الدريهمي.. ملحمةُ الصمود .. بقلم/ محمد علي أبو مصطفى
يتملَّكُكَ الذهولُ وتغرورقُ عيناك وأنت تشاهدُ المواقفَ الملحمية والصبر الأُسطوري الذي سطّره رجال الله وأحباؤه في الدريهمي، صبرٌ أُسطوري منقطع النضير، وإرادَة تتجاوز المتوقع والمعقول، وكأنك -وأنت تتابع مشاهد الوثائقي الخاص بالحصار- كأنك تعيشُ مع شخصياتٍ أعدها الله له خصيصاً، إن وصفتهم بالملائكة فهذا تزهيدٌ في حقهم، فالملائكةُ رغم عظم أمرهم وعلو مرتبتهم مهمتهم محدودة، التثبيت والدعم المعنوي، لكن هؤلاء النسخة من الملائكة مهامهم أرقى بكثير، فهم يثبتون المؤمنين ويتجاوزون محنة الحصار والضروف الاستثنائية، ويقتحمون مواقع الأعداء، ويغتنمون، ويسطرون الملاحمَ البطولية، أنت أمام نسخة راقية جِـدًّا من الربيون الذين ذكرهم الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم، الإرادَة الفولاذية والعزيمة القوية والنفوس الصلبة التي يحملونها ناتجة عن ارتباط وثيق وعميق وقوي بالله سبحانه وتعالى فهم يستقون كُـلّ حركاتهم ومواقفهم من الله رأساً… الصبر على الحصار وانقطاع الإمدَاد العسكري بل وحتى المؤن الغذائية شيءٌ ملفت وعظيم، لكن أن تصبر على تلك الظروف وتصدّ زحوفات الأعداء في نفس الوقت فهذه المعجزة، بل والأكبر من ذلك أن تقتحم مواقع الأعداء وتسطر أروع الملاحم البطولية وتغنم من مواقع الأعداء المؤن والعتاد.
الروحية العالية والاهتمام بأمر المستضعفين والمحاصرين من أبناء الدريهمي بدأ واضحًا في روحيات أُولئك الثلة المؤمنة، وانعكس ذلك من خلال ردة فعل المحاصرين وانطباعاتهم عن أُولئك الربيون، فكما اقتسموا الصبر والمعانات وظروف الحصار جميعاً، كانوا يقتسمون حتى لقمة الخبز الواحدة وبروحية إيثارٍ وإحسانٍ منقطعِ النظير.
من يلاحظ مستوى الطمأنينة والسكينة والتماسك النفسي الذي بدأ واضحًا على مشاعر ونفسيات تلك الثلة المؤمنة من المرابطين في مديرية الدريهمي يدرك مدى العون والرعاية والإمدَاد المعنوي الإلهي الذي كانوا يحظون به، ويدرك مدى النفسيات الراقية والعالية والهمة والقوية الإرادَة وبعيدة الغاية، حتى أنك وأنت تشاهد فصول الوثائقي، وبعد عملية كسر الحصار عن المدينة، تلاحظ العديد من المرابطين في المدينة ليسوا حول أن يغادروا المدينة -خَاصَّة بعد طلب المجاهدين الذين وصلوا حديثاً إلى المدينة- حيث طلبوا من كُـلّ من كان مرابطاً داخل المدينة المغادرة وهم سيقومون بالدور، وهذا هو الشيء الطبيعي أن يفكر المحاصر المرابط منذ سنتين وبضعة أشهر بالمغادرة خَاصَّة وهناك من سيغطي بعده، إلا أنك تلاحظ أن هؤلاء المحاصرين المرهقين المنهكين من السهر والزحوفات المتتالية ليسوا حول أن يغادروا، همتهم أرقى من ذلك بكثير، إنهم يتحدثون ويرتبون لبقية فصول العملية، ويرتبون لتطهير المنطقة بالكامل.
إنهم فعلاً لمدرسة وإنهم لنموذجٍ قل أن ترى مثله منذ بزوغ فجر الإسلام إلى اليوم، وإنهم فعلاً للنموذج الذي يجب أن يحتذى به في ميادين البطولة والاستبسال، وإن كُـلّ حركاتهم وسكناتهم وهمساتهم وتسبيحاتهم ومواقفهم وعزائمهم يجب أن تدرس في أرقى الأكاديميات العسكرية العالمية، بل يجب أن يحتفظ ببياداتهم وأحذيتهم التي كانوا ينتعلونها في المتحف الحربي، وتكون مزاراً نستلهم منه أرقى معاني العزة والكرامة والصبر والصمود والإرادَة الإيمَانية التي لا تلين ولا تنكسر.
سلامٌ عليهم وسلامٌ على أُمهات أنجبن مثلهم، وسلامٌ على ثقافةٍ ربَّت مثلهم، وهنيئاً لأمةٍ هؤلاء قادتها وسندها ورجالها.