إصرارُ العدوّ على تسييس وعسكرة القضايا الإنسانية: مِلفُّ الأسرى نموذجاً
المسيرة: ضرار الطيب
مثّل تبادُلُ الوفود بين صنعاءَ والرياض لإبرام صفقة تبادُل الأسرى خطوةً إيجابيةً غيرَ مسبوقة في مسار التفاهمات، لكن إيجابيتَها لا زالت محدودةً ومنحصرةً في جانب واحد، وبالتالي فهي لا تكفي لتكونَ مؤشرًا على وجود “تقدُّمٍ” حقيقي في مسارِ التهدئة أَو السلام بشكل عام، بل إنَّ المواقِفَ المعلَنة لتحالف العدوان ورعاته حتى الآن تؤكّـد أنهم يبحثون عن المزيد من الضغوط ويحاولون جر صنعاء إلى مسارات التفافية لا تتضمن حلولاً حقيقية وواضحة لتخفيف معاناة الشعب اليمني ولا تؤدي إلى السلام الفعلي، وهو ما يعني أن العدوّ مُستمرّ في استخدام أوراق الملف الإنساني للمراوغة وكسب الوقت وأن موقفه لم يتغير بما يكفي لتجنب خطر عودة التصعيد العسكري.
منذ مارس الماضي، عرقل تحالف العدوان تنفيذ اتّفاق رعته الأمم المتحدة لتبادل أكثر من 2200 أسير من الطرفين، وقام بمنع مرتزِقته من الاستجابة لأية جهود محلية لتبادل الأسرى في أية جبهة، وبرغم من الاجتماعات واللقاءات التي جرت لتنفيذ الاتّفاق وتحريك المياه الراكدة في هذه المِلف خلال الأشهر الماضية، لم يتغير موقف العدوّ إلا بعد انتهاء الهُــدنة وبروز مؤشرات خطيرة لعودة التصعيد.
إخضاعُ مِلَفِّ الأسرى للرغبات والحسابات السياسية والعسكرية ليس أمرًا جديدًا على تحالف العدوان، ففي 2020 وافق على صفقةِ تبادل كانت هي الأكبرَ حتى ذلك الوقت، لكن دافعَه الرئيسي وراء ذلك كان محاولة تهدئة الضغط العسكري الذي كان يتعرضُ له في جبهات محافظة مأرب، بحسب تصريحاتٍ لناطق القوات المسلحة العميد يحيى سريع آنذاك.
بالتالي فَـإنَّ “تجاوُبَ” تحالف العدوان في ما يخُصُّ مِلف الأسرى لا زال حتى الآن “اضطراريًّا” ومحكومًا بالظروف والتهديدات التي يواجهها، وليس برغبته في تحقيق أي تقدم في الملف الإنساني فضلاً عن رغبته المزعومة في السلام، وهذا ما أكّـدته بوضوح تصريحاتُه الأخيرةُ التي حاول فيها تقديمَ خطوة تبادل الوفود تحت عنوان “مساعي تمديد الهُــدنة” وهو العنوان الذي حرص رئيسُ اللجنة الوطنية لشؤون الأسرى، عبد القادر المرتضى على إزالته من خلال التأكيد على أن زيارة الوفود “ليس لها علاقةٌ بأي نقاش أَو حوار سياسي آخر”.
عنوانُ “تمديد الهُــدنة” الذي حاول العدوّ أن يغلِّفَ به عمليةَ تبادل الوفود، هدفُه تكريسُ تصوُّرٍ معين يريدُ التحالفُ فرضَه على واجهة المشهد منذ مدة، وهو أنه “حريصٌ” على إنجاح الهُــدنة، وأنه يقدِّمُ “تنازلات”، وأن صنعاءَ هي الطرفُ المعرقِلُ، وهو نفسُ التصور المخادع الذي تنطلقُ منه مساعي الولايات المتحدة والمبعوث الأممي ومجلس الأمن لخلقِ ضغوطٍ على صنعاء؛ مِن أجلِ إجبارِها على القبول بتمديد الهُــدنة وفق شروطهم.
هذا التصوّرُ يوضحُ أن تحالف العدوان ورعاته يحاولون بكل جهد تجنب التجاوب الفعلي مع متطلبات تجديد التهدئة فضلاً عن متطلبات السلام الفعلي، وهو ما يعني أن موافقةَ النظام السعوديّ على التعاطي مع صفقة تبادل الأسرى، ليست سوى محاولة لـ “اللعب” بورقة الأسرى على طاولة التفاوض، تماماً هو الحالُ مع بنود الهُــدنة المنتهية التي أصبح واضحًا أن تحالف العدوان لجأ إليها “مضطرًّا” كتكتيك لكسب الوقت وتضليل الرأي العام والبحث عن مسارات حرب أُخرى أقل تكلفة.
بالنسبة لصنعاءَ فإبرامُ صفقة التبادل، مثل إعلان اتّفاق الهُــدنة في ابريل، يعتبر مكسبًا وإنجازًا من إنجازات مسار “انتزاع الحقوق”، فوجودُ حسابات وأهداف غيرِ معلَنة لدى التحالف من وراء مثل هذه الخطوات لا يعني بالضرورة أنه قادرٌ على تحقيقها، ومثلما عجز عن جَرِّ صنعاء إلى مربع المساومة على الاستحقاقات تحت مِظلة الهُــدنة، لن يستطيعَ استخدامَ صفقة الأسرى كحيلة لتجديد الهُــدنة بشروطه.
سببُ ذلك هو أن صنعاءَ تمتلك موقفًا ثابتًا بما يكفي لإزالة مفعول أية ألاعيب أَو حيل أَو ضغوط لدى تحالف العدوان ورعاته، بحيث لا يمكنهم استخدامُ الأسرى كورقة للالتفافٍ على مطلب صرف المرتبات مثلاً، ولا يستطيعون تعديلَ أَو سحبَ استحقاقِ رفع الحصار بأيةِ ضغوطٍ أَو تهديدات.
وهذا ما عبّر عنه التصريحُ الأخيرُ لرئيسِ الوفد الوطني محمد عبد السلام الذي أكّـد فيه أن “الهُــدنةَ انتهت؛ بسَببِ تعنُّتِ تحالف العدوان”، في إشارة واضحة إلى أن استخدام أية أوراق أَو ضغوط تحت عنوان “تمديد الهُــدنة” لن يغير في الواقع شيئاً، ولن يلغي أَو يعدِّلَ الاستحقاقات التي يتطلبها أي اتّفاق جديد.
بعبارة أُخرى: لقد نجحت صنعاءُ في منع تحالف العدوان من تسييس وعسكرة المِلف الإنساني عمليًّا، وجرّدت محاولاتِه لاستغلال أوراق هذا المِلف من أية إمْكَانية للحُصولِ على مكاسبَ عسكريةٍ أَو سياسيةٍ، وهو ما يعني أن مأزِقَه التفاوضي أصبح سيئًا كمأزِقِه الميداني.
ربما لهذا السبب يكثّـفُ الرعاة الدوليون لتحالف العدوان جهودَهم لإرهاب صنعاء والضغطِ عليها، وهو تحَرُّكٌ يأتي عادة عندما يصلُ تحالُفُ العدوان إلى نهايات مسدودة، وفي العادة تصلُ تلك الجهودُ الدولية إلى نفس النهايات؛ لأَنَّ معطياتِ الواقع قد خرجت عن سيطرة معادلاتِ وحسابات تحالف العدوان ورعاته منذ سنوات، وأصبحت المعادلةُ الحاكمةُ هي معادلةَ الحرب والسلام الرئيسية التي فرضتها صنعاء، والتي تقتضي أن المكسبَ الوحيدَ الذي يمكنُ لتحالف العدوان الحصولُ عليه هو عدمُ التعرُّضِ للمزيد من الضربات الموجعة، والطريقةُ الوحيدةُ للحصول على هذا المكسب هي إنهاءُ العدوان والحصار والاحتلال ودفع التعويضات، ما يعني أنه لا يوجدُ مجالٌ لأية أهداف أَو مكاسبَ أُخرى.