مولدُ العظيم.. بقلم صالح مقبل فارع
جَمِيْعُ الكائنات كَانَتْ تترقب هَذَا الْيَوْم، جَمِيْع الكائنات كَانَتْ تترقب هَذَا المولود..
النَّاس فِيْ هرج ومرج يبحثون عن لقمة العيش، والدول فِيْ عتوِّها طغيانًا وكفرًا وإلحادًا، وَالْقَبَائِل فِيْ ذروة شركها بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَفِيْ ذروة تخبُّطها، حالتها الاجتماعيَّة يُرثى لَهَا، لَا قَانُوْن ينظم حياتهم، القوي يأكل الضعيف، الأب يئد ابنته، إذَا بُشر بِهَا يمشي مطأطئًا رأسه من الخزي والخجل من أصحابه لِئَلَّا يعيِّروه بِهَا، ظل وجهه مسودًا وَهُوَ كظيم.
الفُرس يعبدون النَّار، الرُّوْم جعلوا الله ثَالِث ثَلاثَة، الفراعنة ينكحون محارمهم، الْعَرَب خليط من ذَا وذاك، وأكثرهم كَانُوْا يعبدون الأصنام، الأصنام منتشرة فِيْ كُـلّ بقاع العالم، حَتَّى فِيْ أطهر مَكَان فِيْ بيت الله الحرام كَانَ مليئًا بالأصنام تتعدى المِئة، إبليس يسرح ويمرح من السماوات إلى الأرض ذهابًا وإيابًا، ويخترق الاسماع ويتنصَّت عَلَى الملائكة وَمَاذا يقولون.
وصلت الحال إلى حَــدّ ألَّا تجد أَحَدًا يعبد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خالقهم ورازقهم ومنعمهم وولي نعمتهم…
الجهل منتشر فِيْ كُـلّ مَكَان، شَرِيْعَة الغاب، القوي يأكل الضعيف، الْفَسَاد، الظلم، القهر، الاستعباد، الْقَتْل عَلَى أتفه الْأسباب: عَلَى ناقة أَو عَلَى سباق تقوم حرب طاحنة عشرات السنين تأكل الأَخْضَر واليابس، كُـلّ شَيْء جاهلي كَانَ موجودًا.
واستمر الحال كَذَلِكَ ردحًا من الزَّمَن، حَتَّى ضجت الأرض بِمَا فِيْهَا، وأشفق أهل السماوات مِمَّا يحدث فِيْ الأرض، من الحال الَّتِي عَلَيْهَا بني آدَم، منتظرين الفرج، منتظرين المُخَلِّص، منتظرين الرَّحْمَة.
وَفِيْ ليلة من الليالي حُجِبَ إبليس عن السماوات وحزن ورَنّ، وانقلبت الأصنام فِيْ الْبَيْت الحرام، وتساقطتْ شُرُفَاتُ إِيوَانِ كِسْرَى، وانطفأتْ نار الفرس، وغاضتْ بحيرة ساوة (1)، فعلمت الملائكة بأن الْعَظِيْم جَاءَ، والفرج أتى، والمُخَلِّص وُلِد.
واستغرب أهل الأرض من هَذِهِ الأحداث، الفرس والروم واليهود وَالنَّصَارَى والعرب مندهشين ومستغربين مِمَّا حدث؛ لأَنَّهُ جَاءَ بِدُوْنِ أسباب، فعلموا أن أمرًا مَا قَدْ حصل.
وتتبعوا الأَخْبَار، وَبَعْدَ حينٍ جاءهم النَّبَأ، جاءهم الخبر بأن فِيْ تِلْكَ الليلة الَّتِي وقعت فِيْهَا تِلْكَ الأحداث وُلد مُحَمَّد بن عَبْداللَّهِ بن عَبْدالْمُطَّلِبِ بن هَاشِم، وُلد رَسُوْل الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ-، وُلد المُخَلِّص، ولدت الرَّحْمَة، وُلد البشير النذير، وُلد السراج المنير، وُلد الَّذِيْ سيُخرج البشرية جميعاً من الظلمات إلى النُّوْر، وُلد مَنْ أرسله الله رحمة للعالمين، وُلد الحبيب لَيْسَ كأي مولود، بَلْ وُلِد مختونًا فَلَا يحتاج إلى ختّان، وُلد مقطوع السُّرَّة فَلَا يحتاج إلى قابلة تقطع سُرَّتَه، وُلد ساجدًا رافعًا رأسه إلى السَّمَاء ليعلن دين التوحيد مُنْذُ هبوطه إلى الأرض، وليقول للناس أعبدوا هَذَا واتركوا الأصنام، وصلوا هَكَذَا سجودًا وَلا تُصلوا مكاءً وتصديةً، وخلال ولادته خرج نورٌ من بطن أمه أضاءت له قصور بُصْرَى بالشام أَو ما بين المشرق والمغرب، ليقول للناس إن النُّوْر أتى، النُّوْر الَّذِيْ سيهدي النَّاس ويخرجهم من الظلمات إلى النُّوْر، النُّوْر الَّذِيْ سينتشر هديَ الله؛ بسَببِه وسيعم كُـلّ أرجاء الأرض.
وَبَعْدَ ولادته بلحظات وضعوه فِيْ برمة، فقد كانت عادة الجاهلية إذَا ولد لهم مولود بالليل أن يضعوه تحت بُرْمَةٍ لا ينظرون إليه حتى الصبح فوضعوها على رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- فانفلقت تلقائيًّا، فجاءوا بِهِ إلى جده عَبْدالْمُطَّلِبِ، فسمَّاه مُحَمَّدًا؛ لأَنَّه رأى أن سلسلة من فضة خرجت من ظهره، لها طرف في السماء وطرف في الأرض والشرق والغرب، ثم عادت كأنها شجرة على كُـلّ ورقة منها نور يتعلق بها أهل المشرق والمغرب، فسماه محمدًا ليحمده أهل السماء وَالأرض.
وَفِيْ تِلْكَ الليلة [ليلة 12 رَبِيْع الأول، ليلة ولادة رَسُوْل الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ-] صرخ يهودي قائلاً: طلع نجم أحمد؛ لأَنَّهُ يعرفه كَمَا يعرف نفسه، يعرف أوصافه وخصاله وأيامه وموطنه واسمه وكل شَيْء يَتَعَلَّق بِهِ كَمَا يعرف أبناءه، يعرف بأن محمدًا هُوَ نبي هَذَا الأُمَّــة، يعرف بأن النَّبِي وَالرَّسُوْل الخاتم قَدْ وُلد؛ لأَنَّ التوراة بشّرت بِهِ، والإنجيل بشّرت بِهِ، وكل الأنبياء والكتب السماوية ذكرته اسماً ووصفًا وأمرت أتباعها باتِّباعه.
كل هَذِهِ الأحداث والإرهاصات كَانَ تُنبئ بأن مُحَمَّدًا عَظِيْم عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. ففرح أهل السماوات وَالأرض من الْحَيَوَانَات والملائكة بمولده، وها نَحْنُ فِيْ هَذِهِ الأيّام سنفرح لفرحهم وسنفرح بمقدم رَسُوْل الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- فِيْ يَوْم مَوْلِده الشَّرِيْف. قَالَ شوقي:
ولد الْهُدَى فالكائنات ضياءُ وفمُ الزَّمَان تبسُّمٌ وثناءُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المصادر: السيرة النَّبَوِيَّة لِلدُّكْتُوْرِ الْمُرْتَضَى بن زيد الْمَحَطْوَرِي 24، وعزاه إِلَى: الدلائل لأبي نعيم 36، والدلائل للبيهقي 1/80، سبل الهدى 1/409 – 438، والمصابيح 104، وابن هشام 1/166و168، والبداية والنهاية 2/216، وسيرة ابن كثير1/245، والروض الأنف1/173.