مع العَلَم القائد في وثيقة العهد «3»..بقلم/ هنادي محمد
- تركّز حديثُ العَلَم القائد -يحفظه الله ويرعاه- في الدرس الثالث عن أُسُسِ العلاقة مع المجتمع، وأول عنوان لها “الرحمة” وهي القاعدة الأَسَاسية للتعامل فيما بين أبناء الأُمَّــة، وحذر من كُـلّ ما يمكن أن يؤثر سلبا على نفسية الإنسان ومشاعره وما يجب أن يتجلى في واقع العمل من المشاعر التي تفيض بالعفو والصفح، واستمر في الشرح في سياق ما أمر به مالك الأشتر، قال -عليه السلام-:
((أَنْصِفِ اللَّهَ وَأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ)): مسألة الإنصاف مسألة أَسَاسية ومهمة؛ لأَنَّها من العدل، وهو التزام إيماني وأخلاقي وإنساني له قيمته، والتصور بأنه يحط من مكانة الإنسان ومقامه تصور خاطئ من وساوس شياطين الإنس والجن ولا يجب الاكتراث لها أبداً حتى لا تحمّل نفسك الأوزار، وكُن شخصاً حقانيًّا تبذل الحق ولو على نفسك دون تردّد وأنفة وكبرياء.
((وَمِنْ خَاصَّة أَهْلِكَ)): لا تجعل من منصبك وسلطتك ونفوذك موقعا يحتمي به خواص أهلك، فيمارسون الظلم بحق الآخرين وتصبح بذلك شريكا لهم في ظلمهم.
((وَمَنْ لَكَ فِيهِ هَوًى مِنْ رَعِيَّتِكَ)): من تميل معه وتحبه وتربطك به علاقة خَاصَّة وقوية ويقوم باستغلال هذه العلاقة بالاستناد إلى حمايتك بأن يمارس ظلماً ويرفض أداءَ حق، فمسألة الإنصاف هنا مهمة.
((فَإِنَّكَ إِلَّا تَفْعَلْ تَظْلِمْ)): البديل عن الإنصاف هو الظلم ويعتبر مسألة خطيرة جِـدًّا.
((وَمَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللَّهِ كَانَ اللَّهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ)): عندما تظلم أحداً من عباد الله وأنت مستندا إلى منصبك وسلطتك ونفوذك؛ لأَنَّك تأمن جانب المظلومين فتتجرأ عليهم ولا تبالي بهم، فأنت قد ورطت نفسك ورطة عظيمة وكبيرة؛ لأَنَّك أصبحت خصما لله سبحانه وتعالى تتعرض لغضبه وسخطه وانتقامه، وهذه وضعية خطيرة جِـدًّا.
((وَمَنْ خَاصَمَهُ اللَّهُ أَدْحَضَ حُجَّتَهُ، وَكَانَ لِلَّهِ حَرْباً حَتَّى يَنْزِعَ وَيَتُوبَ)): من خاصمه الله فلن يستطيع أن يفوز بالمعركة ويقي نفسه سخط الله وعذابه لا بمبرّرات ولا مغالطات ولا بإخفاء الحقيقة بينك وبين الله العالم بخائنة الأعين وما تخفيه الصدور والمحيط بكل شيء علماً، وأنت في موقع المسؤولية لا يمكنك التلفيق؛ لأَنَّ حججك ستسقط وتبطُل حجتك ومغالطتك السخيفة.
((وَكَانَ لله حَرْباً)): هذا أمرٌ خطير جِـدًّا على الإنسان أن يبقى محلَّ المؤاخذة والانتقام الإلهي ومعرّض في كُـلّ لحظة للعقوبة من الله عندما أدخلت نفسَك في حربٍ معه سبحانه وتعالى.
((حَتَّى يَنْزعَ وَيَتُوبَ)): حتى تقلع عن ظلمك وتتوب إلى الله، وأنت في موقع المسؤولية أكبر محذور يجب أن تحذر من التورط فيه هو ” الظلم ” بكل أشكاله ومجالاته، والقرآن الكريم توعّد الظالمين بالطرد من رحمة الله {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}[هود: من الآية18].
((وَلَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى إلى تَغْيِيرِ نِعْمَةِ اللَّهِ وَتَعْجِيلِ نِقْمَتِهِ مِنْ إقامة عَلَى ظُلْمٍ)): على المستوى العاجل الظلم عواقبه وخيمة جِـدًّا في الدنيا والآخرة، توصلك إلى النار وتحسرك جنة الله ورضوانه، وتحبط أعمالك، والظلم أول وأكبر الذنوب في التسريع بزوال النعم ونزول النقم والعياذ بالله، والتاريخ الماضي والمعاصر مليء بالدروس العجيبة التي أكّـدت وأظهرت أن عاقبة الظالمين هو الخسران في نهاية المطاف.
((فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ دَعْوَةَ الْمُضْطَهَدِينَ)): لا تتصور أن ذلك المستضعف الذي تجرأت عليه بظلم أَو إساءة أنه ضعيف؛ لأَنَّ الله رب الناس وملكهم جميعاً وسيؤاخذ ويعاقب فلا تدخل نفسك في مشكلة مع الله.
