قائد الثورة السيد عبدالملك الحوثي في المحاضرة الثالثة من دروس عهد الإمام علي لمالك الأشتر: العدل والرحمة والاهتمام بالعامة وستر المساوئ وتصحيح واقع العمل من أهم أساسيات المسؤولية وبدونها يتوغل الظلم
المحاضرة الثالثة للسيد عبدالملك الحوثي من دروس عهد الإمام علي لمالك الأشتر 1443هـ 2022م..
لا تعتمد في المشورة على الجبان ولا البخيل ولا الطماع لأن جميعَهم سيئو الظن بالله تعالى
عالج كُـلَّ الأحقاد واحرص على أن يكونَ واقعُك العملي صحيحاً سليماً ولا تتعامل مع الناس من واقع نفسي معقَّد
يجب على الإنسان أن يكون منصفاً والإنصاف التزام إنساني وديني وأخلاقي ويرفع من قيمة الإنسان
لا تتوجّـه مسؤولياتك تجاه فئة محدودة من الناس وتترك الباقين والأهم في معيار المسؤولية والعدل هو رضا العامة
التحذيرات كثيرة من الغرور والعجب والكبر وكل المؤثرات النفسية التي تبعد الإنسان عن قيم ومشاعر الرحمة تجاه الناس
الرحمة أهمُّ القيم الإيمانية الإنسانية وأَسَاس مهم جِـدًّا للتعامل بين المؤمنين وفيها تقوم العلاقات بين المجتمع البشري ويجب أن تحضر في كُـلّ سلوكيات الإنسان مع محيطه
عندما يكون الإنسان في موقع المسئولية في أي مجال من مجالات العمل “القضاء، الجيش، وغيرها” فأبكر محذور يحذر منه هو الظلم
وأنت في موقع المسؤولية عليك معالجة ما ظهر من المساوئ والوقوف بحزم تجاهها وأن تستر ما ستر ولا تجعل حولك من الذين يحبون تتبع مساوئ الناس
النمامون الذين يحرصون على نقل ما يستفزك على الآخرين لا تتعجل في تصرفاتك نحوهم
أُعُوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
الحَمْدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ المَـلِكُ الحَـقُّ المُبِيْن، وأشهَدُ أن سَيِّـدَنا مُحَمَّــدًا عَبْـدُه ورَسُــوْلُه خَاتَمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــدٍ وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــدٍ، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إِبْـرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ إِبْـرَاهِيْمَ إنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ.
وارضَ اللَّهُم برِضَاكَ عن أَصْحَابِهِ الأَخْيَارِ المُنْتَجَبين، وعَنْ سَائِرِ عِبَادِك الصَّالحِين وَالمُجَاهِدِيْنَ.
أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالْأَخَـوَاتُ:
السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.
كنا وصلنا في الدرسِ في عِهْدِ الإمام عليٍّ “عَلَيْهِ السَّـلَامُ” إلى مالكٍ الأشتر، إلى الحديثِ عن أُسُسِ العلاقة مع المجتمع، وأولُ عنوانٍ في هذه الأسس كان هو: الرحمة، والرحمة من أهمِّ القيم الإيمَــانية الإنسانية، التي هي أَسَاس للتعامل فيما بين المؤمنين، وأَسَاس مُهِمٌّ جِـدًّا تقوم عليها العلاقات بين المجتمع البشري، ويأتي الحديث عنها في القرآن الكريم حديثاً واسعاً، والله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” هو الرحمن الرحيم، وهو أرحم الراحمين، ولهذا تأتي قيم الرحمة في توجيهاته وفي تعليماته من منطلق رحمته، بل إنَّ كُـلّ توجيهاته وتعليماته وما شرعه لنا هو من منطلق رحمته “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، فالرحمة هي قاعدةٌ أَسَاسيةٌ للتعامل فيما بين أبناء الأُمَّــة.
ولهذا يقولُ اللهُ “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” في القرآن الكريم عن مواصفاتِ المؤمنين المواصفات الأَسَاسية المهمة: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}[الفتح: من الآية29]، ويقولُ “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ}[البلد: من الآية17]، يقول عن نبيه “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}[آل عمران: من الآية159]، قال عنه أيضاً: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}[التوبة: من الآية128]، فالرحمةُ هي من الأُسُسِ المهمةِ التي يقومُ عليها التعامُلُ، تقوم عليها العلاقةُ في واقع المؤمنين، في واقع المجتمع المسلم، وَأَيْـضاً هي في موقع المسؤولية أكّـد، وأكثر أهميّة، ولهذا أتت كعنوانٍ أوليٍّ في مقام التعداد للأسس، أسس العلاقة مع المجتمع من موقع المسؤولية، كيف تكون مشاعر موجودة في وجدان الإنسان، في قلبه، ثم تفيض هذه المشاعر في أدائه العملي، في سلوكياته، في تصرفاته، وأن يحذر، فلا يكون متوحِّشاً في موقعه في المسؤولية، متوحشاً في أُسلُـوبه في التعامل مع الناس؛ لأَنَّه صار في منصب معين، أصبح له سلطة معينة، يكون حذراً من ذلك.
وأتى التحذير بالتالي عن كُـلّ ما يمكن أن يؤثر سلباً على نفسية الإنسان، وعلى مشاعره، فيتحول إلى متوحش، عديم الرحمة، أتى التحذير من الغرور، والعجب، والكبر… وكل المؤثرات النفسية التي تبعد الإنسان عن قيم الرحمة، ومشاعر الرحمة تجاه الناس، والرحمة بقدر ما هي مشاعر تكون مشاعر قوية في وجدان الإنسان؛ إنما لتتجلى أَيْـضاً في سلوكياته، في أعماله، في تصرفاته من خلال اهتمامه بأمر الناس، عنايته بشأنهم، حرصه عليهم ألَّا يظلموا، ألَّا يقهروا، ألَّا يذلوا، ألَّا يضطهدوا، من خلال تألمه على معاناتهم وأوجاعهم، من خلال عفوه وصفحه في تعامله معهم عن كثيرٍ من الأمور التي يمكن فيها العفو والصفح… وهكذا تتجسد في الواقع العملي بشكلٍ واضح.
