مدوّنةُ السلوك الوظيفي.. ثورةٌ إداريةٌ وأخلاقية
المسيرة| الدكتور محمد البحيصي*
أُثيرت ضَجَّةٌ حولَ هذه المدونة، ولعلَّ الكثيرين ممّن اشتركوا في هذه الضّجة لم يقرأ المدوّنة؛ وَلِأَنَّها فقط جاءت من هذا الفريق كان ذلك سبباً في رفضِها والمشاغبة عليها.
الكُلُّ في اليمن يعترفُ بحجم الفساد الإداري والوظيفي والمالي، وحتى الأخلاقي الذي تعيشُه مؤسّساتُ الدولة، وأستطيع القول بأنّ هذا الخرابَ كان ممنهجاً، وكان يحظَى بغطاءٍ رسمي حكومي من أعلى رأس هرم السلطة قبل ثورة الحادي والعشرين من سبتمبر/2014، وفي زمن تلك السلطة الفاسدة طُرحت مسألةُ الفساد، وشُكّلت لجانٌ لدراسة ومكافحة هذه الظاهرة المدمّـرة، ورغم ذلك لم يشاهد المواطنُ أَو يلمس إجراءاتٍ جدّيةً تحدُّ من مستويات هذه (اللّعنة) التي طالت كُـلَّ مؤسّسات ومرافق الدولة، ما قاد إلى شعورِ المواطن باليأس والإحباط، وباتت كُـلُّ الإجراءات المعلَنة محلَّ تندُّرٍ وَسُخرية من الشارع الذي فقد الأمل في أي تغيير في واقعه المُر، ولعلّ هذا كان أحد أسباب التشكيك من البعض رغم قناعتهم بوجوب إعادة النظر في العملية الوظيفية، من حَيثُ الشكل والمحتوى والقوانين واللوائح الضابطة والناظمة، ابتداءً من التعريف بالوظيفة، ومُرورًا بواجباتها وموقعها من المواطن وُصُـولاً إلى حقوقها، وهي عملية متكاملة لا يجب أن تقف عند حدود المفاهيم والمصطلحات، بل يجب أن تتعدّى إلى متابعة ومراقبة السلوك، والمحاسبة التي تمثّل ضرورة إلى جانب البعد الأخلاقي المُجَـرّد المطّاط والحامل لمفاسد التأويل التي تُعَدُّ ثغرةً في الجسم القانوني للوظيفة العامة يتسلّل منها المختصّون؛ لتجعلَ من القانون سيفاً مُسَلَّطاً على رقاب المستضعفين بدلاً عن أن يكون سيفاً ودرعاً لهم.
وإجمالاً فَـإنَّ المعترضين على هذه المدوّنة لا ينطلقون جميعاً من بواعث أَو دوافع واحدة، كذلك فَـإنَّهم تتعدّد أهدافهم وما وراء اعتراضهم.
ويمكننا أن نتحدَّثَ عن أكثرَ من فريق في هذا السياق:
- الفريق الأول: بقناعٍ ديني
وهو الذي ينطلِقُ من باعث ديني، وهو بهذا يلتقي من حَيثُ مرجعيته في الاعتراضِ مع أصحاب المدوّنة، ويسوّقُ الأدلّةَ من خلال هذه المرجعية (القرآنية والنبوية) التي يعتقد أنّها تتعارَضُ وتدحَضُ الغايةَ التي انطلقت منها المدوّنة.. فمثلاً: يرى هذا الفريق أنّ فرضَ هذه المدوّنة على الناس ولا سيَّما أصحابَ الوظائف الحكومية يتنافى مع حرية الاختيار التي منحتها النصوص (المقدَّسة) للناس لدرجة أنها قالت: “لا إكراهَ في الدين” وقالت: “وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ”، وقالت: “إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا”، وقالت: “أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ”… إلخ.
وقالوا: إنّ هذه المدوّنة (المفروضة) بحسب دعواهم، والتي يشترط على الموظف التوقيعَ عليها تنشئ مجتمعاً منافقاً، يُظهِرُ إيمَـانَه بهذه المدوَّنة؛ (خوفاً وطمعاً) ويجعلُه يتسلقها ويركَبُ موجتها بينما هو في باطنه يكفُرُ بها..
وبأنّها -أي هذه المدوّنة- تؤدي إلى إفساد الناس من خلال مراقبتهم والتجسُّس عليهم، ورفع التقارير فيهم، ممّا يفقد المجتمع ثقته في أبنائه ويزرع بينهم الشك وسوء الظن.
- الفريقُ الثاني: بذريعة الواقعية
وهو الفريقُ الذي يدَّعي الواقعية، وكيف أنّ ظروفَ معيشة الناس ولا سيّما في أجواء الحرب والحصار وعدم الرواتب وكلّها أسباب تضعف الالتزام بالقواعد والأخلاق الوظيفية وتفتح أبواباً واسعة وليس باباً للفساد والسقوط أمام الواقع الصعب، وأنّه في مثل هذه المناخات لا يمكن لمُجَـرّد الحديث عن النزاهة والاستقامة والعفّة، والقيام بواجبات الوظيفة أن توجد موظفاً يتسم / يتصف بهذه السمات والصفات، بل على العكس من ذلك تماماً..
فأنت لا يمكنك إزاء انعدامِ أسباب الحياة للموظف أن تأتيَ وتطلُبَ منه كُـلّ هذه المطالب، التي يراها هذا الفريق من المثاليات التي ليس لها نصيب من الواقع، وخَاصَّة في مجتمع تثقّف على الفساد وعلى استغلال المنصب الوظيفي على قاعدة “دبّر نفسك”.
- الفريقُ الثالثُ: خبرة فساد
وهو الفريقُ الذي مَرَدَ على الفساد، وأسَّس لذلك شبكات تشبه “الدولة العميقة”، ويتعامل مع الوظيفة والمال العام، والمواطن على أنّها شبكة صيده التي يثرى من خلالها ويكتسب المال الحرام، واستطاع أن يبني من خلال ذلك موقعاً اجتماعياً رفيعاً، وشبكة نفوذ تؤمّن له شبكة أمان وحماية، وغطاء بحيث لا تصل إليه يد القانون المغلولة.
وهذا الفريقُ متوافَرٌ وبكثرة، واستطاع أن يُنشئ (إمبراطوريةً) ماليةً واجتماعية على صعيد الوظيفة العامة والتركيبة القبلية، وكان العهد البائد يشجّع على هذا النوع من الفساد، ويبحث عن أفراد وهيئات يمدّها بأسباب السلطة مقابل ضمان ولائها وتشجيعها وصمتها عن فساده.
- الفريقُ الرابعُ: باعضٌ للدين
وهو الفريقُ الذي عنده مشكلة مع الدين ذاته، ويرى أنّ الدين يجب أن يظل معزولاً بين جدران المساجد، وأنّه لا علاقة له بالدولة ولا بالسياسة ولا بالإدارة… إلخ.
وهذا الفريقُ يتخذُ من تجربة (الحركة والدعوة الوهَّـابية) ومن (حركة الإخوان المسلمين) مثالاً يحتجُّ به، حَيثُ إنّ تجربةَ هاتين الحركتين لا تشجِّعُ على الدخول في تجربة جديدة، وحيث من الخطأ تجريب المجرّب، فَـإِنَّ تبنّي (السلطة الثورية) في اليمن لهذه المدوّنة تعيد للأذهان تلك التجارب الفاشلة..
وهذا الفريق أكثر انتشاراً في أوساط العلمانيين، والأحزاب اليسارية والقومية التي عُرفت بمواقفها السلبية من الدين وصلت إلى حَــدّ محاربته بعناوين محاربة التطرّف والغلوّ… إلخ.
وهي في حقيقة الأمر تتخذ من هذه الحركات الفاشلة رأس حربة للاعتراض على كُـلّ أشكال التديّن.
- الفريقُ الخامس: برداء مذهبي
وهو الفريقُ (المذهبيُّ) الذي يروّج بأنّ هذه المدوّنة ستأخُذُ المجتمع في اتّجاه واحد وهو الاتّجاه الذي يمثله (أنصار الله) ومن معهم من قوى وهيئات سياسية واجتماعية، وهذا يتعارض مع نصوص الدستور اليمني الذي يتحدّث عن التعدّدية الحزبية والسياسية، ويعترف بوجود مذاهب متعدّدة كانت مثالاً للتعايش والاندماج طيلة قرون طويلة وقدّمت نموذجاً عجزت سائر المدارس المذهبية الإسلامية الأُخرى عن تقديمه.. وعليه فلا داعي لمثل هذه المدوّنة التي تضيّق على الناس واسعاً..
- الفريق السادس: أصحابُ الهُــوِيَّة الإيمَـانية
وهو الذي يضُمُّ السّوادَ الأعظمَ من الشعب (الأمّة)، وهم أصحابُ المصلحة في استعادة الهُــوِيَّة الإيمَـانية التي يجب أن تترجمُ في سلوك الأفراد والجماعات، وإلّا ستصبحُ من باب الترف الفكري والمتاجرة في الشعارات، ولقد عانت الجماهير طويلاً من أُولئك الفاسدين الذين أمسكوا بخناق السلطة والوظيفة العامة، بحيث صارت أشبه بالحكر عليهم وعلى أبنائهم، وجعلوا من بيت مال الأُمَّــة نهباً وغنيمةً لكل من داهنهم وأقرّهم وأعانهم على ظلمهم.
إنّ أكثريةَ الشعب تحلم باليوم الذي تسترد فيه كرامتها ودورها، وقد استطاعت المسيرة القرآنية بمرجعيتها الإيمَـانية وحتى الآن أن تبرهن على قدرتها وجدارتها في حمل الرسالة والأمانة، وهذا يستدعي مجموعةً من القيم والمبادئ السلوكية والأخلاقية الملزمة حتى لا تظل المسألة خياراً فردياً يمكن لصاحبه أن يتحلّل منه متى شاء، ويعمل به متى شاء، ويصبح الالتزام بهذه المدوّنة معياراً قابلاً للقياس والتقييم على الشفافية والنزاهة، واستحقاق تبوّء الموقع، وهذا المعيار ثابت ومتضمّن في المدوّنة التي ترقّي الجهات الرقابية لدرجة (الشهادة) “لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ” وهو الشيء الذي افتقرت له المؤسّسات، حَيثُ تركت للمزاجية والمحسوبية والشللية، وكلّها آفات عانى منها الجسم الوظيفي المترهل والفاشل، وقبل هذا وبعده فَـإِنَّ المسؤولية يجب ضبطها بمدوّنات سلوكية، وجانب رقابي يساعد على تقوى الله -سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى-، وتفعيل مبدأ الثواب والعقاب، والتفريق بين المحسن والمسيء، والملتزم المؤدي مسؤولياته على نحو صحيح، والمفرّط أَو الخائن في أداء مسؤولياته وأعماله كما ما ورد على لسان قائد الثورة السيد عبد الملك الحوثي (يحفظه الله) في مستهلّ المدوّنة.
ما يميِّزُ مدوّنة السلوك اليمنية عن غيرها:
لقد عمدت الكثيرُ من الحكومات في مختلف بلدان العالم على ترسيخِ وعي جَمْعي داخل مؤسّساتها، قائم على نظام محدّد وثابت يدير تفاعلات الأفراد في محيطهم العملي بطريقة تعرفهم على حقوقهم وواجباتهم وحرّياتهم، ومستويات صلاحياتهم الممنوحة، تضمّنت تشريعات قانونية، وقواعد سلوكية وأخلاقية ومهنية تنظّم العلاقة بينهم وبين نظام العمل من جهة، وبين المستفيد من خدماتهم من جهة أُخرى، وأطلقت على هذا النظام مُسمّى “مدوّنة السلوك الوظيفي”، وهي عبارة عن مجموعة من المبادئ والتشريعات والأعراف والتي جاءت في “مدوّنة السلوك اليمنية” (وهذا ما يميِّزُها) مستندة على قاعدتين:
الأولى: القاعدة الإلهية التي أنزلها الله سبحانه في سياق التشريع، وهذه تتواءَمُ مع فطرة الإنسان واستعداداته الإيمَـانية، وهي جزء منها.
الثانية: القاعدةُ البشريةُ التي قام بوضعها البشرُ من قوانين ولوائح تنظيمية مستفيدة من التجارب التي قامت بها المؤسّسات لتطويرها ونمائها ونجاحها.
وللحقيقة فَـإِنَّ اليمنَ عانى من غياب هاتين القاعدتين في عهود الحكم السابقة، وإن كانت موجودة فَـإِنَّها لم تكن تعني أكثر من كلمات في سطور يُحتفظ بها في الأدراج المحكمة الإغلاق.
هذه المدوّنة التي سمّاها الرئيس المشّاط “ميثاق شرف ملزم” تتكون من مجموعة من المبادئ والقيم والقواعد السلوكية والأخلاقية والمهنية تصحّح مفهوم الوظيفة العامة، واعتبارها عبادة يتقرّب بها إلى الله ومسؤولية وأمانة تجاه خدمة الناس والقيام على مصالحهم، وهذا في الأصل هو المفهوم الحقيقي للوظيفة العامة، وليس كما فهمها البعض ومارسها على نحو خاطئ من استغلال واستعلاء وتحايل وانتهازية صبغتها بسوداويتها وسمعتها السيئة في المجتمع.
إنّ مدوّنةَ السلوك الوظيفي يجب أن تكون قاعدةً صُلبةً لثورة إدارية، وسلوكية أخلاقية تنهي عهود البيروقراطية، واستغلال المواطن، وعرقلة الإجراءات، بحيث تليق هذه المدوّنة بيمن الإيمَـان والحكمة، وبثورة الحادي والعشرين من سبتمبر، وبالهُــوِيَّة الإيمَـانية التي تسعى هذه الثورة لاستعادتها وترسيخها في المجتمع على طريق بناء الدولة اليمنية الحديثة، وضمن بناء الإنسان، وتعزيز آليات الشفافية والنزاهة ومحاربة الفساد بكل أشكاله وعناوينه، ولكي نصل إلى هذه المحطة فَـإِنَّ هناك استحقاقات تخص هذه المدوّنة، لتصبح مرجعية ملزمة لبيئة الوظيفة العامة، وسواها، بما يعني ضرورة إيجاد الآليات الكفيلة بتعزيز الوعي بها، ورفع مستوى الالتزام بأحكامها، من خلال التثقيف، والممارسة، والقُدوة، والأهم هو كيف يصل خير هذه المدوّنة لعامّة الناس من المواطنين، بحيث يصبح المجتمع حارساً لها؛ باعتبَارها مصلحة أكيدة له، وليكون في نفس الوقت مراقباً شاهداً على تطبيقاتها في واقع مؤسّسات وإدارات الحكومة، ومن هنا جعلت المدوّنة نسبة رضى المواطنين وارتياحهم من الأداء العملي لوحدات الخدمة العامة على رأس مؤشرات قياس نجاح الموظف.
الاستجابة للتحدّي:
لقد راهن العدوانُ على انشغال القيادة الثورية والسياسية بالحرب المفروضة على اليمن؛ باعتبَار مواجهةِ العدوان أولى الأولويات والضرورات، كما راهن على أنّ إطالة أمد الحرب سيحدث انهياراً في بنية مؤسّسات الدولة سيّما مع شبه انقطاع للرواتب ممّا يؤدي إلى فوضى وتسيّب بل وفساد في سلوك الموظف العام، وضعف في تطبيق مبدأ الثواب والعقاب نظراً لهذا الوضع الغير سوي، ولدعوات البعض مراعاة ظروف الموظفين، ومع هذا فَـإِنَّ اليمن وعلى قاعدة الشعار الذي رفعه الشهيد الصمّاد (رحمه الله): “يدٌ تحمي ويدٌ تبني” نهض بما يقارب الإعجاز، واستجاب لكل التحديات، وها هو يمضي قُدُماً على طريق إعادة البناء، وتبوّءَ المكانَ اللائقَ بهُــوِيَّته الإيمَـانية، وبتدشينه لمدوَّنة السلوك الوظيفي يُعيدُ الاعتبارَ لدستور الجمهورية اليمنية، حَيثُ جعله على رأسِ مرجعيات هذه المدوّنة، إلى جانب وثيقة الرؤية الوطنية لبناء الدولة اليمنية، وبهذا يكون قد أكمل الإطار النظري والمفاهيمي لبناء دولة يسودها العدل، والرحمة، والإحسان والوَلَاء لله ولرسوله وللمؤمنين، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، والاتقان، والإنصاف، والكرامة، والعمل الصالح..
{وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} التوبة:105
* رئيسُ جمعية الصداقة الفلسطينية – الإيرانية