فرضياتٌ لمعارك البحار والمحيطات المقبلة (الحلقة الرابعة)
المسيرة _ عباس الزيدي*
هناك عوامل عديدة جعلت من منطقة الخليج ذا أهميّة قصوى، فإلى جانب النفط يأتي الموقع الاستراتيجي بالدرجة الأولى (التاريخ مع الجغرافيا) سواءً في حركة النقل والتجارة أَو اتصال الشرق مع الغرب مما أكسبه أهميّة وقيمة عليا جيو سياسية وجيو استراتيجية؛ باعتباره أحدَ العناصر الرئيسة في التوازن الاستراتيجي الدولي وبالتالي توظيف ذلك في نطاق الاستراتيجيات الكلية الشاملة للقوى الدولية الكبرى، وصراعات القوى الإقليمية للسيطرة عليه.
ولعبت هذه الاعتبارات دوراً كَبيراً في تحديد العلاقات ما بين دول الإقليم تارة وما بينها وبين الدول خارج نطاق الإقليم تارةً أُخرى، وفقاً لأهدافها ومصالحها ومشاريعها بمعنى أن كُـلّ السياسات هي انعكاس لمتطلبات واقع جغرافي وسياسي واقتصادي (المكان والزمان) معين يفرض على أطراف هذه العلاقة طبيعة السلوك السياسي المتبع في علاقاتها مع الأطراف الأُخرى، سواءً على الصعيد الإقليمي أَو الدولي تتقاطع أَو تتفق تلك السياسات، كُلٌّ بحسب مصالحه ومشاريعه فتبدوا على شكل تحالفات أَو معاهدات.
وبقدر ما للطرق والممرات البحرية من أهميّة تكون هناك أهميّة وتركيز على المضائق التي تقع في عقد مفصلية حساسة تربط البحار بالخلجان، أَو البحار مع البحار، أَو تلك التي لها إطلالة على المحيطات.
ومن أهم المضائق في المنطقة والعالم هما مضيق هرمز ومضيق باب المندب..
أولاً: مضيق هرمز
هو من أهم عشرة مضائق وأكثرها اهتماماً من قِبل دول العالم الذي يحتوي على 120 مضيقاً، ويضمّ المضيق عدداً من الجزر ويبلغ عرضه 50 كم (34 كم عند أضيق نقطة) وعمقه 60م فقط، ويبلغ عرض ممرّي الدخول والخروج فيه ميلين بحريّين (أي 10.5كم).
ويقع “المضيق” في منطقة الخليج فاصلاً ما بين مياه الخليج من جهة ومياه خليج عمان وبحر العرب والمحيط الهندي من جهةٍ أُخرى، وتطل عليه من الشمال إيران ومن الجنوب سلطنة عمان.
ويعتبر المنفذ البحري الوحيد لعدة دول وهي (العراق –الكويت -البحرين- قطر-الإمارات العربية).
ويضم المضيق عدداً من الجزر غير المهولة، كما يعتبر أهم ممر عالمي للنفط، حَيثُ يعبره ما بين عشرين وثلاثين ناقلة نفط يوميًّا وهو ما يشكل 40 % من تجارة النفط العالمية ولا يقتصر الأمر على النفط فقط بل يشمل جميع واردات تلك الدول وَأَيْـضاً المصدرة لتلك السلع.
والمضيق يفصل بين إيران وسلطنة عُمان، ويربط الخليجَ بخليج عُمان وبحر العرب.
ويعتبر في نظر القانون الدولي جزءاً من أعالي البحار، ولكل السفن الحق والحرية في المرور فيه ما دام لا يضر بسلامة الدول الساحلية أَو يمس نظامها أَو أمنها.
وتخضع الملاحة فيه بالتالي لنظام الترانزيت الذي لا يفرض شروطاً على السفن طالما أن مرورها يكون سريعاً ولا يشكل تهديداً للدول الواقعة عليه.
مسألة مصير وجودي
وشهد المضيق حوادث جمة وخطيرة عبر التاريخ، وفي عصرنا الراهن منها جريمة إسقاط طائرة الركاب المدنية الإيرانية من قبل أمريكا التي راح ضحيتها أكثر من 250 ضحية، وَأَيْـضاً شهد إبان الحرب التي فرضها نظام صدام المدعومة أمريكياً وخليجياً على الجمهورية الإسلامية الإيرانية شهد حرب الناقلات وهناك حوادث أُخرى.
