الشـهادةُ والشـهيـد.. سبيـلٌ مستقيمٌ وعـروجٌ مقدَّس
المسيرة| هنادي محمَّد
الصّـراع واقع واستمراريتُه حقيقةٌ حتميـةٌ
الصِّراع كواقعٍ قائم في الحياة البشرية التي منذ أن وجد بني آدم وهو مُستمرّ لم يتوقّف عند مرحلةٍ معينة أَو أُمَّـة من الأمم، فالخير والشّر، الحقُّ والباطل، طريقان لا نهاية لهما ولذلك كانت الدّنيا هي دارُ الابتلاء والامتحان والعمل للوصول إلى المقام والمستقر النهائي وهو الدار الآخرة التي سيقرّر فيها مصير الإنسان إما إلى الجنّة أَو النّار -والعياذُ بالله-، حَيثُ لا صراع بعدها ولا مجال لأي تصحيح للمواقف؛ باعتبَارها موضعٌ للحساب والمساءلة والجزاء، ووجود الإنسان في هذه الأرض لم يكن عبثًا بل كخليفة لله أنيطت به الكثير من المسؤوليات والواجبات التي وجهه الله بها في كتابه الكريم الذي جعله دستورًا له في الحياة، يسير عليه ويلتزم بكل ما جاء فيه.
سبيلُ الله وسبيلُ الشيطان طريقان لا ثالث لهما
وبما أن هناك صراعًا قائمًا، فبالتأكيد أن لهذا الصراع أسبابه، وَإذَا ما عدنا إلى بداية الوجود البشري لنستذكر ما حدث بين هابيل وقابيل لعلمنا أن سبب صراعهما كان الحسد، وفي الوقت الحالي نجد أن لأرباب الشر أسبابهم في خلق الصراعات والحروب، من تلك الأسباب وفي مقدمتها: الاستكبار، السعي للسيطرة، الإفساد في الأرض والإضلال، في المقابل: لأهل الحق قضيةٍ يحملونها، وأسبابٍ مِن أجلِها يتحَرّكون في دفع الشر وصد تحَرّكات الأعداء، في مقدمتها: الاستجابة لله -جلّ شأنه- الذي أمرنا بالكثير من الآيات البينات بالجهاد ومقارعة الظالمين ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأموالكُمْ وَأنفسكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَـمُونَ﴾ من سورة التوبة- آية (41).
ولكلا الطرفين عنوانٌ يتبنى حركته، فالعنوان الذي وضعه الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين هو: “سبيل الله” ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَـمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ من سورة البقرة- آية (244)، ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْـمُعْتَدِينَ﴾ من سورة البقرة- آية (190).
عنوانٌ وطريقٌ واحد لا ثاني له، نظّم لسالكيه تحَرّكهم وضبطه بقيم ومبادئ إيمَــانية مُثلى، وأوضح نتائجه وثماره العاجلة والآجلة بقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيم، تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأموالكُمْ وَأنفسكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَـمُونَ، يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَأُخرى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْـمُؤْمِنِينَ﴾ “من سورة الصف”.
أمّا عن طريق أرباب الباطل والشّر هو “الشيطان” لقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أولياء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾ من سورة النساء- آية (76).
الشيطان بكل ما يحمله من مشاعر الحقد والغضب والعداء لبني آدم، وبكل ما أوتي من جهد على أن يبقى على وعده بإضلال عباد الله، يتحَرّك أولياؤه تحت ظلّه المظلم وأهدافه الجهنمية.
سبيل الله “شهادة وحياة”، وَسبيل الشيطان “قتل موت”
ولأنه -وكحقيقةٍ لا مناص منها- أن الصراع بنوعه العسكري ينتج عنه مواجهة مباشرة وبالتالي سقوط قتلى، فمن منطلق رحمة الله الواسعة بعباده المستجيبين له، العاملين بتوجيهاته، وفي طريق الجهاد في سبيله فتح لهم مجالًا لاستثمار موتهم وأوجد فارقًا بينهم وبين القتلى الذين يسقطون وهم يقاتلون في سبيل الشيطان وأوليائه، وهو “الشَّهادةُ في سبيلِ الله”.
