مبدأُ الولاية.. بين الأمس واليوم .. بقلم/ عبدالقوي السباعي
الولايةُ في الإسلام والتي وردت فيها الكثير من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، وتعمدت فعلياً في قصة الغدير، يوم تنصيب الإِمَـام عَلِـيٍّ -عَلَيْهِ السَّلَام- ولياً على أمر الأُمَّــة الإسلامية، قضية جوهرية ومبدأ محوري راسخ منذ ذلك التاريخ حتى قيام الساعة، فهذه الولاية ليست مؤقَّتة ومزمَّنة في لحظتها وانتهت، أَو لا قضية هامشية أَو حكراً على مذهب أَو طائفة أَو عرقية دون أُخرى، بل هي قضية عموم المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، ومحور عقيدة الأُمَّــة جمعاء.
وذلك لما لها من دلالات عميقة، وأهميّة عظيمة، إذ جاءت بأمر إلهي من الله سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى، وبتدخل من النبي الأكرم (ص) فيها، الأمر الذي يعكس مدى ارتباطها بالتعاليم الإلهية، وفي رسم التوجّـه الحقيقي لإدارة المجتمع الإسلامي كمنظومة متكاملة: “نظام ودولة، شعب وأمة”.
ولعل قصة الغدير في معناها الشامل ومغزاها الحقيقي تدلل على أن الرسول الأعظم (ص) ومنذ تأسيس لبنات الإسلام الأولى كنظام وإدارة، أدرك أهميّة مسألة إدارة هذه الأُمَّــة بعد وفاته (ص)، فلم يهملها أَو يتعامل معها بعفوية وارتجال، بل سعى واضعاً ومجسِّداً مبدأَ الولاية، في أكثر من حدث وموقف إما تلميحاً وإشارة وإما تصريحاً، إلى أن استكملها في قصة الغدير، حَيثُ إن الأُمَّــةَ الإسلاميةَ وفي أكثر مسائلها تأثيراً وحساسيةً، ما كان لها أن تُترك دون توضيح وترسيخ، ووضع الأسس اللازمة لتجسيد هذا المبدأ العظيم والمقوم الهام في بناء مداميك الدولة.
لقد تم اختيار وتعيين الإِمَـام عَلِـيٍّ -عَلَيْهِ السَّلَام-، لولاية أمر الأُمَّــة؛ لكونه كان هو التجسيدَ الأرقى والأسمى للإيمَـان والتقوى، وللعلم والعدل والشجاعة والتضحية، من بين كُـلِّ أصحاب النبي الأكرم (ص)، وهذا ما يثبتُ أبعادَ مبدأ الولاية ومفهوم الإدارة في الإسلام، وبذلك يتضح أن هذه الأمور هي التي يجبُ توافُرُها في الشخص المرشَّح لمهمة إدارة المجتمع الإسلامي، ولولاية أمر الأُمَّــة في أي زمان وأي مكان، وبهذه الصورة التي أرادها الله سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى وأرادها الرسول الأعظم (ص) والتي تجسّدت من خلال هذا الحدث التاريخي الهام.
وبمقتضى الحال، فقد أجمع كُـلّ فقهاء وعلماء المسلمين بمختلف مذاهبهم وطرائقهم، والمؤرِّخون بكافة توجُّـهاتهم وتعاقب أزمنتهم، وكذا رواة الأحاديث النبوية بمختلف طبقاتهم، أجمعوا على واقعة الغدير وقصة الولاية، وخطبة الرسول الأعظم -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- بعد حجّـة الوداع، فيما عُرفت بقصة الغدير وحديث الولاية، وخطبة الوداع، وذكروها بالإجماعِ واتفقوا على أن الإمَامَ عَلِيًّا -عَلَيْهِ السَّلَام- كان هو المقصود بتلك القصة دون غيره من البشر، وما اختلف البعضُ إلا في تفسير الخطبة، هل جاءت بالوصية نَصّاً على خلافة عليٍّ -عَلَيْهِ السَّلَام- لرسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- في إدارة شؤون الأُمَّــة من بعده؟، أم هي وصيةُ فقط للحفاظ على موقعه السيادي ومنزلته العظيمة في الإسلام؟.
ورغم ذلك فقد شذ البعض عن هذا المبدأ وأطلق للسانه وقلمِه العنان للتشكيك في حديث الغدير وتضعيفه؛ للتشويش فيما أجمعت عليه الأُمَّــة، مُتذرِّعين بكثرة رواته، وتعدُد طُرُق تخريجه، وهم قلةٌ قليلةٌ تكاد تكون منحصرةً في أدبيات خوارج الأُمَّــة، ومن بعدهم غُلاة الوهَّـابية، ومن قبلهم، وظّف بنو أمية كُـلّ مقومات وطاقات دولتهم لطمس ومحاربة مناقب الإمَام عَلِيٍّ (ع) خَاصَّة، وأهل البيت عليهم السلام بشكلٍ عام، وقاموا بشراء ضِعاف النفوس من الرواة وعلماء الدين لتحقيق ذلك.
وفي الواقع لم يدخر هؤلاء تحت بريق المال والجاه والسلطان، وسيلةً لاختلاق الأحاديث الموضوعة التي تنتقصُ من أهل البيت، وتحريف نصوص الكثير من الأحاديث الواردة عن النبي (ص) مما لا يتوافقُ مع هوى سلاطين بني أمية، ونسب بعضها إلى غير ما قيلت فيه، وتأويل بعضها على غير ما قصده رسولُ الله، وهناك الكثيرُ من العلماء الأحرار المعاصرين من غير الشيعة تحدثوا عن جِناية بني أمية ومن تلاهم من علماء الوهَّـابية على التعاليم الإسلامية والأحاديث النبوية، وحتى على التاريخ الإسلامي.
في المقابل لا ننكرُ قيامَ بعضٍ ممن ينتمون أَو يدّعون تشيعهم للإمَام عَلِيٍّ (ع) من تشويهِ هذا المبدأ العظيم وربطه إما بقصدٍ أَو بدون قصد، بأشياءَ وأحداثٍ خارقةً للعادة، لا يتقبَّلُها منطقٌ ولا يستصيغُها عقل، والمتتبعُ سيدركُ أنها إما جاءت مغالاة وتطرُّفاً في الاتباع، وإما محاولة للرد على الخصوم وإسكات تبريراتهم، أَو أنها كانت تأتي مقصودةً؛ بغرض التشويه ليس إلا، وحرف مسار الوعي الجمعي عن التوجّـه الحقيقي.
عُمُـومًا لو كانت الأُمَّــةُ الإسلاميةُ قد وعت يومَها عمليةَ التنصيب التي بادر إليها النبيُّ الأكرم (ص) بأمرٍ من الله تعالى في قصة الغدير وأدركت مغزاها الحقيقي، وأحسنت استيعابَها واقتفت أثرَ الإمَام عَلِيٍّ (ع)، وتواصلت التربيةُ النبوية الشريفة، وظلّلت مسيرةَ أعلام الهدى من بعده، وتربت الأجيالُ الإسلاميةُ المتعاقبةُ بظِلالِ تربيتِهم الإلهيةِ بعيدًا عن كُـلّ الشبهات والهفوات، وسارت على خُطَا الرسول الأعظم (ص)، لأفلحت الأُمَّــةُ الإسلاميةُ في بلوغ المستوى الرفيع الذي عجزت عن بلوغه.
غير أن الأمرَ اليومَ ما زال متاحاً أمامَ الأُمَّــة المحمدية لتصحيح وإصلاح ما أفسده الزمان وولاة الجَور وحكام الانبطاح وعلماء الدنيا وفقهاء الدينار والدرهم، وذلك بتوليهم الصادق لله ولرسوله وللإمَام عَلِيٍّ، لكي يحظوا بالنصر والغلبة والتمكين والتأييد.