ومضيق هرمز سلاح خطير إذَا ما تم استخدامه وأن الضرر يقع على جميع دول المنطقة ودول العالم على مستوى الطاقة والحركة التجارية (الصادرات والواردات)، وقد حاولت أمريكا في مناسباتٍ كثيرة فرض هيمنتها وسيطرتها على المضيق وحرمان إيران وإخراجها من المعادلة تحت ذرائع شتى منها حماية حرية الملاحة وحركة الناقلات علما أن أساطيلها الحربية تمخر عباب الخليج لأغراض التجسس والعدوان وهي من تعيق حركة الملاحة وقد شهد الخليج حوادث تصادم وقرصنة من قبلها.
وهناك أكثر من مسؤول أمريكي رفيع المستوى صرح بالاستيلاء على مضيق هرمز من ريغان إلى ترامب وفي تصريحٍ أخير لرئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية الجنرال جوزيف دانفورد أن بلاده ستشكل تحالفاً عسكريًّا لحماية الملاحة في مضيقي هرمز وباب المندب وهذا يكشف عن حجم الأطماع والعدوان على جمهورية إيران الإسلامية.
ويمكن القول: إن حدوث أي نزاع عسكري أَو عدوان على إيران سوف يتسبب بأزمة طاقة حادة وخطيرة، بالإضافة إلى ما يشهده العالَمُ الآن من أزماتٍ حادة في ظل الحرب في أوكرانيا وتوقف الغاز الروسي إلى أُورُوبا كذلك ينعكس الأمر على مستوى التبادل التجاري والاقتصاد العالمي.
وفي ظل هذه الظروف لا يمكن تكرار سيناريوهات سابقة مثل حرب الناقلات وسوف يعمد إلى إغلاق المضيق التام في حال حدوث طارئ؛ لأَنَّها مسألة مصير وجودي.
ويعتبر مضيق هرمز أحد أهم الأسلحة الدفاعية وَالردعية لجمهورية إيران ولولاه –المضيق- مع عوامل وأسباب أُخرى لما تأخر الاستكبار والصهيونية العالمية بقيادة أمريكا على ارتكاب حماقة وعدوان مباشر على الجمهورية الإسلامية في إيران، علماً وفي ظل ما يعيشه العالم من مقدمات لحربٍ عالمية ثالثة، ربما تقدم أمريكا وحلفائها على عمل عدواني على إيران يقع ضمن حسابات تأمين النفط والغاز كخطوةٍ استباقية قبل المواجهة المباشرة مع الصين وروسيا.
إن ما تواجهه إيران الإسلامية من حرب مركبة ربما يكون مقدمة واضحة لعدوانٍ مباشر يلوح في الأفق.
إن مضيق هرمز ذو أهميّة استراتيجية في الحرب والسلم، ومهما فكرت دول المنطقة بإيجاد بديل ووسائل أُخرى عن ذلك المضيق فَـإنَّها لم تحقّق الإنجاز والنتائج الذي تحقّقها من خلال ذلك المضيق، ولا يمكن بأي شكلٍ من الأشكال أن تتم عملية تامين المضيق وحركة الملاحة فيه من دول أَو تكتلات خارج الإقليم والمنطقة، بل ذلك يزيد الأمر سوءاً وخطراً، وإن تفاهم وَتعاون بلدان المنطقة هو السبيل الوحيد لتأمين حركة الملاحة وعموم مياه المنطقة بما فيها مضيق هرمز.
ثانياً: مضيق باب المندب
يقع في جنوب شرق الجزيرة قبالة أفريقيا ويبلغ عرض مضيق باب المندب 32 كيلومتراً وهو الممر الذي يربط البحر الأحمر بخليج عدن والمحيط الهندي وَالممر الرئيسي للحركة البحرية بين البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي عبر قناة السويس ويحيط به كُـلٌّ من اليمن وجيبوتي وأرتيريا.
ويسمى باب الاقتصاد العالمي مثلما يسمى مضيق هرمز بمضيق الطاقة، وهو الشريان الأقرب والمختصر الذي يربط الشرق مع الغرب مقارنة بالطريق السابق المتمثل بالرجاء الصالح عبر أفريقيا للوصول إلى أُورُوبا عبر قناة السويس والمتوسط فهو يختصر المسافة والوقت والكلفة بمقدار ثلاثة أضعاف، وبذلك يربط التجارة بين أُورُوبا وشرق أفريقيا وبلدان المحيط الهندي بما فيها غرب آسيا.
وتقسمه جزيرة بريم، التي توجد في شرقه ومساحتها 2كم إلى قناتين الأولى وهي القناة الشرقية وتعرف باسم “باب إسكندر” وعرضها ثلاثة كيلومترات وعمقها 30 متراً، والثانية هي القناة الغربية واسمها “دقة المايون” وعرضها نحو 25 كيلومتراً وعمقها 310 متراً.
لقد ضاعف النفط من أهميته، حَيثُ يمر عبره أكثر من 21 ألف قطعة بحرية سنوياً أي حوالي 57 قطعة بحرية يوميًّا وبالمقارنة بينه وبين مضيق هرمز حول كمية النفط والغاز المارة عبرهما فَـإنَّ مضيق هرمز يتفوق عليه بأضعاف مضاعفة.
ويتمتع المضيق بأهميّة عسكرية وأمنية كبيرة، وتزداد أهميته العسكرية والاقتصادية والسياسية يوماً بعد يوم لجميع دول العالم.
ولليمن أفضلية استراتيجية في السيطرة على الممر لامتلاكه جزيرة بريم، إلَّا أن القوى الكبرى وحليفاتها من القوى الإقليمية عملت على إقامة قواعد عسكرية قربه وحوله وذلك لأهميته العالمية في التجارة والنقل (راجع الحلقة الخَاصَّة بالقواعد والأساطيل ستجد حجم القوات والقواعد من جيبوتي إلى أرتيريا والصومال وعلى طول البحر الأحمر)، كما سعت الأمم المتحدة في عام 1982م لتنظيم موضوع الممرات المائية الدولية ودخلت اتّفاقيتها المعروفة “باتّفاقية جامايكا”.
وتبقى أهميّة باب المندب مرتبطة ببقاء كُـلّ من قناة السويس أولاً وممر هرمز ثانياً، مفتوحين للملاحة أمام ناقلات النفط وعند تهديد هذين الممرين أَو قناة السويس وحدها، تضطر السفن إلى تحويل طريقها إلى رأس الرجاء الصالح، وَأَيْـضاً أن إغلاق هرمز يعني إغلاق باب المندب وهو سبب آخر.
والأهميّة تكمن في معركة النفوذ على مضيق هرمز، حَيثُ تود الدول المجاورة بسط نفوذها على باب المندب كبديل، فإسرائيل لديها نفوذ في المندب بالتنسيق مع جيبوتي وأثيوبية، واليمن خسر بعض نفوذه؛ بسَببِ التدخل الأمريكي.. يذكر أن اليمن أغلقت المضيق على إسرائيل في حرب 1973م، إلَّا أنها قد لا تكون قادرة على غلقه أمامها مرةً أُخرى بل تؤثر عليه بطريقة أَو بأُخرى (لما يمتلكه أنصار الله من إمْكَانيات وقدرات عالية).
وعلى ضوء أهميّة المضيق الاستراتيجية الاقتصادية والعسكرية، سعت دول إقليمية ودولية إلى إنشاء قواعد عسكرية قرب المضيق؛ بهَدفِ التحكم بحركة المرور البحري، ومع تصاعد الأزمة في اليمن بدأ الحديث مجدّدًا عن أهميّة المضيق، لا سِـيَّـما بعد فشل تحالف الرياض للمرة الثانية من دخوله وَسيطرتهما عليه إلَّا عن طريق وكلائهم مما أثار مخاوف دوائر القرار الغربية، من تهديد محتمل للممر المائي يأتي كرد فعل على عملية احتلاله من قبل دول العدوان أَو على من ينوب عنهم من عملائهم وأدواتهم.
أهميّة المضيق دفعت مصر لمحاولة السيطرة عليه خلال حرب 1973م لمنع مرور السفن الإسرائيلية بالتعاون مع (عدن وصنعاء) وكانت لتلك الخطوة نتائج طيبة بينما حاولت إسرائيل في حقبة زمنية استثمار الجزر التابعة لمضيق باب المندب لغرض المساومات السياسية.
وسيكون باب المندب وأهل اليمن الأبطال حاضرين في قلب الأحداث ولديهم من القدرة والعزم والشجاعة على قلب المعادلات.
* كاتب عراقي – رفيق الشهيد أبو مهدي المهندس