عمليةُ أنصارية.. مشاهداتٌ في صناعة الوعي
المسيرة | وكالات
في صباح الخامس من أيلول/ سبتمبر ١٩٩٧م، جاء الخبر المصوّر من بلدة أنصارية البعيدة نسبيًا عن الشريط الحدودي، والقريبة من البحر.. إنجاز عسكري استخباراتيّ إبداعيّ بكلّ المقاييس، من عدد القتلى الكبير (١٢ ضابطًا وجنديًا من وحدة النّخبة في سلاح البحرية “شيطيت ١٣” إلى كيفية وقوع العملية التي بقيت محلّ حيرة صهيونية وتكهّنات زادها غموض المقاومة في الإعلان عن التفاصيل تعقيدًا.
يحكي التاريخ عن قوّة من نخبة “إسرائيلية” جاءت من البحر وتسلّلت عبر البساتين الساحلية؛ بهَدفِ تنفيذ عملية اغتيال ضدّ أحد كوادر المقاومة في المنطقة، وخلال سيرها تفجّرت بها عبوّات تنتظر قدومها الأكيد.
كان الكمين محكمًا، وما أوجع الصهيوني يومها ليس فقط خسارته البشرية وفشله العمليّاتي، بل التساؤل حول سرّ الكمين: هل كان صدفة أم توقّعا صحيحا أم معلومات من المفترض أنّها سريّة ولا يعرف بها داخل القيادة الصهيونية إلا عدد محدود ممّن لهم علاقة مباشرة بالتخطيط لهذا النوع من العمليات وتنفيذها؟.
شاع الخبر، وحلّ بهجةً في صفوف أهل المقاومة، مشاهد الأشلاء المبعثرة لنخبة العدوّ تركت في قلوب الناس شعورًا بالقوّة وببداية خوض مسار التعادل، مصداقاً: “يألمون كما تألموا”، بعد أن ارتبطت فكرة الأشلاء بصور أطفالنا وأهلنا ممّن سفكت أرواحهم المجازر.
في ذلك الحين، كانت مجزرة قانا الأولى تبعد مسافة عام وبضعة أشهر، كان صوت أنين الأطفال في سيارة إسعاف المنصوري قريبًا جِـدًّا، كانت أشلاؤنا التي يتناقل صورها الإعلام العالمي هي بشكل أَو بآخر الترجمة الصورية الوحيدة تقريبًا في أذهاننا للفظ “أشلاء”.
من هنا، شكّلت عملية أنصارية محطّة هامّة في مسار تشكيل الوعي المقتنع بحتمية الانتصار على الصهاينة، الصورة التي عبرت كُـلّ وسائل الإعلام المرئية في حينها وحدها كانت كفيلة بحسم قناعات من كانوا يتأرجحون بين إيمَـانهم بجدوى المقاومة وبين شعورهم بالتفوّق الصهيوني.
كانت فرصة أَو حجّـة تُرفع ضد الانهزاميين ليصدّقوا أن جيش العدوّ يُقهر، وأن أوهام التفوّق تتكسر عند أعتاب اليقين بالنصر والانتساب إلى شرف المحاولة.
أما من أصرّ بعدها على التمسّك بانهزاميّته، فقد أقرّ ضمنيًّا أنّها خيارٌ واع اتخذه مع سبق الإصرار وليس مُجَـرّد ردّ فعل على نكبات ونكسات وهزائم مرّت.
عاش الصهاينة أعواما طويلة بعدها في دوامة الاحتمالات حول كيفية علم حزب الله بالتسلّل وظروف تجهيزه للكمين، ولعل التكتّم الذي أصرّ عليه حزب الله كان جزءًا من الأسلحة التي استخدمها ولم يزل في إطار الحرب النفسية ضد العدوّ.
حتى مسألة اختراق المسيّرات المعادية كسبيل للتجسس على العدوّ ومنذ العام ١٩٩٧م، لم تظهر إلى العلن إلا في ظروف مختلفة وبعد مضي أكثر من عشر سنوات، دون أن تعطي جوابًا شافيًا تقرّ به عين الصهيونيّ القلقة الخائفة.
لم تفارق مشاهد كمين أنصارية أعين الصهاينة الذين روّعهم أن يروا أشلاء جنود نخبتهم، كما لم تفارق أعين من آمنوا بقدرات المقاومة وبإمْكَانية إيلام العدوّ وإصابته في ألف مقتل، بقيت إلى يومنا هذا، دليل ما قبل التحرير على علوّ اليقين المقاوِم ومصداق “ألا إنّ حزب الله هم الغالبون”.
لقد صنعت هذه المشاهد توازنًا نوعيًا في وعي الناس، توازنا شكّل مقدّمة تمهّد لفهم قدرة المقاومة على تحقيق التحرير الذي تمّ بعد حوالي ٣ أعوام، والذي شكّل الطور الأول من هزيمة “إسرائيل” وأدخلها عنوة في مسار الزوال الحتميّ.