ثم يقول “عَلَيْهِ السَّـلَامُ”: ((أَنْصِفِ اللَّهَ وَأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ، وَمِنْ خَاصَّة أَهْلِكَ، وَمَنْ لَكَ فِيهِ هَوًى مِنْ رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّكَ إِلَّا تَفْعَلْ تَظْلِمْ، وَمَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللَّهِ كَانَ اللَّهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ، وَمَنْ خَاصَمَهُ اللَّهُ أَدْحَضَ حُجَّتَهُ، وَكَانَ لِلَّهِ حَرْباً حَتَّى يَنْزِعَ وَيَتُوبَ))، مع قيم الرحمة في موقع المسؤولية، هناك أَيْـضاً العدل، نحن مأمورون بإقامة القسط حتى على أنفسنا، مثلما قرأنا في الدرس الأول قول الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” في القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أنفسكُمْ أَو الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَو فَقِيرًا فَاللَّهُ أولى بِهِمَا}[النساء: من الآية135]، فالإنسان في موقع المسؤولية، في منصبه، أَو في سلطته، مهما كان موقعه، مهما كان منصبه، لا بُـدَّ أن يكون منصفاً، يبذل الحق من نفسه، إن صدر منه ظلم، أَو خطأ، أَو تجاوز، أَو إساءة، لا يتكبر ويترفَّع عن الإنصاف، ويأنف من الإنصاف، محتجاً بمنصبه، وأن ذلك سيقلل من أهميته، ومن هيبته، ومن مقامه، ومن منزلته لدى الناس، يجب عليه أن يكون منصفاً، الإنصاف هو التزام إيمَــاني وأخلاقي وإنساني، وله قيمته، التصور بأنه يحط من مكانة الإنسان، أَو من مقام الإنسان، هو تصورٌ خاطئ، من وساوس الشيطان والشياطين: شياطين الإنس والجن، الذين قد يوسوسون للإنسان أن بذله الحق على نفسه ومن نفسه، أَو من أقربائه وخواصه، أَو ممن له بهم علاقة خَاصَّة وارتباط خاص، أنه سيقلل من أهميته ومن مكانته، هذه وساوس شيطانية على الإنسان أن يحذر منها، الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” هو الذي يمنح العزة، وهو الذي يمنحُك أَيْـضاً الوُدَّ في قلوب عباده، ولذلك لا تكترِثُ بوساوس الموسوسين أبداً، احرص على ألَّا تلوِّثَ نفسَك، وألَّا تُحَمِّلَ نفسَك الأوزار، وكُن أحرَصَ الناس على أن تخلِّصَ نفسَك من أي مظلمة، وأن تنصف في أي مقامٍ يتطلب الإنصاف، وأن تبذل الحق، أن تكون حقانياً، إنساناً يبذل الحق على نفسه، من دون تردّد، من دون أنفةٍ ولا كبرياء.
((أَنْصِفِ اللهَ وَأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ، وَمِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ))
لأَنَّ البعضَ من الناس قد يحتمي به خَوَاصُّ أهله، أقرباؤه، أقرباؤه يستندون إليه، يستندون إلى منصبِه، إلى موقعه، إلى سُلطته، إلى نفوذه، فيمارسون الظلمَ بحق الآخرين، أَو عليهم حقوقٌ للآخرين، فيرفضون أن يؤدوا ما عليهم من الحقوق للآخرين، ويمتنعون بالاستناد إليه، إلى موقعه، إلى نفوذه، إلى سلطته، وهو يوفر لهم الحماية، ويؤمِّن لهم الحماية، فيكون شريكاً لهم في ظلمهم.
((وَمَنْ لَكَ فِيهِ هَوىً مِنْ رَعِيَّتِكَ))
من تميل معه وتحبه، له بك ارتباطٌ وعلاقة خَاصَّة، وعلاقة قوية، بأي شكلٍ كانت هذه العلاقة، هي ارتباط استغله ذلك الآخر، استغله في أن يمارس ظلماً بحق الآخرين، أَو أن يغمطَهم من حقوقهم، وأن يرفُضَ أداءَ حقوقهم، بالاستناد إلى حمايتك.
فمسألة الإنصاف مسألةٌ أَسَاسيةٌ ومهمة؛ لأَنَّها من العدل، من أهم ما في العدل الإنصاف.
((فَإِنَّكَ إِلَّا تَفْعَلْ تَظْلِمْ))
البديل عن الإنصاف هو الظلم، إن لم تكن منصفاً، تكن ظلوماً، الظلم مسألة خطيرة جِـدًّا.
((فَإِنَّكَ إِلاَّ تَفْعَلْ تَظْلِمْ، وَمَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللهِ كَانَ اللهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ))
عندما تظلم أحداً من عباد الله، وأنت مستنداً إلى منصبك، إلى سلطتك، إلى نفوذك، وتأمن جانب أُولئك المظلومين، تتصور أنهم لن يقدروا على أن يضروك، أَو أن يأخذوا منك الحق، أَو أن ينصفوا لأنفسهم منك؛ فتكون بالتالي جريئاً عليهم، وتكون غير مبالياً بهم، فأنت قد ورطت نفسك ورطةً عظيمة، ورطةً كبيرة؛ لأَنَّك أصبحت في خصومةٍ مع الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، مع ربك، رب العالمين، مع ملك السماوات والأرض، القوي العزيز، القهار الجبار، وأصبحت في وضعيةٍ خطيرةٍ جِـدًّا؛ لأَنَّك عرَّضت نفسك لغضب الله، لسخط الله، لانتقام الله.
إذا كنت قد أمنت جانب من ظلمته؛ لأَنَّه من المستضعفين، أَو لأنك جريءٌ عليه، فأنت أصبحت في ورطةٍ كبيرة، عرَّضت نفسك للانتقام من الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، سيكون هو الذي يخاصمك، والذي ينتقم منك، ولن تستطيعَ أن تحميَ نفسَك، ولا أن تقي نفسك من انتقامه، من سخطه، من غضبه، من عذابه، حالة خطيرة جِـدًّا على الإنسان.
((وَمَنْ خَاصَمَهُ اللهُ أَدْحَضَ حُجَّتَهُ، وَكَانَ لله حَرْباً، حَتَّى يَنْزعَ وَيَتُوبَ))
من خاصمه اللهُ فلن يستطيعَ أن يفوزَ بالمعركة، ولا أن يقيَ نفسَه من سخط الله، ولا أن يدفعَ عن نفسه عذابَ الله، لا بالمبرّرات التي قد يسوقها ليبرّرَ ما فعله، ليبرّرَ عدمَ إنصافه، ليبرّرَ ممارساتِه الظالمة، لا يمكن لأحدٍ أن يغالِطَ الله، أَو أن يخبئَ الحقيقةَ، ويغطّي على الحقيقة ما بينه وبين الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، الذي هو على كُـلّ شيءٍ شهيد، وهو يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وهو المحيط بكل شيءٍ علماً.
البعضُ من الناس مثلاً قد يستندُ فيما يمارسُه من ظلم وهو في منصب معين، أَو سلطة معينة، إلى التبريراتِ، وإلى الأدلة المزيَّفة، التي يحاولُ أن يقنعَ بها الآخرين، والحُجُجِ الملفقة، التي يسعى من خلالها لتبرير ما فعل، أَو لتبرير امتناعه عن أداء الحق، قد يسوق التبريرات، والحجج الملفقة، والأدلة المزيفة، ولكن لا يمكنك أن تفعل ذلك مع الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، ولا أن تغالطه، هو سيسقط ويبطل ويدحض حجتك وتبريراتك السخيفة، التي تحاول بها أن تغالط، أَو تبرّر.
