الصهاينة في مكة: “إسرائيل” تحتلُّ القِبلتين!
الرياض تحاولُ “تطبيعَ” التواجد الصهيوني في أرض الحرمين وتصفُ الحادثة بـ “تسلل”!
فضيحة كبرى تعيد تسليط الضوء على مساعي العدوّ للسيطرة على المقدسات الإسلامية
المسيرة | خاص
مع إعلانِ النظامِ السعوديِّ عن فتحِ أجوائه لطائراتِ الكيان الصهيوني في إطار خطوات التطبيع العلنية التي ترعاها الولاياتُ المتحدة الأمريكية، برزت على السطح ملامحُ جديدةٌ تكشفُ أن العلاقةَ بين “الرياض” وَ”أبو ظبي” قد تجاوزت حدودَ “المصالح المشتركة” التي يتم الترويج لها كعنوان سياسي لتبرير الخيانة، ووصلت إلى حَــدِّ استهداف المقدسات الإسلامية الكبرى للعالم الإسلامي بكله، حَيثُ بدأت عناصر صهيونية بالوصول إلى الأماكن المقدسة المحظورة شرعاً على “اليهود” وغير المسلمين في مكة والمدينة، ضمن زيارات متزايدة لوفود وشخصيات صهيونية متطرفة إلى المملكة، الأمر الذي يعيد إلى الواجهة حقيقة المخطّطات الصهيونية للسيطرة على المقدسات الإسلامية و”تهويدها” في إطار المشروع الاستعماري الشامل الذي يتحَرّك وفقه العدوّ في المنطقة منذ عقود.
مراسل القناة 13 العبرية، جيل تماري، لم يكن أول صهيوني يزور المملكة، لكنه أول من يصل إلى مكة المقدسة، أَو بالأحرى أول من يتم الإعلان عن وصوله إليها، فعلى الرغم من لجوء السعوديّة إلى الإعلان عن “معاقبة مواطن سهَّلَ دخوله إلى مكة”، لم يَبْدُ أن الصهيوني كان “متسلِّلًا” خلال تجوُّلِه في الأماكن المقدسة التي تفرض المملكة قيوداً صارمة حتى على المسلمين للوصول إليها.
إضافةً إلى ذلك، فَـإنَّ محاولةَ الترقيع السعوديّة انطلقت من فرضيةِ أن وصولَ المراسل الإسرائيلي إلى مكةَ “بدون إذن” هو المشكلة، وليس وجوده داخل المملكة في المقام الأول، فالنظام السعوديّ قد فتح أبوابه منذ فترة للكثير من العناصر الصهيونية التي تجولت في عدة مناطق، بما في ذلك المدينة المنورة والمسجد النبوي الشريف.
الاختراقُ الصهيوني الأخير أثارَ موجة غضب عربية وإسلامية واسعة تأتي في إطار سخط متراكم تواجهه السعوديّة بشأن تدنيس المقدسات الإسلامية، فقبل أسابيعَ أَيْـضاً كانت حملةً واسعةً قد طالبت بمنع “خطيب عرفة” المدعو العيسي الذي يعتبر أبرز “دعاة” التطبيع المكلفين من قبل النظام السعوديّ لتبرير إقامة علاقة مع الكيان الصهيوني وصبغها بصبغة دينية.
بالتالي، فَـإنَّ إعلانَ النظام السعوديّ عن “معاقبة مواطن” سهّل عملية وصول الصحفي الصهيوني إلى مكة، لا يأتي حتى كمحاولة للتغطية على ما حدث، بل يهدفُ لتخفيف وَقْعِ حقيقةِ التواجد الصهيوني في أرض الحرمين، وتحويل الفضيحة التأريخية إلى إشكالية بسيطة بلا قيمة دينية أَو سياسية، وهو ما يؤكّـد أن المراسلَ لم يتسلَّلْ في الحقيقة بل تم إدخَالُه بكل أريحية وتم بَثُّ الزيارة في إطار استراتيجية “الصدمة”، وأما التعليق السعوديّ فقد جاء كمحاولة لفرض إطار من بارد وغير مبالي لردود الفعل الجماهيرية، أَو على الأقل حصر “الإشكالية” في الوصول إلى الأماكن المقدسة فقط.
هذا أَيْـضاً ما يؤكّـده تسلسل الأحداث وتصاعد الزيارات الصهيونية المعلنة بالتزامن مع الإعلان عن فتح أجواء المملكة للطائرات الإسرائيلية، فقد وثق مراسلان آخران زيارة لهما إلى المملكة مؤخّراً، فيما ظهر حاخام آخر يدعى “يعقوب هرتسوغ” في نيوم وتحدث عن تأسيس بيوت مراكز لنشر “اليهودية” في السعوديّة.
السيطرةُ على المقدسات الإسلامية في أدبيات العدوّ الصهيوني
الجانبُ الذي حاولت ردةَ الفعل السعوديّة اللامبالية أن تصرفَ النظر عنه فيما يخص وصول المراسل الصهيوني إلى مكة، هو دلالةُ وقيمةُ هذا الاختراق في سياق الصراع العربي الإسلامي مع العدوّ الإسرائيلي، فالوصول إلى مكة يفتح ملف مطامع ومخطّطات العدوّ الأَسَاسية في المنطقة والتي تتضمن السيطرة على المقدسات الإسلامية بشكل كامل.
لا يخفي الصهاينةُ نظرتَهم العقائديةَ العدائية نحو العالَمِ الإسلامي، وحتى مناهجُ التعليم في الأراضي الفلسطينية المحتلّة تتضمَّنُ تعبئةً عقائديةً لا مثيلَ لها في مستوى عدائيتها وكراهيتها نحو الإسلام والمسلمين، ومخطّطاتهم للاستحواذ على المسجد الأقصى بناء على هذه العقيدة واضحة ومعلنة، وبالتالي فَـإنَّ محاولة فصل أي تحَرّك صهيوني في المنطقة عن صراع الهُــوِيَّة بين العالم الإسلامي والعدوّ الصهيوني هي فقط محاولة لتجميل الخيانة.
والحقيقةُ أن الكيانَ الصهيوني لا يخفي مطامعَه في السيطرة على الحرمين الشريفين بشكل مباشر، وقد رُصدت الكثيرُ من الكتابات المنشورة والتصريحات “الإسرائيلية” الرسمية التي تحدثت بشكل صريح عن اعتبار الصهاينة أرض الحرمين “حقًّا” لهم على غرار فلسطين، من باب أن “أجدادهم” سكنوا هناك (في نهاية الستينيات صرحت جولدا مائير -رئيسة وزراء الكيان آنذاك- بأنها “تشم رائحة أجدادها في خيبر ويثرب”).
وفي هذا الموضوع بالذات ألّف الكاتبُ الصهيوني “دينيس آفي ليبكين” كتاباً بعنوان “العودة إلى مكة” حاول فيه تأصيلَ حَقِّ “اليهود” في التواجد بأرض الحرمين والسيطرة على المقدسات الإسلامية بشكل كامل، بل ويذهب إلى ضرورة “هزيمة الإسلام” كتهديد عالمي، منطلقا من أن السيطرة على مكة والمدينة واحتلالهما سيكون الطريق نحو ذلك المسعى.
هذه الأفكار ليست “تطرُّفًا” خارجًا عن سياق أدبيات وعقيدة الكيان الصهيوني؛ لأَنَّ أدبياته وعقيدته كلها تطرف واضح تجاه العالم الإسلامي، والأمر لم يعد بالإمْكَان إخفاؤه خلفَ شعارات التعايش و”السلام” مهما بلغت كثافتُها؛ لأَنَّ الصهيونيةَ نفسَها كعقيدةٍ وكنظامٍ وكقوةٍ استعمارية تعلنُ هذا المستوى من العِداءِ بشكل صريح، كما أن أرشيفَ الأحداث يبرهنُ بشكلٍ أكثرَ من كافٍ على أن الصراعَ مع العدوّ الإسرائيلي هو صراعُ وجود وهُــوِيَّةٍ في المقام الأول.
من الجانب الآخر، فَـإنَّ خطرَ مساعي الصهاينة للسيطرة على الحرمين الشريفين ليس وليدَ اللحظة، بل كانت ملامحه واضحةً وقائمة منذ سنوات طويلة أمام المراقبين لحركة ومسار الصراع مع العدوّ الإسرائيلي، فقد حذر الإمامُ الخميني قبل عقود من مخطّطات صهيونية للاستيلاء على مكةَ والمدينة، وبعده حذّر الشهيد القائد السيد حسين بدر الدين الحوثي بشكل مكثّـف من المساعي الإسرائيلية للسيطرة على الحج والمقدسات، وقدَّمَ دلائلَ حيةً من واقع مسار حركة العدوّ في المنطقة، ومن واقع طبيعة الصراع نفسه، كما تحدث بشكل دقيق عن أُسلُـوب التمهيد الإعلامي لتنفيذ هذه المخطّطات، وهو ما ينسجمُ بوضوح مع الأحداث الراهنة.
وبالتالي فَـإنَّ ما يحدُثُ اليومَ في السعوديّة لا يمكنُ فصلُه أبداً عن الاستهدافِ الصهيوني العدائي للعالم الإسلامي، وعن مخطّطاتِ الإسرائيليين لـ”هزيمة الإسلام”، بحسب تعبير مؤلفيهم.
هذه الحقيقةُ تجعلُ من زيارة مراسل القناة 13 العبرية إلى مكةَ أكبرَ من مُجَـرّد حَدَثٍ عابرٍ أَو “حادثة” كما تحاول أن تصفَها الإدارةُ السعوديّةُ والصهيونيةُ معًا؛ لأَنَّ ما حدث بالفعل هو البدءُ عمليًّا باحتلال المقدسات الإسلامية، وهذا يتجاوزُ كُـلَّ العناوين التي يتم تسويقُها لتبرير “التطبيع” بل يتجاوزُ مفهومَ “التطبيع” سيئ الذكر نفسه، ليضعَ العالَمَ الإسلامي أمام العناوين الحقيقية المباشرة والواقعية للتحَرّك والوجود الصهيوني في المنطقة وهو الغزو والاستعمار وسلب الهُــوِيَّة والحرية والحقوق.