الولايةُ كمعيار شخصي لكمال الدين..بقلم/ د. حبيب الرميمة
من الأمور المهمة التي ينبغي إدراكها أن الحملات المغرضة، التي يشنها بعض ممن هم محسوبون من أبناء جلدتنا حول الولاية واعتبارها خرافة بعد ما أضلوا الأُمَّــة لعقود من الزمن باسم البدعة، هذا التوجّـه ليس عشوائياً وإنما مدروساً بعناية وتقف وراءه مراكز دراسات تابعة للصهيونية، ذلك أن اليهود بالدرجة الأولى هم من يدركون جيِّدًا معنى الولاية وخطورة ترسيخ مفهومها لدى الأُمَّــة الإسلامية في مواجهة مخطّطاتهم لهدم الأُمَّــة وابعادها عن الطريق المستقيم الموصل إلى اتباع أوامر الله وإقامة شرعه؛ باعتبَار أن اليهود وما يحملونه من نقمة ونفسية معاندة بعد أن تنكروا لنعم الله عليهم، حرّفوا دينه فاستحقوا غضبه ونقمته، فوقفوا بموقف العداء للمؤمنين أن ينالهم خيراً من ربهم؛ بسَببِ اتباع أوامر الله تعالى كطريق يوصل إلى السعادة والفوز بالدنيا والآخرة.
(مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أهل الْكِتَٰبِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍۢ مِّن رَّبِّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ، مَن يَشَآءُ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) فهم يدركون أن أول خير تناله الأُمَّــة هو تمسكها بمبدأ الولاية ومن أمرنا الله بتوليهم؛ باعتبَارهم الأشخاص الذين يصلون الأُمَّــة ويربطونها بولاية الله ورسوله، فكان هذا الضامن الذين تخلوا عنه هو أولى مراحل استحقاقهم لغضب الله (فبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَٰقَهُمْ وَكُفْرِهِم بآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ، بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا) فهم كانوا يقرون بواحدية الله والوهيته، وبحقيقة النهج الإلهي كنصوص موضوعية بما فيه من سعادة وخير، لكن إشكاليتهم كانت تتمثل في المعيار الشخصي والتسليم لشخص من اختاره الله حتى وهم في أسوأ الحالات من المهانة والتشريد، والقرآن الكريم يصور هذه الحالة بدقة متناهية برفضهم التسليم وإشكالية المعيار الشخصي. فهم لم يستغلوا نعمة الله عليهم أن بعث لهم نبياً (داوود) في أحلك وأسوأ ظروف يمرون بها لينتشلهم من بؤسهم وإنما طلبوا منه أن يدعوا الله أن يبعث لهم ملكاً ليقاتلوا تحت إمرته، مع إقرارهم بنبوة داوود لكنهم رفضوا القتال تحت إمرته، فهم بعنادهم لا يجدون فيه الشخصية التي تجعلهم يسلمون له الأمر في إنقاذهم مما هم عليه (أَلَمْ تَرَ إلى الْمَلَإِ مِن بَنِي إسرائيل مِن بَعْدِ مُوسَى، إذ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ۖ قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأبنائنَا، فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قليلًا مِّنْهُمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ لتستمر إشكالية المعيار الشخصي ورفضهم التسليم لمن اختاره الله وفضله ملكاً عليهم (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْـمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْـمُلْكِ مِنْهُ وَلَـمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْـمَالِ قَالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْـمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) فكانت إشكالية المعيار الشخصي وتسليم بني إسرائيل لمن يختاره الله هي أولى الاختبارات التي يسقطون فيها، بل أن هذه الإشكالية تصل بهم أحياناً إلى مقاتلة انبيائهم وقتلهم، حقداً وحسداً من عند أنفسهم لتفضيل الله لهم، وهو ما يجرهم إلى الوقوع في فخ عدم التسليم لأمر الله واستحقاق عقوبته.
وإشكالية المعيار الشخصي عبر التاريخ لم تكن قاصرة على بني إسرائيل، وإنما نجد أن هذه الإشكالية كانت سبباً رئيسياً لتنكر كَثيراً من القرشيين في بداية الأمر بالإيمَـان برسول الله.
(وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ، أهم يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ).
(أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إبراهيم الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا).
ولأن الإسلام آخر دين، ورسول الله آخر النبيين والمرسلين، فكان لا بُـدَّ أن يوضح الله تعالى لعباده المؤمنين الطريق التي تحصنهم من الانحراف عن صراطه المستقيم من خلال مبدأ الولاية، كامتداد لنهج النبوة الموصلة لله تعالى.
وجعلها في شخص الإِمَـام عَلِيّ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، ابن عم رسول الله، وزوج ابنته فاطمة، بل وجعل منه ومن فاطمة امتداد لنسل شجرة النبوة من آل محمد وَآل إبراهيم إلى يوم الدين، كاصطفاء إلهي لا ينبغي للأُمَّـة إلا التسليم به.
(إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إبراهيم وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَـمِينَ، ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
وحتى لا يكون للأُمَّـة أي مناص من هذا الأمر، أَو التشكيك به عهد في تربية الإِمَـام عَلِيّ إلى رسول الله صلوات الله عليه وآله وسلم، وبعد الهجرة أمر رسول الله أن يتخذه أخاً عند المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار مع أن كليهما مهاجران، ثم يرشد رسول الله الأُمَّــة وأصحابه إلى أمر مهم بحديث المنزلة (يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي) ويجعل الإيمَـان أو النفاق مسألة مرتبطة بشخص الإِمَـام عَلِيّ: (يا عليُّ لا يحبُّك إلا مؤمنٌ ولا يبغِضُك إلا منافق)، ثم يرشد الأُمَّــة أن علياً باب مدينة علمه، وعلم رسول الله هو مستمد من الله تعالى.
وما إشهار الولاية في حجّـة الوداع قبل موته صلوات الله عليه وآله وسلم، إلا لكمال الدين، وإتمام الحجّـة على المسلمين (لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ، وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ).