في ذكراها الـ59 وجنوب اليمن محتلّ.. الثورة التحرّرية مُستمرّة.. لتبديد آمال عودة المحتلّ البائد
زخم ثوري جعلها باقية تنبض بالحرية والاستقلال
المسيرة: عباس القاعدي
حلَّت علينا الذكرى التاسعةُ والخمسين لثورة 14 أُكتوبر التي انطلقت ضد الاحتلال البريطاني، والمحافظات الجنوبية تعيش واقعاً احتلاليًّا جديدًا تتزعمه قوى الاستكبار العالمي أمريكا وإسرائيل وبريطانيا وأدواتها دول العدوان السعوديّ والإماراتي، اللتين تقودان التآمر وتنفّذان الأجندة الغربيةَ.
تسعة وخمسون عاماً على انطلاق الثورة، تكاثرت فيها الأحداث وتغيّرت الشخصيات وتبدّلت المعادلات، وعادت لتستقر عند النقطة الصفر، وجنوب اليمن تحت الاحتلال من جديد، النقطة التي تتحدث وفق تفاصيل واقع اليوم عن تعدد مظاهر عودة الاستعمار البريطاني ومعه الاستعمار الجديد المتمثل في دول العدوان الأمريكي السعوديّ الإماراتي، وما أسّست له بريطانيا من هُــوِيَّات مصطنعة عن طريق دعمها حكم السلطنات الذي كان قائماً إبان استعمارها جنوب اليمن.
اليوم عاد الاستعمار الجديد في صورة تشكيلات وتسميات تعزز الانتماءات المناطقية والمشيخية، بعد أن انهت ثورة 14 أُكتوبر تراكمات 129عاماً من الطغيان والعبث الاستعماري البريطاني، وقدمت في سبيل ذلك عشرات الآلاف من الشهداء، وللأسف لم يتبقَّ من هذه الثورة سوى الاسم فقط، الصورة انقلبت رأساً على عقب، والمفاهيم تغيرت، والأدوار تبدلت، والمستعمر لم يعد مستعمراً بل محرّراً، ومقاومة المستعمرين لم تعد عملاً وطنياً بل عمالة وخيانة وإرهاباً، وبقي المشترك بعد 59 عاما المحافظات الجنوبية المحتلّة، بما تتوافر عليها من موقع استراتيجي وثروات، وأصبحت ساحة لعبث المحتلّين، ومسرحاً للأطماع ونهب المهيمنين، القدماء والجدد، ولهذا لا زالت ثورة 14 أُكتوبر تنبض بالحرية والاستقلال، من وسط العاصمة صنعاء حتى عدن، في ظل القيادة الثورية والسياسية والعسكرية.
محطةٌ تاريخية
في هذا الصدد تقول مصادر تاريخية: إن ثورة 14 أُكتوبر كانت من أقوى الثورات الشعبيّة في المنطقة العربية، ضد الاستعمار القديم من حَيثُ تلاحمها بالجماهير ووضوح أهدافها وقوتها، مؤكّـدة أن قوى الاحتلال الجديد لن تستطيع الصمود أمام إرادَة الشعب اليمني وأبنائه الأحرار، مشيرة إلى أن الذين صمدوا أمام قوة المستعمر وبطشة وجبروته وتمكّنوا من إسقاط كافة مشاريع الاحتلال البريطاني وأدواته في الجنوب وطرده في ستينيات القرن الماضي، قادرون على إفشال كافة مخطّطات المحتلّ الجديد، في محافظة عدن التي تعد قبلة الأحرار، وبقية المحافظات المحتلّة.
وتؤكّـد المصادر، أن هزيمة المحتلّ ستكون مؤلمة على أيدي الشعب اليمني الصامد الذي وقف منذ سبع سنوات إلى جانب قيادته الثورية والسياسية والعسكرية، في مواجهة دول العدوان الأمريكي.
وبحسب المصادر فَـإنَّ الذكرى الـ59 لثورة 14 أُكتوبر محطة في تاريخ الشعب اليمني الصامد الذي يواجه منذ سبع سنوات عدوانا غاشما، ويوماً استثنائيًّا ليس في حياة الشعب اليمني فحسب وإنما يومٌ لم ينسَه المحتلّ البريطاني، الذي أصبح شريكاً أَسَاسياً في العدوان على اليمن، وأصبح يدرك مدى أهميّة هذا اليوم والخسارة الكبيرة التي مُنيت بها الإمبراطورية التي غابت عنها الشمس في 14 أُكتوبر و30 من نوفمبر.
وحول الهدف الرئيسي من الذكرى السنوية لثورة 14 أُكتوبر في ظل الحرب التي يعاني منها الشعب اليمني شماله وجنوبه، تؤكّـد المعلومات التاريخية أن الذكرى السنوية لثورة 14 أُكتوبر المجيدة تحوّلت إلى محطة إلهام سنوية، يستلهم منها الدروس والعبر، ويستذكر فيها واحدية الكفاح والنضال والهدف، وكذلك للاستفادة من تجارب السلف في النضال والتضحية والاستبسال في وجه الاستعمار البريطاني البغيض، لإسقاط مشاريع التآمر الجديدة الرامية لإذلال الشعب اليمني ونهب خيراته ومقدراته والسيطرة على قراره، ولهذا فَـإنَّ مشاريع المستعمر الجديد سيكون مصيرها نفس مصير المحتلّ البريطاني القديم في المحافظات المحتلّة، موضحة أن الاحتفاء بهذه الذكرى لم يعد احتفاءً عابراً كما كان قبل سنوات، بل إن الاحتفاء بثورة غيرت مجرى التاريخ في جنوب اليمن وأرغمت بريطانيا الاستعمارية على الرحيل، بل محطة سنوية هامة في ظل التقاسم المكشوف بين دول العدوان لثروات ومقدرات المحافظات الجنوبية المحتلّة، ونهج تفتيت الوحدة الاجتماعية والسياسية للبلد، وتقاسم الثروات النفطية بين الغزاة الجدد وأدواتهم من جماعات ومراكز نفوذ عسكرية وقبلية ومليشيات متعددة الولاء، فهذا اليوم الأُكتوبري يعد محطة سنوية يتذكر فيها اليمنيون مسار التحرّر وتاريخ ثورة الآباء في سبيل تحرير الأرض والإنسان من إمبراطورية لم تكن تغيب عنها الشمس، وبإرادَة الأحرار تحرّر الجنوب من الاستعمار، ونالت استقلالها الكامل على كامل ترابها الوطني لتغيب شمس عدن عن إنجلترا.
واحدية النضال والهدف
لم تكن ثورة 14 أُكتوبر إلَّا تجسيداً حقيقيًّا لنضال الشعب اليمني الذي خاض معركته ضد الاستبداد والاستعمار، حَيثُ تميزت بأنها ثورة وحدوية يمنية خالصة، شارك فيها اليمنيون من مختلف أرجاء البلاد، سواءً من الجنوبيين أَو الشماليين، الذين هبوا من كُـلّ مكان؛ مِن أجلِ الكفاح والنضال ضد الاحتلال البريطاني، وتشكلت وحدة الصف في هذه الثورة، وكانت من بين العوامل التي أسهمت في نجاحها بطرد الاحتلال البريطاني الذي كان يسيطر في القرن العشرين، على مساحاتٍ واسعة من العالم.
ولهذا فَـإنَّ ثورة 14 أُكتوبر تعد حصاد سنوات من النضال المتواصل في مختلف الأصعدة العسكرية والسياسية والاجتماعية والثقافية من مختلف تيارات المجتمع القومية والإسلامية والقبلية ومن كُـلّ اليمنيين في الشمال والجنوب، وقد أكّـدت هذه الثورة بقيامها واحدية الثورة اليمنية ووحدوية اليمنيين عبر التاريخ وهي حقائق لا تقبل الشك أَو الجدال مهما حاول البعض ممن لم يعيشوا عصر الثورة اليمنية سبتمبر وأُكتوبر والأحداث التي رافقتهما أن يزرعوه في نفوس الأجيال من عوامل التشطير وإثارة العنصرية والمناطقية المقيتة.
وعلى الرغم من محاولات دأب عليها الاحتلال البريطاني؛ مِن أجلِ زرع الشقاق والتمزق والفرقة في صفوف اليمنيين جنوباً وشمالاً، إلا أن واحدية المصير وتطلعهم للانعتاق من كُـلّ أصناف الظلم، أجبرهم على ترك كُـلّ الخلافات والعمل صفاً واحداً؛ مِن أجلِ تحقيق رغبات الشعب في طرد الاحتلال والتخلص من ويلات الاستعمار وأوجاع المحتلّ الأجنبي.
في هذا السياق كانت وما زالت صنعاء والقوى المناهضة للمشروع الاستعماري في صدارة المشهد الوطني وعليها أن تدرك مسؤوليتها التاريخية والحضارية، فقد شاءت لها الأقدار أن تضعها في الصدارة وهذا قدرها الذي وضعها الواقع فيه.
الاقتصاد وجوهر السياسة
وبخصوص أهداف الاستعمار البريطاني، تؤكّـد المعلومات التاريخية أن الثوار اليمنيين أدركوا حينها أهداف الاستعمار، التي تتضمن عملية التفكيك ودعم السلاطين لإذكاء الصراعات القبلية، ليبقى الأقوى يمارس سلطته ويمزق البلاد، وما زالت آثار الاستعمار باقية إلى الآن في الجنوب بمشاريع التفكيك ودعوات الانفصال والتمزيق، والتي عادةً ما تغذيها أجندة خارجية، لأهدافها الخَاصَّة في إبقاء الصراع والتحكم بالثروات السيادية ونهبها.
ولهذا كان الاقتصاد الهدفَ الرئيسي للمحتلّ خلال عقود الاحتلال البريطاني في جنوب اليمن، وكان التقسيم والنزعات الانفصالية والمناطقية، جوهر السياسة الاستعمارية التي جرى تطبيقها، فكانت بذلك تعزز بقاءَها في مدينة عدن للتحكم الاقتصادي بأحد أهم الموانئ في العالم، وكان يضمن مصالحها الاقتصادية، حَيثُ كان الاحتلال يسيطر على ميناء عدن وبقية الموانئ، وحول مدينة عدن إلى مركز اقتصادي لصالحه وكان يتحكم في التجارة الدولية والإقليمية، وقام بتدمير الاقتصاد الطبيعي اليمني (الثروة السمكية والحيوانية والزراعية) وأصبحت البلاد، سوقاً لمنتجات الشركات الاحتكارية الأجنبية، واقتصر اهتمام المستعمر على تطوير الجوانب الخدمية، كالتسهيلات التجارية والمالية، على حساب نمو الصناعة والزراعة، مما أوجد في بلادنا اقتصاداً مشوهاً وحيد الجانب ذا طابع طُفيلي.
ومن هذا المنطلق فَـإنَّ العدوان أعاد الجنوب إلى ما قبل 14 أُكتوبر 1963م، حَيثُ أعادت الحرب المُستمرّة للعام الثامن على التوالي، تلك الظروف التي عاشتها اليمن، من خلال العمل بذات الاستراتيجية القديمة للاستعمار البريطاني، المتمثلة في إعادة النزعات الاستقلالية في كُـلّ محافظة على حدة من خلال إعطائها حكماً ذاتياً وفصلها عن محيطها إدارياً وعسكريًّا في إحلال ميليشيات ودعمها بمسميات وأهداف مناطقية، خدمةً لأجنداتٍ خارجية تهدف للسيطرة والاستحواذ على الممرات والموانئ والجزر الاستراتيجية التي تكتسب أهميّة دولية.
شواهد تاريخية
ولأن مدينة عدن تمتلك موقعاً استراتيجياً ذا أهميّة اقتصادية، ذكر الحاكم البريطاني في بومباي في رسالة موجهة إلى مجلس إدارة شركة الهند الشرقية في 27 فبراير 1838م ما يلي: إن عدن بالنسبة لنا لا تُقدَّرُ بثمن فهي تصلحُ كمخزن للفحم طيلة فصول السنة ويمكن أن تكون ملتقى عاماً للسفن المستخدمة طريق البحر الأحمر وقاعدة عسكرية قوية بواسطتها يمكننا أن نحمي ونستفيد من تجارة الخليج العربي والبحر الأحمر، وعدن متى أصبحت في أيدينا ستكون صعبة المنال من البحر والبر.
أما الكابتن هينس القائد العسكري للحملة البريطانية على عدن فقد كتب إلى حكومته قائلاً: “إن هذا المرفأ العظيم –عدن– يمتلك من القدرات والإمْكَانات ما لا يملكه ميناءً آخر في الجزيرة العربية فهو يحتل مركزاً تجارياً ممتازاً لا شك أنه أنسب الموانئ الموجودة لمواصلات الإمبراطورية عبر البحر الأحمر”.
ولهذا وبحكم موقع عدن الاستراتيجي والمناطق الجنوبية وبهدف السيطرة عليها والتحكم فيها أعاد الاستعمار القديم الاحتلال الجديد للتحكم ونهب الثروات وما العدوان والحرب على اليمن إلَّا شماعة لتحقيق الأهداف والسياسات القديمة والجديدة.
الجنوبُ والاحتلال الجديد
وباعتباره احتلالاً جديداً يسعى لامتصاص ثروات اليمنيين والتحكم بمصيرهم، وتدمير كُـلّ مقدرات البلاد، تواصل دول العدوان إفراغ المجتمع الجنوبي من قوته البشرية واستنزاف أبنائه في جبهات حرب عبثية لخدمة الاحتلال من خلال تشكيل مليشيات عسكرية، واستهداف اللحمة الاجتماعية وإثارة العنصرية والمناطقية في أوساط المجتمع وتحويل عدن والمحافظات الجنوبية المحتلّة إلى ساحةٍ للصراعات، يتمكّن من خلالها الاحتلال الجديد من تقاسم النفوذ فيها ونهب ثرواتها النفطية والغازية وتجريف الثروة السمكية من المياه الإقليمية اليمنية، والتحكم والسيطرة على الموانئ والمطارات، وتحويلها إلى قواعدَ عسكرية للقوات الأمريكية والبريطانية والإسرائيلية، ولهذا فَـإنَّ أحداث اليوم تهدف إلى إعادة مشاريع الاحتلال القديم كالمليشيات التابعة للاحتلال ودعم المشيخات والسلاطين التي سقطت في الـ 30 من نوفمبر، وفتح المحافظات الجنوبية للاحتلال البريطاني والإسرائيلي وتحقيق مخطّطات أمريكا السابقة بالتواجد العسكري في السواحل الغربية والشمالية لليمن وعلى امتداد البحر العربي.