الهُـدنة وأيديولوجيا التسليم..بقلم/ عبد الحميد الغرباني
مع تجديدِ الهُـدنة، ظهرت آراءٌ وكَتَبَ البعضُ، ينتقدُ ويعارِضُ دونما معطياتٍ لديه ولا تجربة ولا سِعَة ثقافة وتاريخ، وكُلِّ ما يُمكِّنُ من تقديمِ رأيٍ أَو ترجيحِ خيارٍ.
في الكَفَّة الأُخرى بَرَزَ مَن تصدَّى لهذه الكتابات على ضآلتها حتى وجدت لها مساحةً، هذا الفريقُ في الردِّ والتعليق اعتمد على الأيديولوجيا بشكلٍ أَسَاسي..، والعقيدةُ أَو الأيديولوجيا لمَن عابها هي أهمُّ المرتكزات الحتمية والضرورية في الطريق لضمانِ الاستقلالِ والسيادة، وعليه سنفترضُ أن المنتقدين لتمديدِ الهُـدنة تحتَ أي عنوان يتساءلون: لماذا نقولُ إن التسليمَ للسيد القائد هو الموقفُ الحكيمُ الذي يجبُ أن نلتزمَه ونطمئنَ إليه؟ وهل هذه العقيدة تُصيِّـرُ الجماهير قطيعاً؟ والثقافة القرآنية تجيبُ وليس نحن.
في فلسفة القيادة والولاية من منظور الثقافة القرآنية إن النبيَّ وَمِن بعده ورثة الكتاب، أعلام الهُدى، يبرزون أولى بالناس من أنفسهم، وعليه المطلوبُ من الناس على الدوام في ظل هذه الثقافة والعقيدة الاتّباع والتسليم المطلق للقيادة لا غير ذلك وفي القرآن الكريم درسٌ ساخنٌ يقولُ اللهُ تعالى: (فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ، فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قليلًا مِّنْهُمْ)، لقد طلب طالوت وهو مَلِكٌ وارثُ كتاب -عَلَم- وليس نبيًّا من تابعيه وَالسائرين تحت لوائه أن لا يشربوا وهم على بُعد وقتٍ قصير جِـدًّا من القتال، وذاك أمر معاكِسٌ لما تتطلبُه المعركة والقتالُ، ولكن هناك ما هو أهم -لخوض المعركة والقتال كما يجبُ وينبغي وفي حالة من الثبات والاستعداد- يجهلُه الأتباعُ وليس من الضروري البتةَ أن يُفَصِّلَه القائدُ وهو هنا طالوت، لقد تحقّق لمَن لم يَطْعَمْهُ المعيةُ أَو كونهم مِن طالوت وقد سار بهم مع أصحابِ الغرفة للمعركة وَالمواجَهة الساخنة -وهم قِلَّةٌ- مع جالوت الذي خرج بدوره على رأس جيشٍ جَرَّارٍ هُزم في ساحِ المواجهة رغمَ ضخامته، وهنا يعلِّمُنا القرآنُ أن القطيعَ هم من شربوا وَلم يلتزموا ما ذهب إليه طالوت أَو قُل المعتدين بذواتهم وليس غيرهم.
في الثقافةِ القرآنيةِ نحن مأمورون أن نسلّمَ للقائد العَلَم الحكيم لا أن نُنَصِّبَ أنفسنا عباقرةً وساسةً حاذقين، نعرفُ المصلحة وَالمستفيدَ والفائدة!، فهل يفهم ويؤمنُ منتقدو موافقةِ القيادة بشأن تمديد الهُـدنة بهذه الثقافة وينطلقون منها؟ إذَا كانوا كذلك فهذه العقيدة الصُّلبة تكفيهم لالتزامِ موقفِ القيادة وَتبنّي خياراتها، وهذا بالطبع لا يعني أن لا مصلحةَ تحقّقت مع الهُـدنة منذ بدايتها، فتخفيفُ وطأة الحصار حصل ويتسنَّى في ظلها بناءُ ما يلزمُ الصمودَ والمواجهة، بالنسبة لمن يقولُ: “على الأقل يجبُ أن يعرفَ الناسُ أَو الجماهيرُ الحكمةَ وراء هذا القرار أَو ذاك الخيار. ويتردّدُ في السؤال لماذا وكيف؟” فهو يطلب ما لا يلزمُ القيادةَ إيضاحُه وبسطُه إلا إن ترى ذلك فقط أَو ستتأتى معرفةُ ذلك في واقع الأمور، تماماً كما تبيَّنَ لأصحاب الغرفة في قصة طالوت أن ابتلاءَ النهر وَالشُّرب من عدمه كان بوابةً نحوَ النصرِ على جالوت وجيشِه واستجابةً عمليةً ثبّتتهم في ركاب طالوت، بعد أن كانوا على أُهبةِ الفِرارِ لولا أَنْ شَدَّ مَنْ لم يشربوا مطلقاً عزمَهم وزادوا يقينَهم، وفي ظل الخَلاصِ من مخاوفِ نتائج المعركة وجَلبة وخَبال من شربوا بعد أن تراءى لهم جيشٌ عرمرم، لولا ابتلاءُ النهر لقضى التنادي “لا طاقةَ لنا بجالوت وجنوده” على طالوت وَجيشه تماماً فهل يودُّ أصحابُ “لا مصلحةَ لنا في الهُـدنة” أن يذهبوا بنا إلى خياراتٍ قد تَقضِي على تطلعات الجماهير وَتسحقُهم وتُذِلُّهم الخيارات الناجعة لا تأخذُ هذا الطابع إلا حين يراها قائدُنا كذلك، ودون ذلك لا يمثل حلاً ولا مصلحةَ وبالنسبة لمَن تشعُرُ مِن كتاباتهم أن من المفترض أن تستأذنَه القيادةُ في الخيارات والحلول وَالسياسة والرؤى وَيعتقد أنه الذكيُّ والداهيةُ وَالسياسي وَيُكثِرُ من التحليلات وإثارةِ الرأي العام فمثل هؤلاء مرضى وَفي أحسن تقدير حمقى، والأحمق فيما يروى عن الإمام علي عليه السلام “يود أن ينفعَك فيضُرُّك”.
يجب أن تُوعَّى الجماهيرُ والرأيُ العام بأيديولوجيا التسليمِ للقيادة ولنا في عواقبِ خلاف ذلك عبرةٌ بما حدث يومَ أُحُد من دروس، فلو أن الرُّمَاةَ ما غادروا مواقعهم لما تحوّل النصرُ إلى فاجعة كبرى ولَما كاد يومئذ أن يُقتَلَ الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله-، لقد غيّر العصيانُ لتوجيهِه نتيجةَ المعركة وقد حُسمت وباتت الغنائم تُجمع و… إلخ، ونحن بدورنا قد نقعُ في خطأ رُماة أُحُد، إذَا ما رأينا خلافَ قرارِ وَتوجيهِ السيد عبد الملك الحوثي بالذهاب نحو تجديدِ الهُـدنة.
والحديثُ أن تحالفَ العدوان غنيمةٌ في مثل هذا الظرف من المتغيرات الدولية والحاجة الماسة لأمن الطاقة والممرات الدولية، وبالتالي الظروف مواتية لفرض اتّفاق أفضل، هذا الأمر تعلُمُه القيادةُ وتعلمُ أكثرَ من ذلك على مختلف الأصعدة، وجرى الحديثُ عنه قبيل تمديد الهُـدنة على أكثرَ من منبر إعلامي، لكن ترديدَه في معرض الاحتجاج والمعارضة على تمديد الهُـدنة يغيِّبُ عنه حساباتٍ كثيرةً ومعطياتٍ أكثرَ.
والعاقبةُ للمتقين.