مؤشراتُ المعركة الثقافية القادمة .. بقلم/ عبدالرحمن مراد
يكتشف المرء من خلال كثافة الخطاب الإعلامي للمرتزِقة أن اليمن كادت أن تكون مدينة في نظرهم ليس أكثر من ذلك، فهم يتحدثون عن الأممية فيضيق بهم الحال حتى تنزوي في فرد أَو جماعة، ويتحدثون عن القومية حتى يضيق بهم الحال فتكون القومية قرية، ويتحدثون عن تمايز طبقي وقضايا إنسانية كبرى فيخذلهم الخطاب، إذ لا يكاد يتجاوز الشلل والجماعات.
كل مفردات الخطاب التي كانت تبرز خلال فترة الهُدنة أَو قبلها كادت تنتمي إلى حقل دلالي واحد لا يتجاوز حقل التمايز والطبقية والمناطقية والطائفية، فاليمن ما يكاد أحد يتحدث عن جوعه وحصاره ولكنهم يتحدثون عن مدينة أَو قرية، ويغضون الطرف عن العدوّ الخارجي الذي خطط وقتل وجوع وحاصر الناس وبث فيهم روح الكراهية والعداوات ولا يرون إلا من ترغب أهواءهم أن يرونه عدواً ولو لم يكن عدواً، الكثير من فقاعات هذا الزمن التبس لديهم مفهوم الوطن والوطنية ومفهوم العمالة، يتحدثون في كتاباتهم وفي الفضائيات عن الوطن فلا يكاد يتجاوز القرية، ويتحدثون عن الوطنية ووطنيتهم تتجاوز اليمن إلى السعوديّة والإمارات، ويتحدثون عن العمالة ومفهومها عندهم لا يكاد يتجاوز الانتماء إلى اليمن وإلى صنعاء فمن كان منتمياً إلى صنعاء فهو عميل لصنعاء، ومن كان منتمياً إلى التحالف الذي دمّـر اليمن وعاث فيها فساداً وصادر ثرواتها وأحتل أرضها وعبث في قرارها وسيادتها واستقلالها فهو وطني محض وهذا معيار لم يتعارف عليه البشر من قبل لكنه معيار اخترعته بوهيمية الإخوان فسار عليه المرتزِقة الذين فقدوا بوصلة الطريق، فالتقدمي الطلائعي أصبح شراكاً في نعل الرجعي، والقوى الثورية التقدمية أصبحت شسعاً في نعال القوى التقليدية السلفية وهكذا التبس المفهوم وضاعت المفاهيم وفقد المصطلح قيمته ومعانيه، وقد حضر المال فضاعت تحت لمعان بريقه كُـلّ المقاييس والمعايير.
مر اليمن في التاريخ المعاصر بما يشبه الحال الذي نحن فيه اليوم وقد كتب رائي اليمن عبد الله البردوني في مطلع السبعينات يقول: ” الوطنية لا تقيل التوسط.. فليس هناك إلا وطنية كاملة أَو لا وطنية، أما من كان نصفه وطني، فلابد أن يكون نصفه الآخر عميلا أَو خائنا، وقد تتغلب نصف العمالة على نصف الوطنية لما للعمالة من أرباح مؤقتة “.
فالمستعمر حين يفكر بغزو بلد ما يبدأ في الاشتغال على المفاهيم والمصطلحات ويقوم بإفراغها من محتواها ومعانيها، ويعمد إلى الهُـوِيَّة فيقوم بتفكيك عراها حتى تتشظى وتتناثر في رمال الوطن المتحَرّكة، فالاشتغال الثقافي للمستعمر يسبق الغزو العسكري حتى يتمكّن من السيطرة على مقاليد الأمور في البلدان، لذلك فحركة الاضطرابات التي سادت المجتمعات خلال العقدين السالفين من الألفية كانت الإيذان بعودة المستعمر، لكن بطرق أكثر ذكاء فهو يأتي حتى يحارب الإرهاب ويجفف منابعه، أَو يأتي دفاعاً عن حقوق الإنسان، أَو لدواعٍ إنسانية حتى يحفظ أمن واستقرار البلدان كما فعل في أفغانستان، فالغزو لم يعد احتلالاً، والمستعمر لم يعد مستعمراً، ولذلك استطاع أن يجد لنفسه غطاء وتخريجاً مناسباً حتى يمارس غواية الاحتلال للبلدان تحت عناوين كبرى ينساق لها الإنسان بغباء مفرط.
ولعل المعركة الثقافية هي أعقد من المعركة العسكرية وأكثرها خطورة، وهي معركة مُستمرّة يمتد جذرها إلى الماضي العميق وهي اليوم في أوج الاشتعال، وقد شهدنا مرحلة، وعشنا تفاصيلها خلال سنوات العدوان، وهي مرحلة كانت نتيجة لمقدمات منطقية سبقتها في الاشتعال الثقافي، واليوم نقرأ مقدمات يشير إليها نشاط توكل كرمان، فهي ترى أن المبدعين والمثقفين يحملون رسالة إيجابية للمجتمع ولذلك بدأت تهتم بهذه الشريحة وتوليها اهتماماً خاصاً، ولا أرى ذلك قناعة شخصية لتوكل بل هو توجّـه تقوم بتنفيذه وفق خطط واستراتيجيات وضعها المستعمر حتى يبلغ غاياته ومقاصده، فحجم الإنفاق التي أنفقته توكل على حفل توقيع ديوان شعر يتجاوز موازنة وزارة الثقافة في الظروف العادية وليس في ظروف العدوان، والسخاء في الإنفاق يشكل بيئة جذب لشريحة المثقفين والأدباء في ظل قسوة الأحوال والظروف التي يعيشها المبدع في اليمن، ولذلك أصبح من الضرورة تفعيل دور المؤسّسة الثقافية الرسمية والمدنية والاشتغال على كُـلّ المستويات حتى نخوض المعركة الثقافية بمختلف الأسلحة وعلى كُـلّ المستويات، ولدينا طاقات فكرية جبارة وكبيرة قادرة على الصناعة والإبداع والابتكار.
التحالف وصل إلى مرحلة اليأس وهو يبحث عن بدائل وقد شرع في الاشتغال عليها، إذ أن كُـلّ المؤشرات تقول ذلك ودلائلها ذات أثر ملحوظ، ومن الحكمة الوقوف أمام مؤشرات الواقع والتمعن في المعطيات والتفاعل مع الواقع بما يحفظ لليمن بريق الانتصار.