((وَلْيَكُنْ أَحَبَّ الْأُمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ، وَأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ، وَأَجْمَعُهَا لِرِضَا الرَّعِيَّةِ)): في التدبير لشؤون وبرامج وسياسات وخطط العمل يجب أن يكون ذلك مبنيا على أَسَاس الاهتمام بعامة الناس بحسب مسؤوليتك ومستواها، هذا شيء مهم، لا أن توجّـه اهتمامك إلى فئة محدودة وتترك البقية فهذه سياسة خاطئة وفاشلة ومن الحيف والجور، ويجب أن يكون الاهتمام في جميع مجالات العمل مع مراعاة الحق والعدل ولا تتجاوزهما لاسترضاء الناس، ورضاهم مهم جِـدًّا ولكن بما لا يتجاوز قيم الإيمان.
((فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَا الْخَاصَّة)): سخط العامة هو المهم والأكثر تأثيراً على عملك ونجاحك؛ لأَنَّ مسؤوليتك تتجه نحوهم ولأنه لا قيمة في واقع العمل لرضا مجموعة محدودة في مقابل السخط العام عليك.
((وَإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّة يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَى الْعَامَّةِ)): سخط الخَاصَّة لا يؤثر شيئاً عندما تكون الحالة السائدة في الواقع هي حالة رضا الناس والجماهير بشكل أوسع، وهو الأهم لنجاح العمل واستقراره والأهم في المسؤولية.
((وَلَيْسَ أحد مِنَ الرَّعِيَّةِ أَثْقَلَ عَلَى الْوَالِي مَئُونَةً فِي الرَّخَاءِ)): هذه النوعية من الناس مطالبهم وكلفتهم واحتياجاتهم كثيرة؛ لأَنَّ ارتباطهم كان بدافع الطمع والأهواء والمصالح الشخصية.
((وَأَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِي الْبَلَاءِ)): لأنهم يرَون لأنفسهم الحقَّ في أن يحصلوا على كُـلّ شيء ولا يسخون بأن يقدموا شيئاً، يرون أنفسهم بعيدًا عن كُـلّ ما يستدعي التحَرّك.
((وَأَكْرَهَ لِلْإِنْصَافِ)): يكرهون الإنصاف من أنفسهم؛ لأَنَّهم يرون لهم الامتيَازات والخصوصية في كُـلّ شيء، وأنهم أرفع وأعظم شأنا من غيرهم فيأنفون ويتكبرون من الإنصاف.
((وَأَسْأَلَ بِالْإِلْحَافِ)): يسألون بإلحاح شديد، وبتأكيد وضغط من واقع شعورهم أنهم يستحقون كُـلّ شيء.
((وَأَقَلَّ شُكْراً عِنْدَ الْإعطاء)): يعتبرون لأنفسهم الحق في كُـلّ شيء، وأنهم يستحقون أكثر مما تعطيهم فلا يشكروا، ولا يرون لك جميلاً.
((وَأَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ الْمَنْعِ)): لا يتفهّمون ظروفك، ويسخطون عليك.
((وَأَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّاتِ الدَّهْرِ مِنْ أهل الْخَاصَّة)): عند الأحداث والتحديات والشدائد الكبيرة، فهم أقل وأضعف الناس صبرا، ولا ينبغي لأهل الحق أن يتصوروا؛ لأَنَّهم ذو تأثير ويعتمد عليهم أن تتوجّـه إليهم الإمْكَانات والاهتمام دون غيرهم من الناس، هذه نظرة مهمة.
((وَإِنَّمَا عِمَادُ الدِّينِ، وَجِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ، وَالْعُدَّةُ لِلْأعداء الْعَامَّةُ مِنَ الأُمَّــة، فَلْيَكُنْ صِغْوُكَ لَهُمْ، وَمَيْلُكَ مَعَهُمْ)): جماهير الأُمَّــة والناس والمجتمع، بجهادهم ومواقفهم هم من يعتمد عليهم في إقامة الدين، وهم الرصيد العظيم في التصدي للأعداء، لذا كن قريبا منهم، ترعاهم، تهتم بهم، تسمع لمشاكلهم وهمومهم وتتفاعل أكثر معهم.
((وَلْيَكُنْ أَبْعَدَ رَعِيَّتِكَ مِنْكَ، وَأَشْنَأَهُمْ عِنْدَكَ، أَطْلَبُهُمْ لِمَعَايِبِ النَّاسِ، فَإِنَّ فِي النَّاسِ عُيُوباً الْوَالِي أَحَقُّ مَنْ سَتَرَهَا، فَلَا تَكْشِفَنَّ عَمَّا غَابَ عَنْكَ مِنْهَا، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ تَطْهِيرُ مَا ظَهَرَ لَكَ، وَاللَّهُ يَحْكُمُ عَلَى مَا غَابَ عَنْكَ)): الإنسان في موقع المسؤولية يجب أن يكون حذرا متنبها من هؤلاء الناس، لا يقربهم ولا يعتمد عليهم، من يتتبعون عورات ومعائب ومساوئ الناس فينقلونها إليك، فمنهم من يتصور أنها طريقة عمل والبعض الآخر دافعهم انتقامي، وعليك أن تسعى لتطهير ما ظهر من المساوئ، وما لم يظهر منها فاستره، وليس المطلوب التنقيب والبحث عنها واستخراجها بكل وسائل التتبع، حاول معالجتها بطريقة أُخرى دون العقاب؛ لأَنَّ الإسلام يعتمد على أُسلُـوب التربية الإيمانية القيمية الأخلاقية بشكل أَسَاسي وكبير.
((فَاسْتُرِ الْعَوْرَةَ مَا اسْتَطَعْتَ يَسْتُرِ اللَّهُ مِنْكَ مَا تُحِبُّ سَتْرَهُ مِنْ رَعِيَّتِكَ)): كُـلّ إنسان فيه قصور وأخطاء، حتى أنت في موقع مسؤوليتك الله سيستر عنك ويعينك على إصلاح نفسك وعيوبك إذَا سترت على عباده.
((أطلق عَنِ النَّاسِ عُقْدَةَ كُـلّ حِقْدٍ)): أنت من جانبك لا تعبئ نفسك بالعقد على الناس، ولا تتعامل معهم من واقع نفسي معقد عليهم، فلتكن نفسك صافية، ثم في واقع الناس أنفسهم احرص أن يكون أداؤك العملي صحيحا لا ينتج الإشكالات بشكل دائم، ولا تعتمد أُسلُـوب الاستفزاز والصدام والإشكالات، عالج كُـلّ الأحقاد الموجودة، وليس معنى ذلك أن كُـلّ الناس سيرضون عنك، لكن تبقى للحكمة والرحمة والعدل الأثر الطيب في نفوس الجمهور الأوسع، وسيكونون لك عوناً.
((وَاقْطَعْ عَنْكَ سَبَبَ كُـلّ وِتْرٍ)): اقطع كُـلَّ أسباب العداوات، والأخطاء الواقعية يجب التوجّـه الجاد والصادق والناصح لمعالجتها بكل جهد، لا تحتفظ بالمشاكل والعقد وتترك الساحة تتعبأ بالاحتقان والتذمر والمشاكل والاستياء وتتجاهل مشاعر الناس؛ لأَنَّهم ميدان عملك ومسؤوليتك ويجب أن تكون علاقتك بهم إيجابية، حتى لا تجعل مجتمعك بيئة يستغل فيها العدوّ وتترك تأثيرات سلبية.
((وَتَغَابَ عَنْ كُـلّ مَا لَا يَضِحُ لَكَ)): أنت كإنسان في موقع المسؤولية، تغافل عن كُـلّ الأمور التي ليست واضحة، ابنِ كُـلّ أمورك على أَسَاس صحيح وبصيرة ووضوح ويقين، ولا تعجلن إلى تصديق ساعٍ، وتجاه ما يُنقل إليك، تحقّق وتبيّن، واحذر البارعون في استفزازك وإثارة انفعالك، هذه قضية خطيرة جِـدًّا.
((وَلَا تَعْجَلَنَّ إلى تَصْدِيقِ سَاعٍ، فَإِنَّ السَّاعِيَ غَاشٌّ، وَإِنْ تَشَبَّهَ بِالنَّاصِحِينَ)): الذي يسعى دائماً لنقل المعائب وإثارة الآخرين هو في واقع الحال غاشٌّ وليس ناصحصا.
((وَلَا تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ بَخِيلاً، يَعْدِلُ بِكَ عَنِ الْفَضْلِ، وَيَعِدُكَ الْفَقْرَ، وَلَا جَبَاناً، يُضْعِفُكَ عَنِ الْأُمُورِ، وَلَا حَرِيصاً، يُزَيِّنُ لَكَ الشَّرَهَ بِالْجَوْرِ)): التشاور مسألة مهمة جِـدًّا في أداء المسؤولية، وهناك معايير ومحاذير يجب أن تتنبه لها: لا تشاور البخيل؛ لأَنَّه يثبطك عما فيه فضل ونجاح وخير لك، ويخيفك من الفقر فيما تقدم وتبذل، ولا تشاور جبانا؛ لأَنَّه سيخوفك ويرجف ويهول عليك الأمور التي تحتاج إلى قوة وجرأة وشجاعة وتوكل على الله، ولا تشاور حريصا يجمع بين البخل والطمع؛ لأَنَّه يدفعك لأن تكونَ شرهاً في الحصول على المال والإمْكَانات بالطرق الخاطئة بغير حق، فلا تعتمد على هذه النوعيات من الناس.
((فَإِنَّ الْبُخْلَ، وَالْجُبْنَ، وَالْحِرْصَ، غَرَائِزُ شَتَّى، يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللَّهِ)): هذه الغرائز السيئة هي نتاج لسوء الظن بالله سبحانه وتعالى.
والعاقبـةُ للمتَّقيـن.