الهُدنة في ميزان النفَس الطويل: من “مراوغة” عدوانية إلى فرصة لتثبيت المكاسب الوطنية
المسيرة | ضرار الطيب
على الرغمِ من انخفاض سَقْفِ المزايا الإنسانية لاتّفاق الهُدنة، بالمقارنةِ مع متطلبات معادلة السلام والحرب، إضافةً إلى سوء نوايا تحالف العدوان ومماطلته في تنفيذ بنود الاتّفاق، استطاعت صنعاءُ تحويلَ “مراوغة” العدوّ إلى فرصة استراتيجية لتثبيت المكاسب الوطنية لمعركة الصمود، ورفع مستوى الجاهزية القتالية وتحصين الجبهة الداخلية، في الوقت الذي عجز فيه العدوُّ عن المضي في مخطّطاته التي كان ينوي تنفيذها تحت غطاء الهُدنة، الأمر الذي يجعل منها مكسباً مهماً لصنعاء.
منذ الأسابيع الأولى للهُدنة، لم تنفك قياداتُ ووسائل إعلام المرتزِقة عن الحديث عن “معركة فاصلة” يجهِّزُ لها العدوُّ تحت غِطاءِ الهُدنة التي ظل التلكؤ في تنفيذ بنودها شاهداً حياً على وجودِ أهدافٍ أُخرى وراءها.
هذه الحقيقة جعلت موافَقةَ صنعاءَ على الهُدنة، ثم تمديدَها لاحقاً، تبدو في الظاهر كمكسبٍ لدول العدوان؛ باعتبَار أنها استطاعت تجنُّبَ تداعيات استمرار الحرب والحصار، بعد أن كانت الضربات العسكرية اليمنية العابرة للحدود قد وصلت إلى ذروة غير مسبوقة في العنف والاتساع.
لكن على الواقع وطيلةَ الفترات المختلفة للهُدنة، كانت كَفَّةَ ميزانِ المكاسب الحقيقية وطويلة المدى تميلُ لصالح صنعاء، وليس دول العدوان؛ لأَنَّ الأخيرةَ كانت محشورةً في دور “المضطر” لإبقاء الهُدنة مُستمرّة، وكان هذا القرار فقط بيد صنعاء التي عرفت جيِّدًا كيف تستغلُّ هذه الميزة على أكثر من مستوى.
على مستوى شروط والتزامات الاتّفاق نفسها، كان إجبارُ تحالف العدوان على التعاطي مع مطالب فتح مطار صنعاء وميناء الحديدة، اختراقاً لا يمكن تجاهُلُه لجدار التعنت الذي ظل العدوّ يبنيه لسنوات، وقد مثّل تمسك صنعاء بتلك الالتزامات والتشديد على ضرورة تنفيذها وتعويض المتأخر منها، جداراً مضاداً قطع الطريق الذي كان يريد العدوّ أن يسلكه لاستدراج صنعاء إلى مربّع المساومة والخروج عن نص ومضمون الاتّفاق.
ومع الموافقة على التمديد ازداد موقفُ العدوّ سوءاً؛ لأَنَّ صنعاء أحاطته بالتزامات أُخرى أَسَاسية؛ للحفاظ على التهدئة، وأجبرته على النزول عن الشجرة لمناقشة مِلف المرتبات الذي كان يرفض طيلة سنوات الاقتراب منه.
بالمحصلة، تمكّنت صنعاءُ من إزاحة التصورات المخادعة لـ”السلام” والتي حاول العدوّ أن يفرضَها على طاولة التفاوض طيلة سنوات، كتصورات رئيسية وضرورية ولا يمكن تجاوزها، مثل مسألة مقايضة الحقوق الإنسانية المشروعة بمكاسبَ عسكرية وسياسية، تنطوي على استمرار العدوان والحصار وإبقاء اليمن تحت الوصاية، وتسليم السلاح والانسحاب وما إلى ذلك.
وبالمقابل، استطاعت صنعاءُ أن تعيدَ ضبطَ مشهد التفاوض على أَسَاس معادلتها الرئيسية للحرب والسلام والتي تقتضي أن تتم معالجة الملف الإنساني قبل الدخول في أية عملية تفاوض حول السلام ووقف الحرب، وهو الأمر الذي وجد تحالف العدوان نفسه مضطراً للتعاطي معه لأول مرة (ولو شكلياً)؛ لأَنَّه لا يمتلك أي خيار آخر، وهو ما يعتبر مكسباً تفاوضياً مهماً لصنعاء.
