الحذر منها.
الفساد المالي -كذلك- هو: خيانة، وهو معصية، وهو رذيلة، وهو إساءة، وله تأثيراته السيئة، وهو ظلم، والله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[الأنفال: الآية27]، هذه مسألة خطيرة جِـدًّا على الإنسان، يجب الحذر منها، وهي تعود أَيْـضاً إلى هوى النفس.
من العوامل المؤثرة على البعض أيضاً: المشاكل والخلافات:
في إطار انطلاقة الإنسان في موقف الحق، وفي طريق الاستقامة على أَسَاس أمر الله وهدي الله، قد يواجه الإنسان المصاعب، المشاكل، التحديات، الخلافات أحياناً، في إطار أداء المسؤولية، في الأداء الجماعي، الناس ينطلقون في الأداء الجماعي ليؤدوا مسؤولياتهم الجماعية، أحياناً يحصل تباين في وجهات النظر، أَو اختلاف في وجهات النظر، أَو إشكالات في الواقع العملي، مثل هذه الحالة يجب معالجته بروحٍ عملية، مع التزام التقوى؛ لأَنَّها تحصل في كُـلّ واقع عمل، وفي كُـلّ ميدان عمل، قد يحصل أحياناً إما تباين في وجهات النظر، أَو اختلاف في الآراء، أَو إشكالات في الأداء العملي، أَو جوانب قصور أحياناً في الأداء العملي، لا يجوز أن تتحول إلى حالة نزاع، ثم عقد شخصية، ثم مواقف شخصية، الحالة هذه حالة خطيرة جِـدًّا.
البعض من الناس مثلاً قد يشخصن أي إشكال عملي، أَو نقاش عملي، وكأنه موقفٌ منه شخصيًّا، مُجَـرّد مثلاً عدم تقبل لرأيه، يعتبر المسألة موقفاً منه، وقد يكون الموضوع عائداً إلى أن رأيه ليس صواباً، أَو على الأقل لم يفهم، أَو لم يقتنع به على أنه الصواب، يعني: تبقى المسألة موقفاً من رأيه ذلك مثلاً.
أو إشكالات في الواقع العملي، يحصل في الواقع العملي أن يحصل إشكالات معينة، أَو عراقيل معينة، أَو تأخر أمور معينة، أَو انعدام أمور معينة، إذَا تحولت المسألة إلى عقد شخصية لدى الإنسان، تتراكم لدى البعض، فتتحول -في نهاية المطاف- إلى عائقٍ نفسيٍّ عن الاستمرار في العمل؛ فيتنصل الإنسان عن مسؤولياته، ويتغير تماماً، البعض قد يتحول إلى حالة سلبية، إلى حالة سلبية، يصد عن سبيل الله، يثبط، يُخَذِّل، يُخلخل الصف من الداخل، يحاول أن يعمم إشكاليته على نطاقٍ واسع، في نشر حالة العقد، حالة السخط، حالة التذمر، ثم يُكَبِّرها، ثم يُعَظِّمها، ثم يحولها هي الإسلام، وهي الحق، وهي الجهاد، وهي كُـلّ شيء، على حساب كُـلّ شيء، على حساب المسؤوليات الأَسَاسية، المواقف المهمة، التحديات الكبيرة، الظروف القائمة، الأعمال العظيمة، كُـلّ شيءٍ يُنسَى، يستغرق كُـلّ ذهنه، كُـلّ تفكيره، كُـلّ اهتمامه، كُـلّ كلامه في إطار مشكلته تلك، يبقى دائماً يتحدث عنها، يتذمر بشأنها، يبني عليها المواقف، والتوصيفات، يطلق من خلالها الاتّهامات، يبقى ناقماً، لا شغل له إلا إشكاليته تلك، التي استغرق فيها بتفكيره، واستغرق فيها بكلامه، باهتمامه، بأُسلُـوبه، الذي وظَّف فيه كُـلّ جهده؛ مِن أجلِها، هذه حالة خطيرة جِـدًّا، ينبغي أن يحذر الإنسان منها؛ لأَنَّه أي شيءٍ يمكن أن يؤثر عليك في أن تواصل مسيرتك على أَسَاس عبوديتك لله، طاعتك لله، انطلاقتك في موقفك الحق، فهو خطير، ليس هناك شيءٌ يستحق أن يتحول إلى عائقٍ يعيقك عن أن تصل ما أمر الله به أن يوصل.