مفهومُ الشَّهـادة في سبيلِ الله
وتعرّف الشَّهادةُ في سبيلِ الله بالمفهوم القرآني بأنها: أسمى أنواع التضحية التي ترسخ كُـلّ معاني الحق والعدل وقيمهما، وهي الترجمة الحقيقية لمبدأ الصدق مع الله بعيدًا عن زخرف القول باللسان، بل اقتران القول بالفعل وقفزًا إلى الواقع العملي، لقوله تعالى: ﴿مِنَ الْـمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ من سورة الأحزاب- آية (23).
ثقافة الشهادة في سبيل الله
الشهيدُ حينما انطلق مستجيبًا لله -جلّ شأنه- لم ينطلق بحثًا عن الشهادة في سبيلِ الله ليظفر بالنّصر الشّخصي فقط، بل إنّ انطلاقته كانت مبنيةً على إيمَــان واعٍ بأهميّة تحَرّكه ونتيجته وإدراكه لخطورة القعود والتخاذل لا سِـيَّـما في مرحلة تشهد فيها الأُمَّــة بشكلٍ عام، وشعبنا اليمني بشكلٍ خاص عدوان ومؤامرات كبيرة جِـدًّا تهدف إلى تركيع الشعوب وسلبها حريتها.
فثقافة الشهادة في سبيلِ الله هي الحل الأمثل للتحرّر من جميع المخاوف التي تقيد الشعوب والأمم عن الجهاد ومواجهة العدوّ، وأولى تلك المخاوف: “الموت”، فالشهادة هي البوابة الوحيدة للحصول على الحياة الأبدية لمن يخافون الموت؛ باعتبَار الموت فاصلاً قصيراً جِـدًّا ما بين الحياتين، أشبه ما يكون بالفاصل الإعلاني، وأكّـد سبحانه وتعالى هذه الحقيقة الثابتة في محكم كتابه الكريم بقوله: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ من سورة آل عمران- آية (169)، أي لا يجب أن نفكر مُجَـرّد تفكير في أن الشهادة تعني الموت أبدًا.
في ذات السياق يقول الشهيد القائد -رضوان الله عليه-: “من يهربون من الموت في الدنيا، هم من يموتون حقيقة، هم من يضيعون في التربة حقيقة، أما الشهداء فَـإنَّهم لا يموتون، أَوَليس كذلك؟، فكل من يخاف من الموت هو الخاسر، هو الذي يريد أن يموت، هو من سيكون موته لا قيمة له، إذَا كنت تكرهُ الموتَ فحاول أن تجاهِدَ في سبيل الله، وأن تقتل شهيداً في سبيله” معرفة الله – الخامس عشر.
من ثمار هذه الثقافة أنها تأتي بمثابة حصانة منيعة تشكل حاجزًا صلبًا بين الأُمَّــة وعدوها، فهي لمن تحملها عزة وكرامة ورفعة، وتزرع في قلب عدوها الذعر والخوف والذل وتجعله عاجزاً عن المواجهة؛ لأَنَّه رأى أمامه أُمَّـةً مستعدةً للتضحية، ثابتة الموقف، شرسة في أرض المعركة، لا تلين ولا تستكين أمام أية وسيلة ترهيب أَو تستميل لترغيب.
الشَّهـادة في سبيلِ الله اصطفاء واختيار إلهي وليست حظاً خاطفاً
ما يجب أن يدركه جميع المؤمنين أن طريق الجهاد في سبيل الله طريقًا مقدّسًا بقداسة التوجيه ومصدره -جلّ شأنه- وأن الحصول على شرف ووسام الشهادة ليس مُجَـرّد تواجدك في الميدان جسديًّا، ولو عدنا لتقييم واستذكار حياة الشهداء لوجدنا في جميعهم منظومة متكاملة من الإيمَــان والوعي ومكارم الأخلاق، ولو عرضنا صورهم على مخيلتنا لوجدنا أن في ملامحهم ارتسمت البشارة والسرور بما هم عليه في واقع تحَرّكه في الميدان؛ لأَنَّهم استحلوا واستلذوا مرارة وصعوبات ومعاناة الجهاد كواقعٍ لا بد منه فأذاقهم الله حلاوة الشهادة واختارهم ليكونوا في ذلك المقام، وما يؤكّـد حقيقة أن الشهادة اختيار إلهي دقيق لا ينالهُ إلّا ذو حظٍ عظيم، قوله تعالى: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأيّام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَـمَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِـمِينَ﴾ من سورة آل عمران- آية (140)، قوله تعالى هنا:﴿ يتخذ ﴾ بمعنى يختار من هؤلاء المؤمنين بما يعلمه هو من صدق إيمَــانهم.
بمعنى أن الشهادة لا يجب أن تكون حلمًا تريد أن تنالهُ وأنت ما زلت في نفسك وواقعك ممتلئ بالقصور والتقصير والتباطؤ وَ… إلخ، فمقامها يستحق منك أن تتعب لتصل إليها.
الكرامةُ الإلهية للشَّهيـد
تتلخص كرامة وتكريم الله للشهيد بعد فوزه بالجائزة الرّبانية “الشَّهـادة في سبيلِ الله” في الآيات الكريمات:
﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَـمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْـمُؤْمِنِينَ﴾ من سورة آل عمران.
فالشهيد ينتقل بعد استشهاده إلى حياةٍ أُخرى لا تقارن بالحياة التي كان يعيشها، حياةٍ استحقت منه أن يضحي لنيلها، فهو هناك ﴿عند ربهم﴾: حيٌّ يُرزق، فرحٌ مستبشر، لا خوفٌ عليه ولا حَزن.
الشهـادة فوزٌ عظيـم وربحٌ لا خسارة فيه
يؤكّـد الشهيد القائد -رضوان الله عليه- بأن دين الله لا يوجد فيه أية خسارة وكلّه ربح، ومن تلك الأرباح من يحظون بالشهادة في سبيل الله: “إن الحماقة هي هذه، وهذه هي الخسارة: أن يتهرب الإنسان عن الربح العظيم في الدنيا وفي الآخرة، يتهرب عن الحياة، أليس الشهيد حياً؟ أنت تتهرب عن الحياة خوفاً من الموت، وهذا من أغرب الأشياء، أنا أخاف من الموت فلا يدري الإنسان وَإذَا به قد وقع في الموت الحقيقي، الغيبوبة المطلقة إلى يوم الدين، أما الشهيد فهي لحظة، قد تكون لحظة ربما قد لا تكون إلا دقائق معدودة، وقد لا يكون فعلاً هناك فاصل، فهو حي، وحياة يراها أفضل من الحياة التي كان فيها، حينئذ إذَا تأملنا كُـلّ شيء وعلى أَسَاس أن دين الله كله ربح، هو ليس فيه خسارة في أي مجالٍ من المجالات”. معرفة الله – الخامس عشر.
رسالةٌ للمـرأة على لسان الشهيد القائد في ذكـرى العظماء
“المرأة تقع عليها مسئولية كبرى جِـدًّا، وهي زوجة، وهي أم، وهي قريبة من هذا الطفل تربيه، وهي قريبة من هذا الرجل تؤيده وتدفع به وَتصبِّره وتشجِّعه، لقد بلغ الأمر بالنساء الإيرانيات أن أصبحن يفتخرن، تفتخر إحداهن بأنها أصبحت أم أربعة شهداء، وأُخرى تفتخر بأنها أصبحت أم ثلاثة شهداء، وهكذا أصبحن يتفاخرن بأنهن أُمهات شهداء، وزوجات شهداء، مثل هذه الزوجة وهي في بيتها هي من سيكون لها ذلك الموقع العظيم إذَا ما لحقت زوجها بإيمَــان وصلاح، وتقوى، أن تحظى بالقرب منه في درجته كشهيدٍ مجاهد، وهي درجة عالية: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً} (النساء: من الآية٩٦) فهي في بيتها تحظى بهذه المكانة” آيات من سورة المائدة – الدرس الرابع.