((وَكَانَ لله حَرْباً))
كنتَ في حربٍ مع الله، أنت العبدُ الضعيفُ العاجزُ تكونُ في خصومة، وأصبحت مشكلتك لم تبقَ مع فلان، أَو فلان، ذلك الإنسان الذي اعتبرته إنساناً بسيطاً، واستهنت به، وكنت جريئاً عليه؛ لأَنَّه مستضعَف، أصبحت مشكلتك مع الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، هذا أمر خطير جِـدًّا على الإنسان، وبقيت في محل المؤاخذة والانتقام الإلهي، كنتَ في حربٍ مع الله ومشكلتك مُستمرّة، أنت مُعَرَّضٌ في كُـلّ لحظة لأن يأتيك الانتقام الإلهي، والعقوبة من الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”.
((حَتَّى يَنْزعَ وَيَتُوبَ))
تقلعُ عن ظلمك، وتتوبُ إلى الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، حتى تتوبَ إليه وتقلعَ عمَّا أنت عليه من الظلم، أَو الاستمرار في الامتناع من أداء الحق.
ولذلك عندما يكونُ الإنسانُ في موقعِ مسؤولية، في منصب، في أي منصب، صاحب سلطة، في أي مجال من مجالات العمل، في القضاء، أَو في الأمن، أَو في الجيش، أَو في الأعمال الإدارية الأُخرى، المتعلقة بحقوق الناس، بشؤونهم، فأكبر محذورٍ يحذر منه هو الظلم، ليكن متنبهاً لذلك، ليكن حريصاً كُـلّ الحرص على أن يقي نفسه، وأن يحافظ على نفسه من التورط في الظلم، فهو أكبر محذور في موقع المسؤولية، الظلم بكل أشكاله: في المجال الأمني، في مجال القضاء، في مجال القضاء الأمر خطير جِـدًّا، البعض من الناس يرتكب مظالم كثيرة من موقعه في القضاء، في أي منصب، في أعمال قد تستغلها للابتزاز المالي، أَو أخذ حقوق الناس، أَو أكل أموالهم بالباطل، أَو أي شكلٍ من أشكال الظلم، ما تنال به الناس في أبدانهم، أَو في حياتهم، أَو في أمنهم، أَو في أموالهم، في حقوقهم، في أعراضهم، المسألة خطيرة جِـدًّا، الظلم خطيرٌ جِـدًّا.
في القرآن الكريم كم فيه من آيات تحذر من الظلم! كم فيه من وعيد للظالمين! الله لعن الظالمين في القرآن الكريم: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}[هود: من الآية18]، معناه: أنه يطردهم من رحمته، كما لعن الشيطان، طرده من رحمته نهائيًّا، وأصبح ملعوناً، مطروداً من رحمة الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، خسيئاً، مدحوراً، مذموماً، الظلم حالة رهيبة جِـدًّا وخطيرة، والوعيد شديد في القرآن الكريم للظالمين.
((وَلَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى إلى تَغْيِيرِ نِعْمَةِ اللَّهِ وَتَعْجِيلِ نِقْمَتِهِ مِنْ إقامة عَلَى ظُلْمٍ، فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ دَعْوَةَ الْمُضْطَهَدِينَ، وَهُوَ لِلظَّالِمِينَ بِالْمِرْصَادِ))
حتى على مستوى العاجل، الظلم عواقبه وخيمةٌ جِـدًّا في الدنيا وفي الآخرة، في الآخرة نار جهنم، قبل ذلك سوء الحساب، ثم نار جهنم والعياذ بالله، وأن تخسر الجنة، أن تخسر رضوان الله، أن تخسر السعادة الأبدية، وتحبط كُـلّ أعمالك الأُخرى، مهما عملت من أعمال أُخرى، وأنت مصرٌّ على ظلم، ومقيمٌ على ظلم، لا يقبل الله منك شيءٌ من أعمالك، لا من صلاتك، ولا من صيامك… ولا أي عملٍ من أعمالك.
ثم إضافة إلى ذلك: العقوبات العاجلة في الدنيا، الظلم كما قال الإمام عليٌّ “عَلَيْهِ السَّـلَامُ” عنه: ((لَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى إلى تَغْيِيرِ نِعْمَةِ اللَّهِ وَتَعْجِيلِ نِقْمَتِهِ مِنْ إقامة عَلَى ظُلْمٍ))، هو أولُ الذنوب وأكبرُ الذنوب في التسريع لزوال النعم، ونزول النقم والعياذ بالله، فالإنسان إذَا كان في نعمة، نعمة العز، نعمة اليسر في ظروفه المعيشية، نعمة المكانة المحترمة، نعمة الأمن، النعم المعنوية والنعم المادية، فالظلم سببٌ لزوال النعم، لأن يسلب الله منك نعمته، أن يغيِّر نعمته عليك؛ بسَببِ استمرارك وإصرارك وإقامتك على الظلم، لم تتخلص، لم تنصف.
وأيضاً التعجيلُ بالنقم، التعجيل بنقم الله، بالعقوبات العاجلة، وهناك دروس عجيبة في التاريخ، في التاريخ المعاصر، والتاريخ الماضي، كيف كانت عاقبة الظالمين، البعض من الظالمين كانوا ملوكاً، أَو كانوا رؤساء، أَو كانوا سلاطين، كانوا في مقام قوة، وتمكين، وسلطة، وقدرة مادية هائلة، ونفوذ كبير، وسيطرة، وجبروت، ومهابة في نفوس الناس، وباستمرارهم على الظلم، وإقامتهم على الظلم، ومبالغتهم في الظلم؛ خسروا كُـلّ شيء، وتغيَّرت كُـلُّ أحوالهم، وأذلهم الله، وأخزاهم الله، وعوجلوا بالعقوبة الإلهية، بالانتقام الإلهي، كم من الملوك، من الزعماء، ممن كانوا يمتلكون قدرات ضخمة، وإمْكَانيات كبيرة، وجيوش جرارة… إلى غير ذلك، وإمْكَانيات مادية كبيرة، ونفوذاً كَبيراً في واقع الناس، ومهابة وأنصاراً، وأحباء… وغير ذلك، خسروا كُـلّ شيء في نهاية المطاف.
((فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ دَعْوَةَ الْمُضْطَهَدِينَ))، الله هو رب الناس، وهو ملكهم، وهو الرحيم بهم، لا يتخلى عن عباده، لا يترك عباده، تتصور أنَّ ذلك الإنسان المستضعف الذي كنت جريئاً عليه؛ لواقعه الضعيف، تتصور أنه إنسان هناك، ليس له من يهتم به، من يدفع عنه ظلمك، إساءتك، امتناعك من أداء الحق، فتكون بذلك جريئاً، ولا مبالياً، ومستهتراً، ومستبسطاً للمسألة، [مَنْ هو]، فلا تكترث به، ولا تأبه لحاله، تكون النتيجة خطيرة جِـدًّا، لا تنتبه أنك أصبحت في مشكلة مع الله، وخصومة مع الله، وأنَّ الله سيؤاخذك وسيعاقبك.