هذه هي بعضٌ من العوائق، من الإشكالات، من العوامل التي تسبب للإنسان الاعوجاج، الانحراف، قد يواجه اختباراً معيناً فيخرج بشكلٍ تام عن طريق الحق.
– أمَّا العوامل التي تساعد على الاستقامة:
ففي مقدمتها: الالتجَاء إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”:
هذه مسألة مهمة جِـدًّا، على الإنسان أن يكون من أهم ما يطلبه من الله: أن يوفِّقه، أن يثبِّته.
من أهم الأدعية في القرآن الكريم: دُعاءُ الراسخين في العلم، لاحظوا، وصفهم الله بالراسخين في العلم، الذين لديهم الوعي، البصيرة، المعرفة الراسخة، المعرفة العميقة، المعرفة بالحق، المعرفة بالهدى إلى درجة عالية وراسخة ومتمكّنة، ليسوا هامشيين في معلوماتهم وبصيرتهم، على درجة راسخة، متمكّنة، ثابتة، من الوعي والبصيرة، مع ذلك هم لا يغترون بأنفسهم، ولا يتكِّلون في ذلك على أنفسهم، لا يزال لديهم حالة الخوف من الزيغ، ولذلك علَّمنا الله دعاءهم في القرآن الكريم: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ، إذ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أنت الْوهَّـاب}[آل عمران: الآية8]، هذا من أهم الأدعية، وَإذَا دعوت به، فادعُ الله به من واقع الشعور بالحاجة، من واقع الادراك لأهميّة هذه المسألة، من واقع الحذر من هذا الخطر، خطر الزيغ؛ لأَنَّه يحصل للكثير من الناس، يحصل لهم أن يزيغوا، فحتى لا تزيغ كما زاغوا التجئ إلى الله.
من ضمن الأدعية أيضاً: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ}[البقرة: من الآية286]، ربِّ لا تحملنا حتى في الاختبارات العملية، حتى في المواقف التي نواجهها، ما لا طاقة لنا به، فيكون لذلك تأثير علينا في التزامنا، في عملنا، في اهتمامنا.
دعاء بحسن الخاتمة أَيْـضاً والتوفيق وحسن الخاتمة، وألَّا يكلك الله إلى نفسك: ((اللهم لا تكلني إلى نفسي، ولا إلى غيرك طرفة عينٍ أبداً))، من الأدعية المأثورة عن النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” أنه كان يدعو الله ألَّا يكله إلى نفسه، أنت هنا تطلب من الله أن يمنحك هو الرعاية الدائمة، أن يحفظ لك إيمانك، ثباتك على موقف الحق؛ حتى لا تتغير بأي بشيءٍ من المؤثرات التي تغيِّر الآخرين.
من أهم الأمور التي يجبُ أن تكونَ محطَّ اهتمام الإنسان:
ترسيخ حالة العبودية لله تعالى: تُرَسِّخ دائماً في نفسك أنك عبدٌ لله، أن ترسخ دائماً في نفسك ما يعنيه قولك: (رَبُّنَا اللَّهُ)؛ لأَنَّ الإنسان إذَا لم يُرَسِّخ هذه الحالة بشكلٍ مُستمرّ، ينسى أنه عبد، عبد لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، فيتحول إلى طاغية، إلى طاغية، هذه حالة خطيرة جِـدًّا.
والتسليم لأمر الله: هذا مقتضى العبودية لله، أن تكون مُسَلِّماً لأمره، حتى في الأشياء التي لا تطابق هوى نفسك، لا تنسجم مع رغباتك، لا تكون رغباتك وأهواء نفسك هي معيارك في التعامل مع الأمور.
وأن تسعى دائماً لابتغاء مرضاة الله: يكون هدفك الرئيسي، ليس المنصب، ليس المقام، ليست السمعة، ليس المال، ليست الأهواء، هي ما تبتغيه، وتقدم ما تعمله في سبيل الله؛ مِن أجلِه؛ لأَنَّه لم يعد في سبيل الله، أصبح في سبيل النفس؛ مِن أجلِ هوى النفس، فابتغ مرضاة الله على الدوام.
وأن تعتبر المِنَّةَ لله عليك في كُـلّ نجاح: أن تنظر إلى نفسك أنه لولا توفيق الله لك، لولا مِنَّة الله عليك، لما تمكّنت من أي نجاح، في أي عملٍ تنجح في أدائه، أَو في أي موقفٍ تتوفق لأن تقفه من مواقف الحق، تذكر هذه نعمةٌ من الله عليك.
الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” وصف فيما وصف به عباده المؤمنين، المتقين، المجاهدين، المستقيمين، بقوله تعالى: {الْحَامِدُونَ}، {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ}[التوبة: من الآية112]، هم يحمدون الله على الدوام، ويعتقدون أن الفضل لله، والمنة لله، والحمد لله، هو الذي يثنى عليه، عند كُـلّ نجاح، تجاه كُـلّ نجاح، تجاه كُـلّ ما منَّ به عليهم، كُـلّ ما منَّ به عليهم يعتبرون الفضل فيه له، وهذه مسألة مهمة جِـدًّا.
من أهم ما تحتاجُ إليه من عوامل الاستقامة والثبات: الصلة الوثيقة بهدى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، مع الأخذ بأسباب الهداية:
هذه مسألة مهمة جِـدًّا؛ لأَنَّ البعض أَيْـضاً يتأثرون بالدعايات، بالشبهات، بالتشكيكات، بالحملات الدعائية، بالحملات التضليلية، مع قصورٍ في وعيهم، مع عدم استيعابهم لما يفنِّد تلك الشبهات؛ فبالتالي يتأثرون من ذلك، ويكون سبباً لاعوجاجهم.
وأيضاً في هدى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” ما يزودنا الوعي، والبصيرة، والمعرفة، والفهم الصحيح من جانب؛ فلا نتأثر بأي دعايات، ولا بأي حملات تضليلية، ولا بأي شبهات، وفيه ما له الأثر النفسي التربوي، وفيه ما فيه البصيرة في العمل، فله أهميته كعاملٍ رئيسيٍّ من العوامل الأَسَاسية في الثبات على الحق، حتى في العشق للحق، في القناعة بالحق، في الاطمئنان إلى الحق الذي أنت عليه؛ وبالتالي في قوة الموقف وقوة الثبات، ومع الأخذ بأسباب الهداية الله يزيد من هدايته، {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى}[محمد: من الآية17].
أيضاً في مسألة الروح المعطاءة:
عندما تحمل روحيةً معطاءة، فأنت تعطي، أنت تفكر بما تقدم، وما تعمل، وما تعطي، وما تنفق، وتتخلص من الروح الجشعة الطامعة، هذا أَيْـضاً مما يساعد على الاستقامة، ولهذا قال الله في مسألة الإنفاق: {وَتَثْبِيتًا مِنْ أنفسهِمْ}[البقرة: من الآية265]؛ لأَنَّ له أثره العظيم في مسألة الثبات، والتثبيت للنفس على الحق.
مما ينبغي أَيْـضاً العنايةُ به من العوامل المساعدة على الاستقامة: الحفاظُ على الإخلاص لله:
الإنسانُ قد ينطلقُ في مراحلَ معينة بإخلاص لله، همه رضوان الله، وهمه أن يتقبل الله منه عمله، إلى مراحل معينة، ثم يتأثر إخلاصه، كما أشرنا سابقًا في الآفات والعوامل السلبية، التي تنحرف بالإنسان، يتجه إلى اهتمامات أُخرى، رغبات، أَو تمحور حول الذات، أَو أياً من ذلك.
ولذلك يحتاجُ الإخلاصَ لله إلى حماية، إلى محافظة، إلى استمرارية، أن يبقى دائماً في كُـلّ المراحل همك هو مرضاة الله تعالى، أن يرضى عنك، أن يتقبل منك عملك، ما تريده، تريده منه، تريد الخير، تريده منه، تريد العزة، تريدها منه هو “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، هو الذي يعطي العزة، بيده الخير كله، فلا تتوجّـه آمالك ورغباتك إلى الناس من خلال ما تعمل، هذا له تأثيره السيئ جِـدًّا.
الحفاظُ على الإخلاص لله، والذوبانُ في طاعته، والحذرُ من تغير الوجهة، تبقى وجهتُك نحو الله، (رَبُّنَا اللَّهُ)، اتّجاهي إليه، إذَا تغيَّرت الوجهة، أصبحت منصباً، مطمعاً، مكانةً، رغبات معينة، مواقع معينة… بأي عنوان، فهذه حالةٌ خطيرة قد تنحرف بك.
من أهم ما يفيد هو: السعيُ للارتقاء الإيماني، وتزكية النفس، ومحاسبتها، وتقييم النفس والعمل:
هذه مسألة مهمة جِـدًّا، أن يسعى الإنسان بشكلٍ مُستمرّ للارتقاء لأن يزداد إيماناً، أن يزداد وعياً، أن يزداد زكاءً، لا يجمد عند مستوى معين، الجمود عند مستوى معين ترى فيه أنك لم تعد بحاجة إلى المزيد من الوعي، ولا إلى المزيد من الهدى، أصبحت في نظرك واعياً بما فيه الكفاية، وَإذَا أراد الآخرون أن يُذَكِّروك، فهذا بالنسبة لك أمرٌ لا حاجة له، وإنما هو مزيدٌ من الإزعاج، فتعتبر هذا إزعاجاً لك؛ لأَنَّك لست بحاجةً إلى ذلك، لا تتفاعل، لا تبادر، لا تحرص أنت على أن تسمع المزيد من هدى الله، من الذكرى، أن تستفيد أكثر، أن تتجه إلى واقعك العملي والسلوكي لتصلحه أكثر.
فالإنسان إذَا لم يتجه نحو الارتقاء، وجَمَد عند مستوى معين، تبدأ حالة الجمود هذه بالتأثير السلبي عليه، ثم يزداد التأثير السيئ عليه شيئاً فشيئاً حتى يتغير؛ لأَنَّه ينحدر، يتجه نحو الأسفل، بدلاً من الصعود، نحو الهبوط، في مستوى وعيه، في مستوى إيمانه، في مستوى التزامه، في مستوى تفاعله… في غير ذلك، وهي حالة خطيرة جِـدًّا.
أيضاً العناية بمحاسبة النفس، هذه مسألة مهمة أن الإنسان ينظر إلى واقع نفسه، يقيِّم عمله، يحاول أن يكتشف جوانب القصور لديه، ويحاول أن يقيِّم ما يعمل، بروحٍ نصوحةٍ، روحيةٍ متجهةٍ بكل رغبة إلى أن يكتشف كُـلّ جوانب القصور لديه ليعالجها، هذه مسألة مهمة، {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}[الحشر: من الآية18]، هذا هو مستقبلك، عملك يترتب عليه مصيرك، يترتب عليه علاقتك بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، فلتكن حريصاً على ذلك أنت.
من أهم ما ينبغي في العوامل المساعدة على الاستقامة، من أهم ما ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار، هو: الحذرُ من خطوات الشيطان:
أن يكون الإنسان حذراً من الشيطان، ومن خطوات الشيطان؛ لأَنَّ التكتيك والأُسلُـوب الذي يعتمد عليه الشيطان هو الخطوات، الذي يستدرجك نحوها شيئاً فشيئاً، حتى يوقعك في العظائم، في الكبائر، في المزالق الخطرة جِـدًّا، فالإنسان إذَا عرف أن ذلك من أساليب الشيطان، فلا يسهِّل لنفسه، لا يستهتر ويتهاون شيئاً فشيئاً، فهذه مسألة خطيرة جِـدًّا.
والشيطان (إبليس) نفسه هو أول مثالٍ للانحراف عن خط الاستقامة، أول من انحرف عن خط الاستقامة، كان في صفوف الملائكة، وكان يعبد الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ولكنه كان يحمل غِشاً في نفسه، يحتفظ بغشٍ في نفسه، كانت تتعاظم عنده نفسه مع كُـلّ ما يعمل، كلما عمل أكثر؛ عظمت نفسه في نفسه، ولم يعظم الله في نفسه، لم ير التوفيق لله في ذلك، تعاظمه في نفسه جعله متكبراً، وحين أتاه الاختبار؛ سقط في الاختبار سقوطاً رهيباً جِـدًّا، وخطيراً جِـدًّا، فالشيطان يستخدم أُسلُـوب الاستدراج للإنسان من خلال خطوات.
أيضاً من المسائل المهمة: أن يفهمَ الإنسانُ مسألةَ الاختبار والفتنة:
أنك في هذه الحياة، وفي ميدان العمل، في ميدان اختبار، تختبر في مدى انتمائك، مصداقيتك، ثباتك، فالمسألة مسألة مهمة، أنت ستختبر مثلاً تجاه كُـلّ الأمور، كيف أنت في حال الرضا، كيف أنت في حال السخط، كيف أنت تجاه الرغبات، كيف أنت تجاه الأهواء، تأتي اختبارات، الإنسان إذَا كان ملتجئاً إلى الله، ومتنبهاً، ومستعيناً بالله، يجتاز تلك الاختبارات بنجاح، وبتوفيق عظيم من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.
من أهم الأمور التي يحتاج إليها الإنسان ومن أَسَاسياتها: الصبر:
الصبر شيءٌ أَسَاسيٌّ جِـدًّا للاستقامة، لمواصلة المشوار، لمواصلة الطريق، للالتزام المُستمرّ، يحتاج الإنسان إلى الصبر في كُـلّ الحالات، الصبر في حالات الغضب، الصبر في حالات الرضا، في حالات… أمام الشهوات والرغبات والإغراءات، والصبر أَيْـضاً أمام المخاوف والتحديات والأخطار وضغوطها، في كُـلّ الأحوال يحتاج الإنسان إلى الصبر، ولهذا يأتي في القرآن الحث المتكرّر على الصبر: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[الأنفال: من الآية46]، {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}[آل عمران: من الآية146]، {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[الزمر: من الآية10]، الصبر شيءٌ أَسَاسيٌّ لا بُـدَّ منه، ويستعين الإنسان بالله في ذلك، {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ}[النحل: من الآية127]، {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا}[الأعراف: من الآية126].
من أهم الأمور التي يجبُ أن يستشعرها الإنسان بشكلٍ مُستمرّ، هي: قصورُه وتقصيرُه:
أن يستشعر على الدوام أنه مهما عمل، مهما قدَّم، لا يزال مقصِّراً بجانب حق الله عليه، وبجانب الواقع نفسه، مستوى أداء المسؤولية، لا يزال الإنسان قاصراً مهما بلغ، مهما أَدَّى، مهما عمل، وأنَّ الفضل لله عليه في ذلك؛ وبالتالي إذَا وفِّق، يعتبر الفضل لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” فيما وفَّقه إليه، ويعتبر نفسه مقصِّراً، يرجو من الله أن يغفر له تجاه تقصيره.
هنا درسٌ عظيمٌ جِـدًّا، درسٌ كبير فيما وجَّه الله به نبيه، وسيِّد رسله محمد “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”، رسول الله محمد أمره الله بالاستغفار كَثيراً، وتكرّر ذلك في القرآن الكريم، ومن ضمن ذلك قوله له: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}[النصر: 1-3]، في ذروة الإنجاز، في قمة الإنجاز: النصر، والفتح، ودخول الناس في دين الله أفواجا، قال له: سبِّح بحمد ربك واستغفره، سبح بحمده، لا تسبح بحمد نفسك.
الإنسان عند أن ينجز عملاً معيناً، أَو يحقّق نتائج معينة، أكثر الناس في مثل تلك الحالة يسبحون بحمد أنفسهم، على مستوى الاستغراق في التفكير، يجلس يفكر عن نفسه، أنه إنسان ناجح، أنه إنسان عظيم، أنه إنسان مهم، أنه… معجب بنفسه، هواجسه، تفكيره حول ذلك، مشاعره حول ذلك، ويفكر كيف الآخرون؟ هل سيثنون عليه الثناءات الكبيرة؟ هل سيطبلون له، ويمجِّدونه، ويعظِّمونه على ذلك، أم أنهم مقصِّرون في ذلك، أَو غير مهتمين بذلك، فهذا يعود إلى حسدهم، أَو حقدهم… أَو غير ذلك؟!
الإنسان عند كُـلّ إنجاز ليحذر من الاستغراق -وعند كُـلّ نجاح، وعند كُـلّ موقفٍ عظيمٍ يقفه- من الاستغراق في التسبيح بحمد بنفسه، بل يتجه إلى الله، يعتبر الفضل لله عليه، المنَّة لله عليه، أنَّ صاحب التوفيق الحقيقي هو الله، هو الذي وفَّقه، لولا توفيقه، لكان لا شيء، لما نجح بشيء، لما أنجز شيئاً؛ وبالتالي يتوجّـه نحو الله، يستغرق على مستوى التفكير في ذلك، وعلى مستوى الذكر، يسبح الله ويحمده، ويطلب من الله المغفرة على ما لا يزال لديه من جوانب والقصور والتقصير.
هذه المشاعر الإيمانية الراقية العظيمة، تحمي الإنسان من الغرور، تحميه من العجب، تحميه من الكبر، تحميه من التمحور حول الذات، وهي من أهم الأمور، من أهم الأمور التي يحتاج إليها الإنسان، ومسألة مهمة يغفل عنها الكثير من الناس، هذا فيما يتعلق بالإنسان على المستوى الشخصي.
على المستوى الجماعي: أُمَّـة معينة تنطلق على أَسَاس الاستقامة في العبودية لله، ووفق هديه وأمره، كما أمر، لا بُـدَّ أن يسود فيما بينها التواصي بالحق، والتواصي بالصبر، هذه مسألة مهمة جِـدًّا، مما يساعد على الاستقامة، وأن يتعوَّد الناس فيما بينهم على التواصي بالحق، وعلى عدم الغضب منه.
للأسف الشديد، للأسف الشديد، الكثير من الناس يُغضِبُه أن يُوصَى بالحق، أن ينصح بالحق، حتى مع التزام الآداب، حتى مع التزام الكلام الطبيعي، حتى بدون استفزاز، بمُجَـرّد أن ينصح، أَو يُوصَى بالحق، وبالذات من هم في مواقع مسؤولية، من أصبحوا تطلق عليهم ألقاب وأسماء في مواقع مسؤولية معينة، يصبحون هم الأكثر غضباً، انفعالاً، استياءً، عقداً ممن يوصيهم بالحق، أَو ينصحهم بالحق، مهما كان أدبه، مهما كان احترامه، مهما كانت عباراته عبارات فيها التذكير بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ليست جارحة، لكنها ناصحة، فالكثير يغضبون من ذلك.
يجب يجب ويجب -لو نقولها مِئةً مرةً لكان قليلاً- أن يتخلَّصَ الإنسانُ من مثل هذه العقدة: عقدة الغضب، الانفعال، الاستياء ممن يوصيه بالحق، ممن ينصحه بالحق، ممن ينبهه على جوانب معينة من القصور، ومن هم في مواقع المسؤولية، مهما بلغت مراتبهم، مسمياتهم، مواقعهم، فهم أكثر حاجةً إلى أن يُوصَوا بالحق، وأن يقبلوا بالتواصي بالحق، وأن يبتعدوا عن الأنفة والكبر تجاه ذلك، هذه حالة سيئة جِـدًّا، استياء الإنسان وغضبه الشديد عندما يُوصَى بالحق، نفسية سيئة جِـدًّا، لا يجوز أن تبقى لدى الإنسان نهائيًّا.
التناصح كذلك مسألة مهمة جِـدًّا، التناصح وفق آدابه، بالتذكير الأخوي، بتجنب الكلام الجارح، والكلام المسيء، والأُسلُـوب الاستفزازي؛ لأَنَّ الأُسلُـوب الاستفزازي يُفهَم منه التوبيخ، الإهانة، أكثر مما يُفهَم منه النصيحة، أكثر مما يُفهَم منه التواصي بالحق.
أيضاً من أهم الأمور: التعاوُنُ على البر والتقوى:
على المستوى الجماعي مما يفيد ويساعد الناس على التزام الاستقامة في طريق الحق، وفق هدي الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ووفق أمره، هو: أن يتعاونوا، يتعاونوا على البر، على ما فيه بِرٌّ وهو بر، وعلى ما هو تقوى، هذا يساعدهم، التعاوُنُ فيه بركة، وثمرتُه عظيمة.
نكتفي بهذا المقدارِ..
نَسْأَلُ اللهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَنْ يوفِّقَنا وإيِّاكم لما يُرْضِيه عنا، وأَنْ يرحَمَ شهداءَنا الأبرارَ، وَأَنْ يشفيَ جرحانا، وَأَنْ يفرِّجَ عن أسرانا، وَأَنْ ينصُرَنا بنصره، إِنَّهُ سَمِيْعُ الدُّعَاءِ.
وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه.