مدوّنةُ السلوك الوظيفي من النظرية إلى التطبيق..بقلم/ عبد القوي السباعي
يعتبر السلوكُ المسؤولُ والإيجابي على وجه العموم ذلك التصرُّف الواعي لأي فرد، والنابع عن ثقافته ووعيه وإدراكه لدوره في هذه الحياة تجاه نفسه ومحيطه ومجتمعه ووطنه، واستشعاره الدائم للمسؤولية بالواجب، وتحمل كُـلّ ما يصدر عنه من قولٍ وفعل، وفق سلوك ينسجم مع فطرته الدينية والإنسانية، ومع قيمه الوطنية والأخلاقية والقانونية.
والسلوك الوظيفي على وجه الخصوص، هو تفاعل سلوك الفرد مع نظام العمل داخل محيطه العملي، وذلك عن طريق تقبل نظام العمل في هذه المنشأة كما هو، لا كما يُحب أن يكون، وهذا السلوك عبارة عن مجموعةٍ من الأفعال والتصرفات والأنشطة التي يمارسها الفرد داخل المنشأة، بقصد تحقيق أهدافها ومخرجاتها وخدماتها التي أنشئت؛ مِن أجلِها، ويأتي تالياً إشباع هذا الفرد (الموظف) لحاجاته ورغباته المشروعة له نظير خدماته.
في هذا السياق، عمدت الكثير من الحكومات في مختلف بلدان العالم على ترسيخ وعي جمعي داخل مؤسّساتها، قائم على نظام محدّد وثابت يدير تفاعلات الأفراد في محيطهم العملي، بطريقةٍ تعرفهم على حقوقهم وواجباتهم وحرياتهم ومستويات صلاحياتهم الممنوحة، تضمنت تشريعات قانونية وقواعد سلوكية وأخلاقية ومهنية تنظم العلاقة بينهم وبين نظام العمل من جهة، وبين المستفيد من خدماتهم من جهةٍ أُخرى، وأطلقت على هذا النظام مسمى “مدونة السلوك الوظيفي”، وهي عبارة عن مجموعة من المبادئ والتشريعات والأعراف، والتي جاءت بمرتكزين، الأول هو الركيزة الإلهية أَو السماوية التي أنزلها الله سبحانه وتعالى، والثاني هو المرتكز البشري الذي قام بوضعه البشر من قوانين ولوائح تنظيمية.
ولأن الجمهورية اليمنية عانت الكثير من الاستهداف الممنهج من قبل الأعداء التاريخيين لها، على مدى عصورٍ من الزمن، جردت الانتماء والولاء الوطني من محتواه، وافرغت الوطنية من مضامينها، وهوت بالموظف الحكومي إلى مستنقع التحصيل المادي فساداً وإفسادا، رافقها الكثير من التراكمات الثقافية السلبية التي جعلت من الوظيفة العامة مغنم وتشريف لا تكليف، افرزت العديد من الثقافات والمصطلحات التي منها على سبيل المثال: (من تولى على البيضة آكل منها.. إذَا أَدَّت لك الدولة مرق لقيت طرفك.. أحمر عين.. يخرج غداه من غدا الذيب).. وهكذا.
لذلك وكثمرةٍ من ثمار ثورة الـ21 من سبتمبر المجيدة، جاءت مدونة السلوك الوظيفي كاستحقاقٍ شعبي في إطار الرؤية الوطنية الشاملة لبناء الدولة اليمنية الحديثة وضمن محور بناء الموارد البشرية وتعزيز آليات الشفافية والنزاهة ومحاربة الفساد والجمود والاختلاس.
مدونة السلوك الوظيفي والتي أشار إليها الرئيس مهدي المشاط على أنها تمثل اعتزازاً بهُــوِيَّتنا الإيمَــانية، وتعزيزاً لمسار تصحيح أداء مؤسّسات الدولة وكادرها الوظيفي في مختلف المستويات نطلق العمل بمدونة السلوك الوظيفي وأخلاقيات العمل في وحدات الخدمة العامة.
واعتبرها الرئيس المشاط، “ميثاق شرف ملزم، تتكون من مجموعة من المبادئ والقيم، والقواعد السلوكية، والأخلاقية، والمهنية، والتي تصحح مفهوم الوظيفة العامة؛ باعتبَارها مسؤولية لخدمة الناس في المقام الأول، وينظر إليها نظرة مقدسة، نظرة أخلاقية، ودينية، وقيمية، وإنسانية”.
ما يجب علينا اليوم هي كيفية تطبيقها في الواقع العملي الذي لا يمكن إلا بتحقيق الوعي المجتمعي والولاء الوطني، وتطبيق النظام والمحافظة عليه، فالأنظمة والقوانين لا يمكن تفعيلها وتطبيقها بحذافيرها إلا من خلال الممارسة وتعلم مهارات تطبيقها وتنمية الوعي الجمعي عليها، بدءًا بالمستويات الإدارية العليا فالوسطى مُرورًا بالدُنيا، وانتهاء بالمجتمع، إذ يعول كَثيراً على وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية والإرشادية تنمية وتعزيز هذه الثقافة، كما يجب على الآباء والأُمهات من خلال الأسرة تربية أطفالهم على هذا النحو، لضمان تطور المجتمع علمياً وعمليًّا وثقافيًّا.
هذا الوعي يكون نتيجة للتفاعل بين الموظف والعالم المادي الذي يحيط به، بما يساعد على تطور المجتمع واستقراره والنهوض به، فالوعي بصورة عامة هو إدراك الإنسان لذاته وللأشياء التي تحيط به، وهذا يعد أَسَاس كُـلّ معرفة، فالوعي الوظيفي في إطار مدونة السلوك هو مجموعة من الأفكار والنظريات والآراء والمشاعر والعادات والتقاليد التي نمتلكها كأمة مسلمة والتي تعكس صورة واقعنا إما سلباً أَو إيجاباً.
الوعي المنشود منّا اليوم شيء لا يمكن فصله عن الوعي الذاتي؛ لأَنَّه لا يمكننا أن نشير لأنفسنا دون الإشارة إلى الجماعة التي نعيش معها والعكس، وهذا يرجع لكوننا جزءاً لا يتجزأ من المجتمع، وهذا المستوى من الوعي يكون فيه الفرد مدركاً لكيفية تأثره بالآخرين وكيف أن أفعاله تؤثر في غيره وأفعال غيره تؤثر فيه، وهكذا.. أسأل الله أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.