فنجد من القيم المهمة جِـدًّا، ومن أسس التعامل من موقع المسؤولية، إلى جانب الرحمة: العدل، العدل، الرحمة والعدل، من أهم ما في العدل: الإنصاف، بذل الحق، حتى من نفسك، وحتى من أقربائك، وحتى من أصحابك، وحتى ممن ((لَكَ فِيهِ هَوًى)): من تميل معه، من تربطك به علاقات خَاصَّة، ((مِنْ رَعِيَّتِكَ)).
((وَلْيَكُنْ أَحَبَّ الْأُمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ، وَأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ، وَأَجْمَعُهَا لِرِضَى الرَّعِيَّةِ، فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَى الْخَاصَّة، وَإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّة يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَى الْعَامَّةِ، وَلَيْسَ أحد مِنَ الرَّعِيَّةِ أَثْقَلَ عَلَى الْوَالِي مَئُونَةً فِي الرَّخَاءِ، وَأَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِي الْبَلَاءِ، وَأَكْرَهَ لِلْإِنْصَافِ، وَأَسْأَلَ بِالْإِلْحَافِ، وَأَقَلَّ شُكْراً عِنْدَ الْإعطاء، وَأَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ الْمَنْعِ، وَأَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّاتِ الدَّهْرِ مِنْ أهل الْخَاصَّة، وَإِنَّمَا عِمَادُ الدِّينِ، وَجِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ، وَالْعُدَّةُ لِلْأعداء الْعَامَّةُ مِنَ الأُمَّــة، فَلْيَكُنْ صِغْوُكَ لَهُمْ، وَمَيْلُكَ مَعَهُمْ))
في التدبير لشؤون العمل، وأمور الناس، وفي برامج العمل، وسياسات العمل، وخطط العمل، يجب أن يكون ذلك مبنياً على أَسَاس الاهتمام العام، الاهتمام بالناس بشكلٍ عام، بحسب مسؤوليتك، وبمستوى مسؤوليتك، هذا شيءٌ مهم، لا تتوجّـه كُـلّ اهتماماتك إلى فئة محدودة من الناس، وتترك البقية، فئة محدودة من الناس، مثلاً: من تربطك بهم علاقة خَاصَّة، وصداقة خَاصَّة، فيتوجّـه كُـلّ اهتمامك نحوهم، وتتنصل عن الباقين، تترك الآخرين، ممن هم في نطاق مسؤوليتك، ولا تلتفت إليهم.
أو فئة من أبناء المجتمع، تتصور أنهم هم الأهم، مثلاً: ينحصر كُـلّ اهتمامك نحو كبار المجتمع، الوجهاء مثلاً من المجتمع، فيتوجّـه كُـلّ اهتمامك نحوهم، كُـلّ دعمك لهم، كُـلّ ما تقدِّمه إليهم، وتترك بقية المجتمع، بقية الناس في نطاق مسؤوليتك.
لو اتجه الإنسان على هذا الأَسَاس: أن يكون له أشخاصٌ فقط محدودون يهتم بهم، يوجِّه كُـلّ اهتمامه نحوهم، ويترك البقية، فهي سياسة خاطئة وفاشلة، وهي أَيْـضاً من الحيف، من الجور؛ لأَنَّ الإنسان -وبحسب مسؤوليته، وبمستوى مسؤوليته- يجب أن يعمل بشكلٍ عام، أن يتوجّـه اهتمامه في خططه العملية، في تدبيره العملي، في اهتماماته الواسعة بشكلٍ عام، بقدر الاستطاعة والإمْكَان، وهذا يدخل في كُـلّ مجالات العمل، مثلاً: الاهتمامات الثقافية، مثلاً: الاهتمامات الخدمية، مثلاً: الاهتمامات فيما يتعلق بالإحسان، بحلِّ مشاكل الناس، بالاهتمام بشؤونهم وأمورهم، وبحسب المسؤولية ومستواها، أن يكون هناك توجّـه عام، واهتمام عام، ولكن مع مراعاة الحق؛ لأَنَّ كُـلّ سياساتك وتدبيرك وتصرفاتك من موقع المسؤولية، يجب أن تعتمد فيها على الحق، ألَّا تتجاوز الحق؛ مِن أجلِ استرضاء الناس، وأن تلحظ ((أَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ))، يعني: ما يعم الناس، ولكن مع مراعاة العدل، كلما عَمَّ، وكلما كان أجمع، كلما كان على مستوى أوسع، يصل إلى نطاقٍ واسعٍ من الناس، فهو أهم، ((أَجْمَعُهَا لِرِضَى الرَّعِيَّةِ))؛ لأَنَّ رضاهم مُهِمٌّ جِـدًّا، ولكن في إطار الحق، والعدل، والرحمة، وإطار هذه القيم المهمة، بما لا يتجاوز الإنسان شيئاً منها.
((فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَا الْخَاصَّة))، لو تمكّن الإنسان من موقعه في المسؤولية أن يحوز رضا فئة محدودة من الناس، ممن أصبحوا خواصاً له، وعلى علاقة وارتباط خاص به، أَو من أعيان ووجهاء المجتمع، ثم سخط عليه بقية الناس؛ فلا قيمة في واقع العمل لرضا تلك المجموعة المحدودة في مقابل السخط العام عليه، سخط العامة هو المهم، هو الأكثر تأثيراً، هو الذي يؤثر على عملك، على نجاحك؛ لأَنَّ مسؤوليتَك تتَّجِهُ نحوَهم، والتأثيرُ إن كنت حسبت حسابَ التأثير، وتوقعت أنَّ لأُولئك الذين اختصصتهم باهتمامك، ووجَّهت إليهم كُـلَّ عنايتك، أنهم من ذوي التأثير في الساحة، فأنت بذلك خسرت الأكثر تأثيراً، وهم الجمهور من الناس، الذين تأثيرهم أكبر، تأثيرهم في كُـلّ الأمور، حتى في مسألة نجاح العمل، واستقرار العمل، واستقرار الأمر بكل الاعتبارات، ولهذا قال: ((فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَا الْخَاصَّة))، يعني: يَذهَبُ به، يجعله لا قيمة له، لا قيمة له، مهما كان رضاهم عنك وهم قلة قليلة، ومجموعة محدودة، ماذا سيفعلون لك؟ يفقدون هم حتى التأثير في واقع الناس.
((وَإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّة يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَا الْعَامَّةِ))؛ لأَنَّ تركيزك على الاهتمام العام، وتوجيهك للإمْكَانات والقدرات لإفادة الناس على مستوى أوسع وأعم، قد يسبب سخط الخَاصَّة، إمَّا أُولئك الذين كانوا قد تقرَّبوا منك، وارتبطوا بك بعلاقات خَاصَّة، يؤملون من خلالها أن يحصلوا منك على مكاسب مادية، وإمْكَانات ونفوذ، وإمَّا البعض مثلاً من أعيان المجتمع، الذين كانوا يؤملون أن يكون لهم اختصاص بالاهتمام بهم على حساب الناس، وأن تتوجّـه كُـلّ عنايتك نحوهم على حساب الناس، فقد يسخطون منك، ويستاؤون منك، ولكن لا يؤثر سخطهم شيئاً، عندما تكون الحالة السائدة في الواقع هي حالة الرضا، رضا الناس، رضا الجماهير بشكل أوسع، حالة الرضا من جانبهم هي الأهم، الأهم لنجاح العمل، الأهم لاستقرار الأمر، الأهم في معيار المسؤولية والعدل والحق، هي الأهم.
((وَلَيْسَ أحد مِنَ الرَّعِيَّةِ أَثْقَلَ عَلَى الْوَالِي مَئُونَةً فِي الرَّخَاءِ))، أثقل مؤونة؛ لأَنَّ مطالبهم كثيرة، الخَاصَّة من ارتبطوا بك ارتباطاً خاصاً لأطماع، وأهواء، ومصالح شخصية، أَو من بعض الوجاهات التي تصبح عندها هذه النظرة: أنها الأحق بكل شيء، وأنَّ المفترض أن تحظى هي بالعناية الخَاصَّة دون بقية المجتمع، ولا تفكر إلَّا بنفسها، هذه النوعية من الناس هم الأثقل مؤونة، يعني: كلفتهم كبيرة، مطالبهم كثيرة، احتياجاتهم كثيرة.
((وَأَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِي الْبَلَاءِ))، ومعونتهم قليلة؛ لأَنَّهم لا يسخون بأن يقدِّموا، هم يرون لأنفسهم الحق في أن يحصلوا على كُـلّ شيء، وأن تُقَدَّم لهم كُـلّ الإمْكَانات، وأن يحظوا بعناية خَاصَّة، ولا يرون على أنفسهم الحقَّ أن يقدِّموا، أن يبذلوا، أن يعطوا، أن ينفقوا، فهم أقل معونة على مستوى التقدِّمة في المال، في الإمْكَانات، أَو الجهد العملي، في المواقف المهمة التي تستدعي التحَرّك الجاد والتضحية، يرون أنفسهم هناك بعيدًا.
((وَأَكْرَهَ لِلْإِنْصَافِ))، عادةً ما يكونون ممن يكرهون الإنصاف من أنفسهم؛ لأَنَّهم يرون لأنفسهم الامتيَازات الخَاصَّة، والحق في أن يكون لهم خصوصيةٌ في كُـلّ شيء، وأنهم أرفعُ من بقية المجتمع، وأهم وأعظم شأناً؛ وبالتالي يأنفون من الإنصاف، ويتكبرون من الإنصاف.
((وَأَسْأَلَ بِالْإِلْحَافِ))، يعني: بالإلحاح الشديد؛ لأَنَّهم يسألون بتأكيدٍ وضغط، وَأَيْـضاً من واقع شعورهم وتصورهم أنهم يستحقون كُـلّ شيء.
((وَأَقَلَّ شُكْراً عِنْدَ الْإعطاء))؛ لأَنَّهم يعتبرون لأنفسهم الحقَّ في كُـلّ شيء، فإذا أعطوا لم يشكروا، أَو كان شكرهم قليلًا، يعني: لا يرون لك جودةً ولا قيمةً، ولا يرون لك جَميلاً فيما تعطيهم، يعتبرون أنفسَهم يستحقون أكثرَ مما تعطيهم أصلاً.
((وَأَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ الْمَنْعِ))، فهم لا يتفهمون الظروفَ، يعني: حتى لو اعتذرت إليهم بأنَّ هناك -فعلاً- ظروفاً حقيقية، وفي الواقع -مثلاً- هناك ظروف صعبة، وواقع صعب، لا يتفهمون الظروف أبداً، ويسخطون عليك.
(وَأَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّاتِ الدَّهْرِ))، عندما يكون هناك أحداث كبيرة، أَو تحديات كبيرة، أَو مخاطر كبيرة، أَو شدائد كبيرة، فهم أقل أَو أضعف الناس صبراً عند ذلك.
ليس هناك في هذه المواصفات كلها: أثقل مؤونة، يعني: كلفة، أقل معونة، أكره للإنصاف… إلى آخره، (مِنْ أهل الْخَاصَّة)، فليسوا في عطائهم، ولا في دورهم، ولا فيما يقدِّمون بمستوى غيرهم من الناس، هذه مشكلتهم، يرون لأنفسهم الحق قبل كُـلّ الناس، ولكنهم ليسوا في مستوى بقية الناس في أن يروا على أنفسهم الحق وأن يسهموا، فهذه النظرة وهذا التقييم مهم؛ لأَنَّ الإنسان قد يتصور أنهم هم أهل التأثير، والذين ينبغي الاعتماد عليهم، والذين ينبغي التعويل عليهم، والأمل فيهم، وبناءً على ذلك يوجِّه إليهم كُـلّ الإمْكَانات، ويترك الناس، ويوجِّه إليهم كُـلّ الاهتمام، ويقصِّر في حق الناس، فتكون النتائج معكوسة، عندما تأتي الأحداث، أَو التحديات، أَو الأخطار، يكونون هم أقل الناس اهتماماً، أقل الناس مساندةً، أقل الناس عطاءً وتضحية، والناس غيرهم الأجدر منهم بالاهتمام، والذين ينبغي أن يعتمد عليهم، ولهذا قال: ((وَإِنَّمَا عِمَادُ الدِّينِ، وَجِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ، وَالْعُدَّةُ لِلْأعداء، الْعَامَّةُ مِنَ الأُمَّــة)): جماهيرُ الأُمَّــة، جماهيرُ الأُمَّــة، الناس، المجتمع، عليهم يُعتمَدُ في إقامة الدين، بجهودهم، بعطائهم، بتضحيتهم، بجهادهم، بمواقفهم، وهم الرصيد العظيم؛ لأَنَّهم جماهيرُ واسعة، تستطيعُ أن تعتمدَ عليها في المواقفِ الكبيرة، والتحديات الكبيرة، والأخطار الكبيرة، بدلاً عن أن تعتمدَ على مجموعة بسيطة، أَو فئة محدودة من الناس، تُؤْثِرُها بكل شيء على حسابِ الآخرين.
((وَالْعُدَّةُ لِلْأعداء))؛ لأَنَّ المجتمع يُعتَمدُ عليه، عنده قدرةٌ أكثر، تحمل أكبر، عطاء أوسع، في التصدي للأعداء.
((الْعَامَّةُ مِنَ الأُمَّــة فَلْيَكُنْ صِغْوُكَ لَهُمْ)): كن قريباً منهم بحيث تسمع لهمومهم، لمشاكلهم، تهتم بهم، ترعاهم أكثر، تتفاعل معهم أكثر، ((وَمَيْلُكَ مَعَهُمْ)).
((وَلْيَكُنْ أَبْعَدَ رَعِيَّتِكَ مِنْكَ، وَأَشْنَأَهُمْ عِنْدَكَ، أَطْلَبُهُمْ لِمَعَايِبِ النَّاسِ، فَإِنَّ فِي النَّاسِ عُيُوباً الْوَالِي أَحَقُّ مَنْ سَتَرَهَا، فَلَا تَكْشِفَنَّ عَمَّا غَابَ عَنْكَ مِنْهَا، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ تَطْهِيرُ مَا ظَهَرَ لَكَ، وَاللَّهُ يَحْكُمُ عَلَى مَا غَابَ عَنْكَ، فَاسْتُرِ الْعَوْرَةَ مَا اسْتَطَعْتَ يَسْتُرِ اللَّهُ مِنْكَ مَا تُحِبُّ سَتْرَهُ مِنْ رَعِيَّتِكَ))، في تعاملك مع ما يرفعك إليك من مساوئ الناس، البعض لديهم طبيعة يحبون دائماً أن يتتبعوا عورات الناس، معائب الناس، مساوئ الناس، وينقلونها، ويرتاحون بذلك، طبيعة لدى البعض، يرتاح في أن ينقِّب، أن يبحث بحثاً دقيقاً حتى لمعرفة عيب هنا، أَو خطأ هناك، ويأتي ليرفعه إليك، وأنت في موقع المسؤولية إذَا تعاملت مع كُـلّ ذلك بتفاعل، وتقرِّب هذه النوعية من الناس، وتشجِّعهم، فهو أُسلُـوب خاطئ، لا تشجِّع هذا النوع من الناس.
البعضُ الآخر يتصوَّرُ أنها طريقةُ عمل صحيحة، يعني: أنَّ المسؤوليةَ تفرِضُ عليه أن يهتمَّ بهذا الشكل، بهذه الطريقة من الاهتمام، أن ينقِّب، أن يبحث بكل دقة ليستخرج العيوب والمساوئ، وليعثر عليها.
والبعضُ من الناس يندفعُ إلى ذلك بدافعٍ انتقامي، يعني: لديه رغبةٌ في أن ينتقم، وأن يصفِّيَ حساباتٍ من أشخاص معينين، أَو أسرٍ معينة، وهو يعرفُ أنك لن تتفاعَلَ مع رغباته الشخصية، أَو مع قضاياه الشخصية التي ليس فيها ما يبرّر أن تعاقبَ أُولئك؛ مِن أجلِه؛ وبالتالي يبحث لهم عن عَيْبٍ آخر، عن مشكلةٍ أُخرى، يحاول أن يستفزك من خلالها لتعاقبهم، ودافعه إلى ذلك هو حب الانتقام، دافعه مسألة أُخرى، مشكلة أُخرى، قضية أُخرى، وهذا يحصل في الواقع، تصفية الحسابات، أساليب الانتقام من خلال الوشايات، من خلال البحث عن قضايا أُخرى، كَثيراً ما يحصل ممن يتوجّـهون ويسعون للانتقام الشخصي بهذا الأُسلُـوب، وبهذه الطريقة.
فعندما يكونُ الإنسانُ في موقع المسؤولية يكون حذراً متنبهاً من هؤلاء الناس، لا يقرِّبهم، لا يعتمد عليهم، لا يشجِّعهم على هذه الأساليب؛ لأَنَّه ليس المطلوبَ نبشُ وإخراجُ المعائب والمساوئ، مسؤوليةُ الإنسان في موقع المسؤولية أن يسعى لتطهير ما ظهر منها، أمَّا ما لم يظهر، فليحاولْ أن يستُرَ، وليحاولْ أن يعالِجَ بطريقةٍ أُخرى؛ لأَنَّ الإسلامَ لا يعتمدُ على أُسلُـوب العقاب كأُسلُـوبٍ وحيدٍ في إصلاح المجتمع، وفي تقويم سلوك المجتمع، الإسلام يعتمد أُسلُـوب التربية بشكلٍ أَسَاسي، وبشكلٍ كبير، التربية الإيمَــانية والقيمية والأخلاقية، وكذلك التعليم الصالح المفيد، المعالجات بطريقة اجتماعية، بأساليب متنوعة وحكيمة، والأُسلُـوب العقابي هو الحالة الاستثنائية عند الضرورة القصوى، فما ظهر؛ يجب أن يكون الموقف منه موقفاً حاسماً، وما كان خفياً؛ فليس المطلوب التنقيب عنه، والبحث عنه، والاستخراج له بكل وسائل التتبع والتنقيب.
((فَاسْتُرِ الْعَوْرَةَ مَا اسْتَطَعْتَ))؛ لأَنَّه من المهم أن تكون الأجواءُ العامة أجواء خير، لا تتحول كُـلّ السلبيات إلى ظواهر تطغى في الساحة في حديث الناس، للأسف في هذا الزمن مع مواقع التواصل الاجتماعي يحصل خلل كبير في هذا الجانب، بل افتراءات، وليس فقط إخراج البعض من مساوئ الناس الخفية، وإظهارها إلى العلن، بل الافتراءات، افتراء الكثير والكثير مما ليس له وجود أصلاً، ولذلك يكون الإنسان حذراً في هذه الأمور.
هو يقول هنا: ((فَاسْتُرِ الْعَوْرَةَ مَا اسْتَطَعْتَ يَسْتُرِ اللَّهُ مِنْكَ مَا تُحِبُّ سَتْرَهُ مِنْ رَعِيَّتِكَ))؛ لأَنَّ كُـلّ إنسان فيه قصور، عنده أخطاء، حتى أنت وأنت في موقع المسؤولية، عندك قصور، وفيك أخطاء، يعني: لديك جوانب أنت مقصرٌ فيها، عندك أخطاء، فالله يستر عنك ويعينك على إصلاح عيوبك، على إصلاح نفسك، عندما تستر عباده.
((أطلق عَنِ النَّاسِ عُقْدَةَ كُـلّ حِقْدٍ، وَاقْطَعْ عَنْكَ سَبَبَ كُـلِّ وِتْرٍ، وَتَغَابَ عَنْ كُـلّ مَا لَا يَضِحُ لَكَ)).
((أطلق عَنِ النَّاسِ عُقْدَةَ كُـلّ حِقْدٍ))
أنت من جانبك لا تعبئ نفسَك بالعُقَدِ على الناس، ولا تتعامَلْ معهم من واقعٍ نفسيٍّ معقَّدٍ عليهم، اسعَ لأن تكونَ نفسُك صافيةً، صافيةً لتتعامل مع الناس بنفسيةٍ ومشاعر صافية، وليست مشاعر معقدة؛ لأَنَّ هذا يؤثر على أُسلُـوب الإنسان، على طريقة عمله مع الناس، من موقعه في المسؤولية.
ثم في واقع الناس أنفسهم، احرص أن يكون أداؤك العملي سليماً صحيحاً، لا ينتج الإشكالات بشكلٍ دائم، البعض مثلاً طريقتهم في العمل طريقة خاطئة، ليس فيها حكمة؛ لأَنَّه مطلوب الرحمة، والعدل، والحكمة، في أسس التعامل مع المجتمع، أن تجمع (الرحمة، والعدل، والحكمة أيضاً) في أُسلُـوب العمل وطريقة العمل، البعض من الناس أُسلُـوبهم في العمل أُسلُـوب صداميٌّ، وإشكالي، واستفزازيٌّ، يستفز الناس في كُـلّ عمل، طريقته في العمل حتى لو كان العمل في أصله عملاً صحيحاً، أَو عملاً مطلوباً، لكن طريقته في تنفيذ ذلك العمل استفزازية ومسيئة، وتبعث في نفوس الناس حالة الاستياء والسخط، فيجب أن تكون الطريقة في أداء العمل حكيمة، لا تستثير الناس قدر الإمْكَان، لا تستفزهم، البعض من الأعمال تحتاج إلى تهيئة، إلى توضيح، إلى تبيين، البعض من الأعمال طريقة التنفيذ فيها خيارات متعددة، وقد يكون هناك من الأساليب ما يضمن التنفيذ من دون استفزاز، وأُسلُـوب آخر مستفز، فاترك الأُسلُـوب المستفز، ونفِّذ بتلك الطريقة التي لا استفزاز فيها.
أيضاً عالِجْ كُـلَّ الأحقاد الموجودة، إذَا كان هناك أحقادٌ نتيجة تصرُّفات معينة، مشاكل معينة، ابذل جهدَك واسْعَ إلى أن تحل تلك العقد، لا تترك الحالة العامة تتحول إلى حالة مملوءة بالسخط، ومحتقنة بالتذمر، هذا متذمر، وهذا ساخط، وهذا مستاء، وهذا معقد، وهذا… ابذل جهدك، حلحل العقد، الإشكالات التي لها حلول معينة، اعمل على حلولها، طريقة العمل تكون حكيمةً، بما تتلافى فيها الكثير من الأساليب الاستفزازية والصدامية، وحاول أن تحل الإشكالات القائمة بقدر الاستطاعة.
وليس معنى ذلك أن كُـلَّ الناس سيرضون عنك، الإنسان مهما كان عمله قائماً على أَسَاس الرحمة، والحكمة، والعدل، لن يرضى عنه كُـلّ الناس، سيبقى هناك من هو ساخط، رضى الناس غايةٌ لا تدرك، رضى الجميع، أن يرضى عنك الجميع، هذا أمر صعب جِـدًّا، خَاصَّة في هذا الزمن الذي يتحول واقع المجتمع إلى واقع مقسم في الأَسَاس بخلفيات سياسية، تصبح هي مصدر للتعقيد، أَو عقائدية تصبح هي سبب للعقدة، لكنَّ للحكمة والرحمة والعدل الأثر في الجمهور في أوسع الناس، في أكثر الناس، أوسع مساحة من الناس من المجتمع سيكون لهذا الأثر الطيِّب في نفوسهم، وسيتفهمون عملك ودورك، وسيعينونك في القيام بمسؤوليتك، وسيكون لهذا أثراً إيجابياً على مستوى واسع.
((وَاقْطَعْ عَنْكَ سَبَبَ كُـلّ وِتْرٍ))
كل أسباب العداوات ابذل جهدَك في ذلك، إن كانت مشاكلُ قائمةٌ في الواقع، اعمِلْ على معالجتها، إن كانت تصرفات خاطئة، حاول أن تصحِّحَها، اسع لأن تكون منصفاً، اسع لأن يكونَ موقفُك الحقُّ واضحًا، أحياناً قد يكون هناك أَيْـضاً نشاطٌ سلبي في الساحة، نشاط سيء، فيه أكاذيبُ، فيه افتراءات، فيه تعقيدٌ للناس، يجبُ أن يقابَلَ ذلك بتوضيح، بقُرْبٍ من الناس، مع المعالجات العملية لما كان من أخطاء حقيقية، الأخطاءُ الواقعيةُ يجبُ التوجُّـهُ الجاد والصادق والناصح لمعالجتها بكل جهد، وما زاد عن ذلك؛ بسَببِ افتراءات وأكاذيب يسهل تفنيدها، يسهل إيضاح الحقيقة للناس، لا تحتفظ بالمشاكل والعقد، وتترك الساحة تتعبأ بالاحتقان، والتذمر، والمشاكل، والاستياء، وتتجاهل مشاعر الناس تقول: [عادي طز، من سخط سخط، من غضب غضب]، لا، هذه مسألة خطيرة جِـدًّا.
ميدان عملك، ميدانُ مسؤوليتك هم الناس، أنت مسؤولٌ نحوهم، مسؤوليتك تتجه نحوهم، مسؤوليتك تتعلق بهم، فلابدَّ أن تكون العلاقة بينك وبينهم علاقة إيجابية، وأن تبذل الجهد في ذلك، وأن تحرص على معالجة تلك الإشكالات، وإلا سيكون لها نتائجها السلبية فيما بعد، البيئة التي هي محتقنة، مملوءة بالتذمر والاستياء، يمكن أن تتحول إلى بيئة يشتغل فيها العدوّ، يفرِّق كلمة المجتمع، يثير الفتن، يشعل نيران الفتنة في أي وقت، ويكون لذلك تأثيرات سلبية.
((وَتَغَابَ عَنْ كُـلّ مَا لَا يَضِحُ لَكَ))
يعني: تغافل، تغافل عن كُـلّ الأمور التي ليست واضحة، لا تتعجَّلْ في التعامل مع الأمور التي ليست مؤكَّـدة، واتِّخاذ إجراءات قد تسبِّبُ مشكلةً كبيرة، ويتضحُ أن الموضوعَ لم يكن كما ظننت، أَو كما ظنه البعض، فابنِ كُـلَّ أمورك على أَسَاس صحيح، وعلى بصيرة، وعلى يقين، وعلى وضوح، وعلى تأكّـد، ولا تحاول أن تفتح مشكلة في موضوع ليس مؤكّـداً، ولا واضحًا، ولا تعجلن إلى تصديق ساعٍ، من يسعى بالآخرين، يشي عليهم، النمامون الذين دائماً يحرصون على أن ينقلوا إليك ما يستفزك ويثيرك على الآخرين، لا تتعجل بتصديقهم، واتِّخاذ إجراءات بناءً على نقلهم، أول ما تفعله هو التحقّق والتبين، هذه هي الخطوة الأولى تجاه ما ينقل إليك: أن تتحقّق، أن تتبين، أن تتأكّـد، إذَا استخدم الإنسان هذه الطريقة، فسيتفادى الوقوع في كثيرٍ من المشاكل والمظالم؛ أما إذَا كان الإنسان متسرعاً عجولاً، وبالذات عندما يستفز؛ لأَنَّ البعض قد ينقل إليك ما يستفزك جِـدًّا، والبعض قد يكون أَيْـضاً بارعاً في طريقة النقل، هذه مسألة ملحوظة، البعض أَيْـضاً متقن لأن يستفزك، وأن يثير أعصابك، وأن يثير انفعالك، عنده خبرة، يعرف كيف يتخاطب معك، كيف يقدِّم الموضوع إليك، بطريقة -على ما بيقولوا- يولعك، يولعك، هذه قضية خطيرة جِـدًّا.
فعلى الإنسان في موقع المسؤولية أن يكون معتمداً بشكلٍ أَسَاسيٍّ على التبين، {إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا}[النساء: من الآية94]، {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا}[الحجرات: من الآية6]، أن يتبين، أن يتأكّـد، ألَّا يتسرع، ولا يستعجل باتِّخاذ إجراء قد يكون ظلماً، قد يكون من نقل إليك نقل إليك أمراً لا أَسَاس له من الصحة، أَو قد يكون زاد فيه، وبالغ كَثيراً، حتى قدَّم المسألة كبيرةً جِـدًّا، ومستفزةً غاية الاستفزاز، فكن حذراً.
((وَلَا تَعْجَلَنَّ إلى تَصْدِيقِ سَاعٍ، فَإِنَّ السَّاعِيَ غَاشٌّ، وَإِنْ تَشَبَّهَ بِالنَّاصِحِينَ))
الذي يسعى دائماً يعجبُه أن ينقُلَ المعائب، وأن يثير الآخرين، هو في واقع الحال غاشٌ، يعني: ليس ناصحاً، ليس ناصحاً، لا تظن أنه من دافع اهتمامه وحرصه بادر ينقل إليك ما ينقله عن الآخرين، ما يشي به على الآخرين، وفي واقع الحال غاشٌ وإن تشبَّه بالناصحين.
طبعاً سيأتي في نفس العهد (عهد الإمام علي إلى مالك الأشتر)، كيف يكون هناك مثلاً نظام يعتمد الإنسان فيه على أشخاص موثوقين، صادقين، ليس لهم مشاكل مع الناس، ويسعون لتصفية حساباتهم مع الناس في نقل الحقيقة، يعتمد عليهم في نقل الحقيقة، في التثبت، في التبين، في التدقيق في الواقع العام، في أداء المسؤولين… إلى غير ذلك، ((فَإِنَّ السَّاعِيَ غَاشٌّ، وَإِنْ تَشَبَّهَ بِالنَّاصِحِينَ)).
((وَلَا تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ بَخِيلاً، يَعْدِلُ بِكَ عَنِ الْفَضْلِ، وَيَعِدُكَ الْفَقْرَ، وَلَا جَبَاناً، يُضْعِفُكَ عَنِ الْأُمُورِ، وَلَا حَرِيصاً، يُزَيِّنُ لَكَ الشَّرَهَ بِالْجَوْرِ، فَإِنَّ الْبُخْلَ، وَالْجُبْنَ، وَالْحِرْصَ، غَرَائِزُ شَتَّى، يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللَّهِ))
التشاوُرُ مسألةٌ مهمة جِـدًّا في أداء المسؤولية، واللهُ يقولُ لنبيه “صلوات الله عليه وعلى آله”: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}[آل عمران: من الآية159]، يقول عن المؤمنين: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}[الشورى: من الآية38]، التشاور مهم ومفيد، ولكن على من تعتمد في مشورتك، من الذين تستشيرهم، هناك معايير ومحاذير، قدَّم المحاذير؛ لأَنَّها كافية في أن تتنبه.
يقول:
((وَلَا تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ بَخِيلاً))، لا تعتمدْ في التشاور على بخيل؛ لأَنَّه كما قال الإمام عليٌّ “عَلَيْهِ السَّـلَامُ”: ((يَعْدِلُ بِكَ عَنِ الْفَضْلِ، وَيَعِدُكَ الْفَقْرَ))، فيثبطك عن كثيرٍ من الأمور المهمة التي فيها فضل، وفيها نجاح، وفيها خير، وأحياناً قد تكون من ضروريات الأمور، ولكنها تحتاج إلى إنفاق، تحتاج إلى تمويل، وهو بخيل، مهما كان أهميّة الموضوع، أَو مهما كان فضله، سيثبطك عن ذلك، وسيشير عليك بأن تترك ذلك؛ بسَببِ بخله، ((وَيَعِدُكَ الْفَقْرَ))، دائماً يخيفك من الفقر، ويخيفك مما تقدم وتبذل.
((وَلَا جَبَاناً))، لا تعتمد على الجبان في المشورة، ((يُضْعِفُكَ عَنِ الْأُمُورِ))؛ لأَنَّه سيخوفك، ويرجف عليك، ويهول عليك، وبعض الأمور تحتاج إلى جرأة وقوة وشجاعة وتوكل على الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”.
((وَلَا حَرِيصاً، يُزَيِّنُ لَكَ الشَّرَهَ بِالْجَوْرِ))، الحريص الذي يجمع بين البخل والطمع، بخيلٌ طماع، فهو طماع يريد أن يحصل على الشيء بأي وجه، بأية طريقة حتى لو كانت ظلماً وجوراً، وبخيل فيما قد توفر، لا يريد عطاءه ولا إخراجه، فالحريص -كما قال- يزين لك الشره بالجور، ويزين لك أن تكون شرهاً في طريقة الحصول على الأموال حتى بالطرق الخاطئة، بالأساليب والوسائل والأساليب التي تعتمد عليها في استخراج المال، والحصول على المال والإمْكَانات، وهي ظالمة، تأخذ المال بغير حق، بما فيه ظلمٌ للناس، يزين لك ذلك، يزين لك ذلك ويقنعك بذلك، ويبرّر لك ذلك، وسيمتلك من أساليب التبريرات والتلفيقات ما قد يقنعك بذلك، فاترك هذا النوع من الناس، لا تعتمد عليهم في مشورتك.
((فَإِنَّ الْبُخْلَ، وَالْجُبْنَ، وَالْحِرْصَ، غَرَائِزُ شَتَّى، يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللَّهِ))
البخيل هو سيء الظن بالله، لا يثق بوعد الله القائل: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}[سبأ: من الآية39]، إضافة إلى الكثير من الآيات المباركة، التي وعد الله فيها بالبركة والخير والرزق لمن ينفق، الجبان هو سيء الظن بالله، لا يثق بوعد الله بالنصر، ولا بوعد الله بالعون والتأييد، والحريص الذي جمع بين الطمع والبخل لم يثق بأن الله سيرزق وسيمن، وأن فضل الله واسع، وأن العطاء في محله سببٌ للحصول على الفضل من الله، وعلى الخير من الله، سببٌ للبركة من الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، كُـلّ أُولئك جمعوا تلك الغرائز السيئة، والتي هي نتاجٌ لسوء الظن بالله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”.
نكتفي بهذا المِقدارِ.
ونَسْأَلُ اللهَ -سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى- أَنْ يوفِّقَنا وإيِّاكم لما يُرْضِيْه عنا، وأَنْ يَرْحَمَ شُهَدَاءَنا الأبرارَ، وَأَنْ يشفيَ جرحانا، وَأَنْ يفرِّجَ عن أسرانا، وَأَنْ ينصُرَنا بنصره، إِنَّهُ سَمِيْعُ الدُّعَاءِ.
وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه.