الهُـدنة بين طبيعتها الإنسانية ومحاولات تسييسها: استحقاقُ رفع الحصار يعيدُ العدوَّ إلى نقطة الصفر
– صنعاءُ تمكّنت من تثبيت متطلبات التمهيد للسلام الفعلي وفرض معادلته الوحيدة
– هدفُ دول العدوان كان “المساومة” على الثوابت وهو مكسبٌ مستحيل!
المسيرة | ضرار الطيِّب
يبقى استحقاقُ رفع الحصار المفروض على اليمن، هو المعيارَ الأبرزَ لتحديد نجاح “الهُـدنة” المؤقتة أَو فشلها بشكل مباشر وأَسَاسي؛ لأَنَّ الغرض الرئيسي من الموافقة على الهُـدنة، بحسبِ ما تؤكِّـدُ صنعاءُ مراراً، كان تخفيف المعاناة التي يقاسيها المواطنون جراء الحصار، وهو ما لم يتحقّق بالشكل المطلوب؛ بسَببِ انخفاضِ سقفِ مميزات الاتّفاق وتعنت تحالف العدوان الأمريكي السعوديّ الإماراتي في تنفيذ بنوده لأغراض سياسية، الأمرُ الذي جعل قيمةَ الهُـدنة في منذ البداية متعلقة بما يمكن التقدم نحوه من خطوات إضافية، أكثر مما هي متعلقةٌ بالاتّفاق نفسه، لكن صنعاءَ تمكّنت من توجيه معطيات هذا المشهد لينتهي بمكاسب وطنية في كُـلّ الأحوال.
“تسييسُ” الهُـدنة الإنسانية
بعدَ مرورِ خمسة أشهر من عمر الهُـدنة، بات واضحًا أن تحالف العدوان حرص على أن يجعلها ذات طابع “سياسي” أكثر منه إنساني، فعلى الرغم من أن بنودَ الاتّفاق كانت في معظمها إنسانيةً ومثَّلت دليلاً قاطعاً على أن الحصارَ الذي تفرضُه دولُ العدوان هو السبب الرئيسي للأزمة الأسوأ على مستوى العالم، سعت السعوديّةُ ورعاتُها منذ اللحظات الأولى للتضليل على طبيعة الاتّفاق وتحويل الهُـدنة بكلها إلى عنوان للمساومة وخلط أوراق الحرب من خلال عرقلة تنفيذ كُـلّ البنود واستخدامها كأوراق للابتزاز والضغط وكسب الوقت على طاولة التفاوض.
بعبارة أُخرى: لقد تم الالتفافُ على الاتّفاق وإحباطه منذ البداية من خلال محاولة إخضاعه بالكامل لحسابات المصالح والمزاج السياسي لدول العدوان، وإخراجه عن إطارِه الإنساني الثابت والملزم، وهذه المناورة تأتي امتداداً للمساعي الأمريكية السعوديّة التي بدأت قبل الهُـدنة بوقت طويل والتي تهدف لجر صنعاء إلى مربع مقايضة الملف الإنساني بمكاسب عسكرية وسياسية للعدو.
وكان الإصرار على استمرار احتجاز السفن وعرقلة الرحلات الجوية ورفض فتح الطرقات، مواقفَ ترجمت بشكل واضح حرصَ تحالف العدوان على أن تبقى الهُـدنة مرتبطةً بالحسابات السياسية والعسكرية أكثر من ارتباطها بالجانب الإنساني، حتى ولو تطلب الأمر الكذبَ الصريحَ والرفضَ المعلَنَ لتخفيف معاناة المواطنين.
هذا، وبالإضافة إلى أن بنودَ الاتّفاق نفسَها كانت متواضعةً للغاية بالمقارنة مع حجم المعاناة الإنسانية، جعل الأنظار تركز أكثرَ على ما يمكن أن تؤديَ إليه الهُـدنة من نتائجَ أكثرَ، وليس على الاتّفاق الأصلي؛ لأَنَّه -ومع مرور المرحلة الأولى من الهُـدنة- كان قد تم اختزاله في مجموعة إجراءات بطيئة ومحدودة للغاية لم يتجاوزها حتى اللحظة.
لكن برغم أن صنعاءَ وافقت على التمديد مرتين بدون الوصول إلى خطوات إضافية، وبدون حتى تنفيذ الاتّفاق الأصلي بالشكل المطلوب، لم تمثل هذه الموافقة “مكسباً” لدول العدوان (حتى من ناحية “كسب الوقت” كما رأينا بوضوح في العروض العسكرية للقوات المسلحة)، ذلك أن القيادةَ الوطنية أصرت بالمقابل ومنذ البداية على تثبيت الطبيعة الإنسانية لاتّفاق الهُـدنة، وربطت موافقات التمديد بمتطلبات تخفيف معاناة المواطنين، ومنعت تحالف العدوان من أن يغطيَ على الالتزامات الأصلية برغم محدوديتها، وهو ما دفعه إلى تقديمِ تعهدات عبر المبعوث الأممي وعبر وسطاء إقليميين ودوليين، بتنفيذ تلك الالتزامات وبالعمل على الوصول إلى اتّفاق إنساني أوسع.
وبدلاً عن أن تحقّقَ دولُ العدوان مبتغاها الأصلي في جَرِّ صنعاء نحو مربع المساومة على الثوابت السياسية والوطنية والمكاسب العسكرية، استطاعت صنعاء أن تثبت على الطاولة مطالبَ إنسانيةً رئيسية لطالما تحاشاها العدوّ، كالرواتب وإيرادات النفط والغاز.. وفوق ذلك رفع الحصار المفروض على البلد.
العدوُّ يعودُ إلى نقطة الصفر.. ضرورةُ رفع الحصار
مؤخّراً، عاد الحديثُ عن الحصار إلى الواجهة بشكل قوي؛ بسَببِ “فشل” الهُـدنة في تخفيف حدة معاناة اليمنيين، وثبوت إصرار تحالف العدوان على المراوغة والمناورة.
ومع إعلان صنعاء عن أن فترةَ التمديد الحالية ستكونُ “الأخيرة” في حال عدم الوصول إلى اتّفاق إنساني شامل، أصبحت الأنظارُ تتجهُ نحو نسبةِ اقتراب تحالف العدوان من تحقيق مطلب رفع الحصار، وليس نحو إعلان “اتّفاق سياسي” لوقف الحرب كما تردّد الإدارة الأمريكية بهَوَسٍ شديد، الأمر الذي يعني أن دولَ العدوان قد عجزت عن إخضاع المِلف السياسي والعسكري (مِلف السلام) لمصالحها ورغباتها وأن معادلةَ “إنهاء العدوان والحصار والاحتلال” التي أعلنتها صنعاء لا زالت هي المعادلة الوحيدة للسلام الفعلي.
وبالنظر إلى أن استحقاقِ رفع الحصار كان هو العنوان الرئيسي للضربات النوعية المزلزلة التي فر منها تحالُفُ العدوان نحو الهُـدنة، يمكن القولُ إن الرياضَ ورعاتَها عادوا إلى نقطة قريبة جِـدًّا من نقطة الصفر التي بدأوا مناورتهم من عندها.
وحتى إن كان في جُعبةِ دول العدوان المزيدُ من الألاعيب لاستغلال أوراق الملف الإنساني؛ لتجنب عودة تلك الضربات، فَـإنَّ هذه الألاعيبَ لن تتجاوزَ سقفَ “كسب الوقت” (وهو ما اتضح أنه بلا فائدة حقيقية للعدو) ولن يصلَ تأثيرُها إلى مستوى تحقيق مكاسب سياسية وعسكرية.
ولعلَّ هذا الفشلُ والانسدادُ في أفق تحالف العدوان هو ما دفعه مؤخّراً إلى المسارعةِ نحو خلط الأوراق في المناطق المحتلّة، ومحاولة فرض أمر واقع يكرّس مؤامرة التقسيم والتفتيت ويبقي ثروات البلد خاضعة لحسابات سياسية وعسكرية، وبعيدة عن الملف الإنساني الذي تنتمي إليه في الأصل.
إنه لا زال يحاولُ إلغاءَ المرحلة الإنسانية الضرورية التي يجب المرور بها قبل الوصول إلى أي اتّفاق “سلام”، وعندما رأى أن صنعاءَ قد حاصرته على طاولة المفاوضات بالالتزامات الإنسانية التي يجب تنفيذُها لإنجاح الهُـدنة، حاول أن يغير “الواقعَ” نفسَه ليجعله كله خاضعاً لحسابات سياسية وعسكرية، وكأن تلك المحاولة ستجعل المِلف الإنساني يختفي فجأة أَو ستجعل صنعاء تتخلى عنه!
ليست هذه الحماقة الأولى يرتكبها تحالف العدوان ولن تكون الأخيرة؛ لأَنَّه يقعُ دائماً في خطأ تجاهل استمرار وتصاعد مسار التصدي للعدوان على كافة المستويات، ولن يكونَ بمأمن من تداعيات هذا الأمر إلا إذَا كان يستطيعُ أن يدفعَ صنعاءَ للمقايضة والمساومة والقبول بصفقات “الاستسلام”، وهو مسعى محكوم عليه بالفشل مسبقًا.
بعدَ يومَين ستكونُ الهُـدنة على مسافة شهر واحد من نهاية فترة تمديدها الأخيرة، وأياً كانت النتائجُ التي ستفضي إليها فَـإنَّ صنعاءَ ستكونُ الطرفَ الذي يجني المكاسبَ سواءٌ تم التوصُّلُ إلى تفاهمات جديدة، أَو من خلال العودة إلى التصعيد؛ لأَنَّ تحالُفَ العدوان لم يكُنْ بوسعه أن يسعى إلا إلى مكسبٍ واحد، هو خداعُ صنعاء وإقناعُها بقبول استمرارِ العدوان والحصار والاحتلال.. وهو مكسبٌ مستحيل!