انطلاق أولى “رحلات الهُدنة”: سقوط كُـلّ ذرائع الحصار الجوي
المسيرة | ضرار الطيب
متأخِّرَةً شهراً ونصفَ شهر عن موعدِها؛ بسَببِ تعنت تحالف العدوان، انطلقت أولى رحلات اتّفاقِ الهُدنة، الاثنين، من مطار صنعاء الدولي إلى الأردن، في حدث استثنائي عكس بوضوح فاعلية خيارات الصمود في انتزاع الحقوق المشروعة للشعب اليمني، بالنظر إلى حجم إصرار العدوّ على إغلاق المطار منذ أكثر من ست سنوات، غير أنه لم يعكس بعد “جدية” تحالف العدوان في التوقف عن استخدام الملف الإنساني كورقة ابتزاز، والتوجّـه نحو السلام الفعلي، إذ لا زال عليه تعويض رحلات الفترة الفائتة من عمر الاتّفاق والتوقف عن افتعال العراقيل، وإلا ستبقى “المراوغة” هي العنوان الرئيسي لسلوكه، وهو ما قد ينسف الاتّفاق تماماً.
الرحلة التجارية التي انطلقت صباح الاثنين، من مطار صنعاء الدولي، حملت على متنها 151 مسافراً معظمهم من المرضى الذين كانوا ينتظرون هذا اليوم منذ سنوات، وقد وصلوا مباشرة إلى مطار الملكة علياء في العاصمة الأردنية، لتعود الطائرة بعد ذلك إلى صنعاء حاملة عدد من العالقين في الخارج.
رحلة مثّلت اختراقاً نوعياً لحاجز التعنت الذي تمترس وراءه العدوّ فيما يخص مطار صنعاء بالذات، وليس فقط منذ بداية الهُدنة، بل منذ إغلاق المطار قبل أكثر من ست سنوات، حَيثُ أصر تحالف العدوان طيلة هذه الفترة على استخدام المطار كورقة ابتزاز وضغط للحصول على مكاسبَ عسكرية وسياسية، ولم يكن ليتزحزح عن ذلك لولا معادلات الحرب والسلام التي فرضتها صنعاء والتي أجبرته على اللجوء إلى اتّفاق الهُدنة الذي تضمن فتح المطار بشكل جزئي.
وبالتالي فقد ترجمت هذه الرحلةُ بوضوح فاعلية خيارات الردع الوطنية ونجاحها في انتزاع المستحقات الإنسانية للشعب اليمني وكسر الحصار المفروض عليه، الأمر الذي مثل بدوره رسالة واضحة للعدو بأن التعنُّتَ لن يفيدَه في المرحلة القادمة؛ لأَنَّ تلك الخيارات قابلة للتصاعد، وهي رسالة كانت صنعاء قد وجهتها على لسان نائب وزير خارجيتها، حسين العزي، قبل أَيَّـام، بشكل صريح.
من جهة أُخرى، فقد نسفت هذه الرحلةُ كُـلَّ الذرائع والدعايات التي عمل تحالف العدوان ومرتزِقته على ترويجها منذ سنوات لتبرير إغلاق المطار، بدءاً من مزاعم “استخدام المطار لأغراض عسكرية” ومُرورًا بمزاعم “رفض صنعاء لفتح المطار” ودعايات “عدم جهوزية المطار” وُصُـولاً إلى ذريعة “الجوازات”، حَيثُ بات واضحًا الآن وبشكل كامل أن ما كان يعرقل فتح المطار هو تعنت تحالف العدوان وإصراره على حصار اليمنيين واستغلال معاناتهم لتحقيق مكاسب عسكرية وسياسية.
إدارة مطار صنعاء أكّـدت على أن الرحلات التجارية ستنتظم خلال ما تبقى من فترة الهُدنة “إذا لم تتم عرقلتها من قبل تحالف العدوان”، غير أن التساؤلات كثيرة حول هذا الأمر، فالهُدنة على مسافة أسبوعين من نهايتها، وإن تم الالتزام بالرحلتين الأسبوعيتين اللتين نص عليهما الاتّفاق، فهذا يعني تسيير 4- 6 رحلات فقط، (علماً بأنه لا توجد حتى الآن أية أنباء عن الرحلات التي يفترض أن تتوجّـه إلى مصر) فيما يبقى مصير رحلات الأسابيع الفائتة من عمر الهُدنة مجهولاً.
وفي هذا السياق، قال مدير مطار صنعاء، خالد الشايف، للمسيرة إنه تمت مطالبة الأمم المتحدة بتعويض الرحلات التي كان من المقرّر تسييرها خلال الأسابيع الماضية، وهو الأمر الذي كانت صنعاء قد طالبت به قبل أَيَّـام لـ”إنقاذ” الاتّفاق الذي يشارف على الانتهاء، وإثبات حسن النوايا من جانب تحالف العدوان.
وقال نائب وزير الخارجية، حسين العزي: من المفترض تسيير رحلتين يوميًّا خلال ما تبقى من فترة الهُدنة، وأضاف: “نأمل سرعة الوفاء بذلك وعدم العودة لسلوكيات الإعاقة والعرقلة”.
لكن سلوك تحالف العدوان والأمم المتحدة لا يبشر حتى الآن بتنفيذ ذلك، إذ يرى معظمُ المراقبين أن السماحَ بتسيير الرحلات الجوية في هذا التوقيت يأتي ضمن استراتيجية المراوغة التي يطبقها تحالف العدوان منذ بداية الهُدنة، حَيثُ يحاول الآن أن يغطي على تعنته ويقدم مؤشرات إيجابية محدودة على أمل تلميع صورته وخلق جو لتمديد الهُدنة التي بات واضحًا أنه يتعامل معها فقط كفرصة لتجنب ضربات الردع اليمنية وكسب الوقت لترتيب صفوفه وهندسة تصعيد جديد وفوضى داخلية بحسب ما أكّـد عضو الوفد الوطني عبد الملك العجري هذا الأسبوع.
والحقيقة أن السماح بتسيير بعض الرحلات قبل نهاية الهُدنة كان أمراً متوقعاً من هذه الزاوية وليس جديدًا.
لكن تشديدَ صنعاء على تعويض الرحلات الفائتة يضيق خيارات هذه المراوغة على تحالف العدوان، ويوجه له رسالة واضحة بأن “الخدعة” لن تنطليَ على صنعاء، بل إنها ستكون “مخاطرة” كبيرة من جانبه؛ لأَنَّها قد تنسف الاتّفاق تماماً وهو ما يعني احتدام المواجهة مجدّدًا.
هذا ما أكّـده بصراحة نائب وزير الخارجية الذي أضاف أن “أي تعطيل أَو إعاقة من جانب تحالف العدوان قد يعني العودة للحرب وهذا أمرٌ لا ينبغي أن يحدُثَ أَو يسمح أي عاقل بحدوثه”.
كالعادة، لا تطلق صنعاء أحكاماً مسبقة، بل تترك الباب مفتوحاً أمام تحالف العدوان لإنجاح فرص السلام حتى آخر لحظة، لكن سلوك تحالف العدوان والأمم المتحدة منذ بداية الهُدنة، لا ينطوي على مؤشر إيجابي واحد يمكن أن تبنى عليه أية احتمالات معتبرة لـ “نجاح” الهُدنة بالشكل المطلوب.
والحقيقة أن الحديث عن “انفراجة” فعلية في الاتّفاق لا يزال في معظمه متأثراً بـ”آمال” وتطلعات، لا بمعطيات واقعية، فتحالف العدوان كان يستطيع وبكل بساطة أن يسمح بتسيير الرحلات الجوية منذ الأسبوع الأول للهُدنة، وقد بات واضحًا أن كُـلّ الذرائع التي استُند إليها لتبرير منع الرحلات وتأخيرها كان غرضها التعنت فقط، وبالتالي فالسماح بالرحلات الآن ليس أمراً عفوياً وهو أقرب إلى حركة إضافية في مسار المراوغة منه إلى “توجّـه إيجابي” حقيقي، ورفض تعويض الرحلات الجوية الفائتة من شأنه أن يشكل دليلاً واضحًا على ذلك.
وبالنظر إلى تجارب مشابهة سابقة، من المرجح أن يحاولَ تحالُفَ العدوان والأممُ المتحدة استغلالَ الرحلات القليلة التي قد يتم السماح بها خلال الأيّام القادمة وإبرازها كدلائل على “التزامهم” بالاتّفاق، والتغطية على سلوكيات التعنت التي شهدتها الفترة الماضية، وهو ما سيمثل قاعدة للضغط على صنعاء ومحاولة دفعها للتنازل عن تعويض الرحلات التي تم منعها، أَو القبول بتمديد التهدئة وفقاً لرغبات تحالف العدوان الذي يبدو أنه لا يتعلم من أخطائه أبداً.