لماذا الإمام علي؟ بقلم/ فارس السخي
إن للإنسان دوراً محوريًّا منوطاً به، ولذلك كان خليفةً في الأرض ومكرَّمًا من حَيثُ إنه إنسان. كما أن الإنسان من حَيثُ تكوينه هو مزيجٌ من نزعات ربانية وأُخرى شيطانية، من روح وحمأ، فهو خليط من أسمى السمو وأقصى الانحطاط، أما تأثيرات الدين والعبادة والأعمال الروحية وفعل الخير، فهي لأجل السمو والارتقاء وردع عناصر الانحطاط فيه، وإضعاف للنزعات الشيطانية لصالح النزعات الإلهية.
وهناك من الناس من هم أولياء لله ومن هم أولياء للشيطان، فالأول يمثل الحق، بينما الآخر يمثل الباطل. ومهمة أولياء الله دعوة الناس إلى الحق وإلى ما يسمو بهم ويضمن لهم الارتقاء إلى حياة تليق بالمكانة العالية التي من الله بها على بني آدم لتأدية مهمة الاستخلاف، بينما مهمة أولياء الشيطان تتمثل في إفساد الناس والحيلولة دون بلوغهم إلى تلك الغاية السامية، إنما هو الشيطان يوحي إلى أوليائه في كُـلّ زمان ومكان، ليسول لهم عمل الباطل، ويملي عليهم فساده، ويسني لهم طريق الضلال، فكل ما كان باطلا في أصله ما هو إلا مكيدة من مكائد الشيطان، وإن تعددت وجوهه وكثرت معاذيره.
ولما كانت مواجهة الشيطان وأولياؤه مسألة حتمية في هذه الحياة الدنيا، فقد أرسل الله للناس أنبياء، يرشدونهم إلى الحق، ويوجهونهم إلى الصواب، ويخرجونهم من براثن الشيطان وعبادة الأوثان والإفساد في الأرض، بدعوتهم لعبادة الإله الواحد القهار. ولهذا كان الله يبعث للناس أنبياء بما تقتضيه المرحلة أَو الحقبة التي يعيشون فيها، للارتقاء بالناس، وحفظ فطرتهم من الانحراف، وإنقاذهم من الوقوع في حبائل الشيطان التي وضعها لاستعباد البشرية وإيصالها إلى أقصى الانحطاط وانسلاخها من فطرتها الإنسانية والسقوط إلى ما دونها من المراتب الحيوانية.
ولطالما اصطفى الله من بين خلقه من كان أنقاهم فِطرةً، وأعظمهم خُلُقاً، وأفضلهم سلوكًا، وأحسنَهم سيرةً، فيبعثه الله للناس بمهمة معينة تتمحور حول توجيه البشرية إلى الصراط المستقيم، وتقويم واقعهم المنحرف، وإعدادهم لمواجهة الشيطان وأوليائه، وتهيئتهم فكريا ونفسيا وروحيا للمراحل التالية من نزول الوحي وتلقي رسالات الرسل والأنبياء، إلى أن أرسل الله خاتم الأنبياء والمرسلين بالقرآن الكريم، الذي به اكتملت رسالات السماء، فهو خلاصة الكتب والرسالات السماوية السابقة وتمامها، وفيه عصارة التجارب البشرية الماضية مع شرائع السماء، وبه يسمو الناس وتتحقّق لهم مهمة الاستخلاف، فبهديه يهتدون إلى الحق والصراط المستقيم، وبنوره يخرجون من الظلمات وبراثن الشيطان وعبادة الأوثان إلى النور وعبادة الله الواحد الصمد مُبدِئ الخلق خالق الإنسان، فالإسلام في جوهره إنما هو دين عمل وتوحيد ومحبة وسلام، وفي نفس الوقت هو دين جهاد وقتال ضد الظلم والظالمين، فهو امتداد لشريعة نبي الله إبراهيم، ويحوي بين دفتيه شريعة موسى الثائر على الطغاة والمستكبرين، وشريعة عيسى المنادي بالمحبة والسلام.
ومن المعروف أن مشكلةَ أتباع وأنصار الرسالات السماوية لطالما تمثلت في الانحراف والانقلاب على الأعقاب فور وفاة النبي أَو مقتله، أَو حتى بمُجَـرّد غيابه عن الساحة لبعض الوقت، كما هو الحاصل في قصة موسى مع بني إسرائيل، لذا كان لا بد لخاتم الأنبياء والمرسلين أن يعد للأُمَّـة نموذجاً للإنسان الكامل الذي لا يوحى إليه، كنتاج طبيعي لهدى الله ونجاح مهمته الرسالية -كما هو الحال مع جميع الأنبياء فموسى أعد أخيه هارون ليكون خلفا له وإماما لأمته من بعده- لضمان استمرارية السير في الخط الإلهي الرسالي الجهادي وعدم الحيد والميل عنه، أَو الانحراف والانقلاب عليه بعد وفاة النبي، فمن خلاله يتعلم الناس أن الوصول إلى ذلك المستوى من الكمال البشري ليس مستحيلا، بل يتطلب الاقتفَاء بهذا الأثر، والاتباع لهذا النهج، والإيمَـان بهذا الإله، والامتثال لهذا الدين، والتسليم المطلق لكل أوامره ونواهيه. ولما كان هناك للشيطان أولياء يتواجدون في كُـلّ زمان ومكان، كان لا بد أن يكون لله كذلك أولياء يواجهون أباطيلهم، ويصدون إفسادهم، ويدفعون ظلمهم وفسادهم، مصلحين للأرض، معمرين لها.
ومن هذا الباب تمثلت ذروة المشروع الإلهي والهدى التربوي والتعليمي في الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، الذي لم يكن إلا حصيلة لهذا المشروع العظيم. فبهِ استتمت النعمة واكتمل الدين وتم إعداد الإنسان الكامل الذي لا يوحى إليه، لمواصلة السير في الخط الرسالي الجهادي من بعد وفاة النبي، وليكون لله وليا، ولدينه نصيرا، وللقرآن قرينا، وللحق هاديا ودليلا، وللأُمَّـة إماما، فهو حجّـة على الضالين، وحرب على الفاسدين، ونكال للظالمين، وقُدوة للصالحين، وولي للمؤمنين، فليس يوجد وحي من بعد النبي، بل هناك كتاب وولي.
ولهذا كان الثقلان -كتاب الله وعترة نبيه- هما صمام الأمان من الضلال حتى قيام الساعة، فمن أراد النجاة من حبائل الشيطان، فليتولى الله ورسوله والذين آمنوا من أهل بيته القوامين بالقسط، القائمين بالقرآن. ومن ابتغى غير ذلك، فمحتمٌ عليه الارتماء في أحضان الشيطان.