تثبيتُ هذا الأَسَاس التفاوضي لم يكن تغييراً ثانوياً في المشهد؛ لأَنَّه عكس بوضوح أن كُـلَّ آمال العدوان السابقة باتت أمراً من الماضي، وهو ما يعني أن طريقةَ التعاطي الأممية والدولية مع ملف اليمن بات عليها أن تتغير لتناسب الواقع، وبعبارة أُخرى: أن مشروعية مطالب صنعاء باتت أمرًا واضحًا لا يمكن تجاوزه، وبالتالي فَإنَّه لا مجال إلى العودة للمساومات، بل إن أية محاولة من قبل تحالف العدوان لإعادة استخدام الحيل القديمة، ستكون فضيحة.
من المهم الإشارة في هذا السياق إلى أن صنعاءَ قد أخذت في حُسبانِها وضعَ معسكر العدوّ والتحديات المتزايدة التي يواجهها، واستفادت بشكل احترافي من هذا الوضع، فالنظامُ السعوديّ لجأ إلى الهُدنة في البداية مدفوعاً بضغط أمريكي؛ لضمان تدفق النفط ومواجهة تداعيات الحرب في أوكرانيا، وعلى الرغم من أن موافقةَ صنعاء على التمديد مثّل “مكسباً” لحظياً ظاهرياً للعدو في هذا السياق، إلا أنه فقد قيمته سريعاً، مع تزايد تعقيدات الوضع العالمي، وبقاء الوضع مرهوناً بقرار صنعاء ومتطلبات معادلاتها، إذ فشلت دول العدوان في الوصول إلى “تمديد” يزيد عن شهرين، وظل قلق انهيار التهدئة قائماً وخارجاً عن سيطرة العدوّ.
بنفس القدر التي أصبحت فيه الهُدنة مكسباً سياسياً وتفاوضياً لصنعاء، أصبحت أَيْـضاً مكسبا عسكريًّا كَبيراً، يمكن ملاحظته بشكل مباشر وبسهولة من خلال العروض العسكرية الكبرى التي تنفذها القوات المسلحة هذه الفترة والتي تكشف بوضوح أن صنعاءَ قد استثمرت فترة الهُدنة في رفع مستوى بناء القدرات والتجهيزات القتالية إلى حَــدٍّ صادم لدول العدوان التي كانت ما تزال تعيش وهم أنها تواجه “مليشيات” مسلحة وليست جيش دولة.
وحقيقةُ أن العدوّ كان يسعى في بداية الهُدنة إلى تحشيد أدواته وإعادة لملمة صفوفهم، تمثل اليوم مفارقةً تكشف بوضوح أن دول العدوان لم تفشل فحسب في تنفيذ المراوغة التي كانت تسعى لها تحت غطاء الهُدنة، بل إنها وجدت نفسها في النهاية أمام نتيجة معاكسة تماماً تتمثل في أن قوة وقدرات صنعاء العسكرية تضاعفت بشكل صادم، في الوقت الذي تزداد فيه وتيرة ضعف وتفكك المرتزِقة بشكل كبير.
قيمة المكاسب العسكرية والسياسية التي استطاعت صنعاء أن تجنيَها خلال الهُدنة، تبرز اليوم بشكل جلي في موقف القوة الذي أعلن منه رئيس الوفد الوطني أن فترة التمديد الحالية ستكون الأخيرة إذَا لم يتم التوصل إلى اتّفاق واضح يتضمن آلية لصرف المرتبات وإنهاء للحصار، وهو موقف لا تمتلك دولُ العدوان أمامه أيَّ خيار للمراوغة والمماطلة، فالرفض سيؤدي إلى عودة المواجهات وهو ما يعني عودةَ استهداف العمق السعوديّ بشكل أعنف وأوسع، واستئناف التحَرّك نحو ما تبقى من المناطق المحتلّة بجحافلَ ضخمة من قوات الجيش التي تم تأهيلها خلال الهُدنة، وهذا يعني هزيمة محقّقة.
محاولةُ اختلاق حيلة تفاوضية أُخرى للحِفاظِ على الهُدنة لن تجديَ نفعاً هي الأُخرى؛ لأَنَّ الأَسَاس التفاوضي التي استطاعت صنعاء تثبيته خلال فترة الهُدنة والذي يقتضي ضرورة معالجة الملف الإنساني بشكل كامل وعاجل، يقطع الطريق أمام أية مساعٍ جديدة لتضييع الوقت.
لقد تمكّنت صنعاء من جعل المأزق الذي حاول العدوّ الهروب منه أشدَّ صعوبةً مما كان عليه، ومن خلال الهُدنة نفسها التي ظنت دولُ العدوان أنها ستكون “المخرجَ” من ذلك المأزق، وسواء اختارت الآن عودة القتال أَو الاستجابة لمطالب صنعاء أَو حتى محاولة الاستمرار بالمراوغة، فَإنَّ المكاسِبَ الوطنية باتت أكثرَ حتميةً وثباتاً من أي وقت مضى، ولم تعد خيارات العدوّ في معظمها سوى مفاضَلة بين “الخسائر”.